Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سيرك فلسطين بلا حيوانات… الفن يدعم المجتمع

السيرك، الذي بدأ عام 2006 بستة مشاركين فقط، تحول وتطور من مدرسة محلية صغيرة إلى مؤسسة تؤدي عروضاً على نطاق واسع في فلسطين وخارجها

مرح النتشة عارضة ومدربة في مدرسة سيرك فلسطين (اندبندنت عربية)

ما إن أعلن الشاب الفلسطيني شادي زمرد، في العام 2005، حلمه الطفولي بتشكيل سيرك معاصر، حتى أصبح مدعاة لسخرية كثيرين، مع سؤالهم المتشائم "فلسطين بدها سيرك؟ أو ماذا سيفيدنا السيرك؟".

إلا أن آذاناً أوروبية مصغية، أخذت حلمه على محمل الجد ليصبح السيرك الذي تمناه زمرد حقيقةً في العام 2006.

زمرد، الذي أسس مدرسة سيرك فلسطين بعد رحلة عشق طويلة مع المسرح، قرر أن يمرر حبه للسيرك إلى رفاقه وأصدقائه. إذ عمل أفراد فريقه المكون من ستة فقط، بين العامين 2006 و2010، متطوعين بشكل تام، ينفقون وقتهم وجهدهم لتعلم فنون السيرك، وحصلوا بعد معاناة طويلة من التنقل بين المدن الفلسطينية، على بيت ثابت ومريح، تبرعت به عائلة فلسطينية من بلدة بيرزيت في الضفة الغربية، ليتحول، في ما بعد، إلى مقر رسمي لمدرسة سيرك فلسطين.

السيرك، الذي بدأ عام 2006 بستة مشاركين، تحول وتطور من مدرسة محلية صغيرة إلى مؤسسة تؤدي عروضاً على نطاق واسع في فلسطين وخارجها، وأصبحت تضم اليوم أكثر من 250 طالباً وطالبة يتعلمون ويحترفون فنون السيرك المعاصر، وباتت مدرسة سيرك فلسطين مكاناً لكل فلسطيني أياً كانت خلفيته الثقافية أو الدينية أو الحزبية لتشكيل هوية فلسطينية واحدة.

يشير محمد رباح، الذي تسلم دفة قيادة مدرسة سيرك فلسطين، بعد سفر المؤسس شادي زمرد، إلى أن "مدرسة سيرك فلسطين لم تزل بعد 12 عاماً على نشأتها تستخدم أساليب الفنون والثقافة في التنمية المجتمعية، وهي مؤسسة أهلية غير ربحية تحلم بدولة ينخرط فيها الفلسطينيون في حياة ثقافية وفنية نشطة تحتضن الإبداع والتعددية من خلال تدريب الأطفال والشباب الفلسطينيين على فنون السيرك وتطوير شكل جديد من أشكال الفن، سيطور الإمكانات الجسدية الإبداعية للفلسطينيين، من خلال تقديم عروض تسعى إلى غرس الأمل في المجتمع وتشجع على حرية التعبير ونشر الوعي دولياً ومحلياً في ما يتعلق بقضايا مجتمعية يواجهها الفلسطينيون يومياً بكل تحدٍ وإصرار".  

معظم المدربين والعارضين والموظفين في سيرك فلسطين حالياً، بدأوا مع مدرسة السيرك من الصفر، وهم يرفضون بشدة استخدام الحيوانات أو ضربها أو إجبارها على فعل شيء ما. فالسيرك المعاصر يختلف جداً عن السيرك التقليدي أو السيرك الروسي.

في البداية، كان الجميع يعتقدون أن سيرك فلسطين سيضم مهرجاً وكرات تطير في السماء ولهيب نار وحيوانات مثل الفيلة والنمور، "لكن السيرك الخاص بنا معاصر اجتماعي، يهدف إلى إعطاء المجتمع القيمَ من خلال تقنيات السيرك أو من خلال الألعاب كالقفز والحبل والهوائيات. هذا الفن، وإن لم يحمل في طياته كثيراً من الحركات المبهرة، مثل السيرك التقليدي، يحمل قصة واقعية"، وفق رباح.

برنامجان دراسيان تقدمهما مدرسة سيرك فلسطين داخل أروقتها. الأول أكاديمي تعليمي والآخر فني. وهما متشابكان، إذ يقومان على استخدام فنون السيرك الجماعية لتشكيل لوحة فنية معاصرة تطرح قضايا مجتمعية تتحدث عن الاستقصاء والفساد والتحيز وعدم المساواة وغياب الشفافية والديمقراطية والسلم والحرب والهدوء والغضب.

"يلا نلعب" هو المستوى الأول في السيرك، الذي يضم أطفالاً تراوح أعمارهم بين 7 و9 سنوات، ويركز على تعليمهم القيم الأخلاقية من خلال اللعب. والأطفال، في هذا المستوى، يكونون في مرحلة الإستكشاف والأسئلة الكثيرة. أما المستوى الثاني "قمر"، فيضم أطفالاً تراوح أعمارهم بين 9 و13 سنة، ويمنحهم حرية الاختيار ما سيلعبون في السيرك، وذلك عبر اكتشاف قدراتهم. أما المستوى الثالث، "شمس"، فهو لمن تجاوزوا الـ18 سنة من العمر، وصاروا يعرفون الفرق بين الترامبولين والجمباز والحبل والهوائيات، وهي مرحلة الاختيار الصحيح.

سيرك فلسطين، الذي رخص رسمياً من السلطة الفلسطينية عام 2009، يقدم سبعة فنون أدائية، تتنوع بين الهوائيات والجمباز والتوازن والأكرو لفتنج والرفع واللعب بالكرات. وهناك منح يقدمها السيرك للأطفال من ذوي الدخل المحدود، مساعدةً لدفعهم إلى الاستمرار في مدرسة السيرك.

تحديات مجتمعية

يشرح رباح، الذي درس استخدام أدوات الفنون والثقافة في التنمية المجتمعية، أن النظرة المجتمعية إلى المهن الفنية، خصوصاً في السيرك، متدنية جداً، فالجميع يريدون لأبنائهم أن يصبحوا أطباء ومهندسين ومديرين، لكن لا يريدون رؤيتهم فناني سيرك. فعلياً، "لا توجد سوق فلسطينية لاستيعاب لاعبي السيرك وتأمين دخل لهم. حتى إن ممثلي المسرح أو الرسامين في بلادنا لا يوجد سوق يوفر لهم فرص عمل ودخلاً جيداً، وهناك مصاعب اقتصادية مرتبطة بمعوقات مجتمعية لا تساعد على الدفع باتجاه اعتماد هذا الفن مهنةً".

ووفق رباح، فإن "غالبية المؤسسات الثقافية في فلسطين تعاني صعوبات كثيرة، فهناك اعتماد على التمويل الخارجي والأجنبي، وهناك مؤسسات أغلقت أبوابها لقلة التمويل. أعرف فنانين فلسطينيين وصلوا إلى الانتحار بسبب الاهانة التي تعرضوا إليها، من جراء عدم تحقيق مكانة كريمة من وراء اشتغالهم في الفن، الذي قاموا بدراسته أو احترافه".

طفلة عارضة ومدربة

بدأت مرح النتشة (25 عاماً) في سيرك فلسطين قبل 12 عاماً. لكن دخولها إلى السيرك لم يكن سهلاً، إذ رُفضت في البداية، لأن المكان كان ضيقاً وعدد المدربين قليلاً، ولم يكن السيرك قادراً على استيعاب أكثر من 20 طفلاً.

لكن النتشة، التي تعشق الجمباز، أصرت على المحاولة مرة أخرى ونجحت. تقول "دخلت السيرك عام 2007 هاويةً، ليس أكثر. ومع إصراري على التدرب في كل يوم جمعة، أصبح لدي بعض المهارات الخاصة بالسيرك، ومن ثم طرحوا عليّ المشاركة في عرض مسرحي هو الأول في المدرسة، واسمه "سيرك من خلف الجدار". فتحولت بفضل السيرك من فتاة منغلقة اجتماعياً إلى عارضة فنية. فالسيرك جعلني أستمع إلى قصص غيري وأرى عادات وتقاليد مختلفة. فعرض "سيرك من خلف الجدار"، الذي تجولنا به في أوروبا، كان يتحدث عن قصة القضية الفلسطينية ووجود جدار الفصل العنصري وكيف كانت الحياة قبل الاحتلال وكيف تحولت في ما بعد. لم أكن أدرك في الثالثة عشرة من عمري كم أن هذا العرض مهم حتى رأيت ردة فعل الأوروبيين على العرض. فإيصال رسالة بحركات جسدية من دون كلمات دفعت المتفرجين إلى البكاء والبحث أين هي فلسطين؟ حينذاك، شعرت بمسؤولية كبيرة جداً في تمثيل قضيتي".

أول مدربة في السيرك

تشير النتشة إلى أن "التواصل الجسدي بين العارضين دفع بكثير من المحيطين بي إلى النظر إليّ نظرة سوء والتجريح بشخصيتي في كثير من الأحيان. كيف تفتح قدميها أمام الجمهور؟ وكيف يمسك رجل خصرها أثناء العرض؟ أو لماذا يلمس جسدها؟ كل هذه الأسئلة جعلتني أتمسك بمدرسة السيرك. وفي كثير من الأحيان كان بعض الحاضرين يخرجون من المسرح لرفضهم رؤية فتاة ترقص بين الآخرين. لم أكن الوحيدة، ومن كن معي من الفتيات دافعن بشراسة عن فكرة السيرك والعروض المختلطة لنكون قدوة لغيرنا. فهذا فن والفن هو إيصال رسائل مؤثرة، خصوصاً إذا كانت تسعى إلى توعية المجتمع بأكمله. وفي كل مرة كنت أشعر بالضيق والحزن من تلك التعليقات الجارحة كنت أهرب إلى السيرك. فهنا تربيت وعشت معنى العائلة الحقيقية مع بقية زملائي. وما إن أنهيت الثانوية العامة عام 2015 حتى رغبت في إكمال دراستي الجامعية في الخارج والتخصص بفنون السيرك المعاصر، لكن الحظ لم يحالفني. فطلبت بعد ذلك أن أساعد في التدريب داخل المدرسة حتى وجدت نفسي وأنا لا أزال في الـ17 من عمري أول مدربة أنثى داخل مدرسة السيرك".

وتضيف النتشة، التي واجهت عائلتها المحافظة في مدينة الخليل، وأكملت عروضها في السيرك طوال السنوات الماضية، "ما نقوم به أعمق بكثير من التعليقات السطحية. في كل عرض نُعلّم القيم والأخلاق من قصص مجتمعية تعيش معنا يومياً، وما أقوم بتعزيزه لدى الأطفال هو الثقة بالفريق، هذه الثقة تعتبر أساس العمل الناجح، وأيضاً أعزز لديهم عدم الالتفات إلى القيود التي تمارسها العادات والتقاليد المجتمعية إلى الآن".

للأشخاص المعوقين حصة في سيرك فلسطين

بدأت رحلة استكشاف تدريب الحالات الخاصة داخل مدرسة سيرك فلسطين مع مركز جبل النجمة وجمعية النهضة النسائية في مدينة رام الله. إذ تم الاتفاق عام 2015 على أن يضم السيرك أطفالاً يعانون اعاقات ذهنية وليست جسدية. وتم اختبار الأطفال المعوقين من خلال التدريب، وكان هناك تفاعل كبير وايجابي. تقول النتشة "لا نجبرهم على أداء الحركات بنجاح، بل على التفاعل معنا في أدائها. وقد لمسنا التغيرات العاطفية والاجتماعية التي طرأت على حياتهم ومع المحيطين بهم جراء وجودهم في السيرك. ذهبنا إلى ورشات تدريبية مكثفة مع سيرك معاصر في ألمانيا مخصص لذوي الإعاقة فحسب، وتعلمنا هناك كيف نتعامل مع هذه الحالات، وكيف يمكن أن يُغيّر السيرك في حياتهم. واليوم لدينا في المدرسة 18 متدرباً من ذوي الاحتياجات الخاصة".

الصحافة والسياسة في خدمة السيرك

هزار عزة، التي دخلت السيرك بطريق المصادفة وهي في التاسعة من العمر، عادت بذاكرتها 12 عاماً لتخبر حكايتها مع السيرك. "مصادفة ذهبت مع والدي لاصطحاب أخي من مدرسة السيرك، وما إن دخلت المكان حتى سحرت بالأجواء والمكان وطبيعة التدريب. وبعد أسبوع بدأت معهم على الترابيز أو ما يعرف بالمرجيحة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اختارت عزة المرجيحة لأنها مميزة، ولم يكن عليها إقبال، ومن يبرعون فيها قلائل جداً. "في البداية شعرت بالخوف، فهي مرتفعة وخطيرة، ومع ذلك أصررت على تعلمها. أذكر نصيحة مدربي عندما قال لي: اشعري بالترابيز واجعليها جزءاً منك. وبالفعل مع التدريب بضع سنوات، أصبحت أشعر أن المرجيحة جزء من حركتي ومهارتي، وجزء من شخصيتي وقصتي وجسدي، وهي أساس في كل عرض".

عزة، التي تنقلت في طفولتها بين دورات الكراتيه والدبكة والبالية والموسيقى، لم تتوقع يوماً أن تتعلق بالمرجيحة إلى درجة أن السيرك أصبح أولوية في حياتها. كما أن دراستها الصحافة والإعلام والعلوم السياسة لم تشتت انتباهها يوماً. تقول عزة "لن أبحث عن وظيفة في الإعلام، بل أكملت دراستي من أجل الشهادة فقط، لكنني سأكرس قدر المستطاع كل ما تعلمته في الإعلام لخدمة السيرك وعروضه وقصصه حول العالم".

عرض وفق الطلب

مدرسة سيرك فلسطين، وفق مؤسسيها، لا تطمح إلى تغيير عقول المتفرجين وجعلها أكثر انفتاحاً، بل إلى تغيير الأفكار والصور النمطية الرتيبة عن أهمية السيرك. يقول رباح إن "القاعدة هي احترام عقول الناس وماذا يفكرون. هناك عروض مختلطة بين الجنسين في داخل السيرك، وهذا مرفوض بشكل قطعي في بعض المناطق في الضفة الغربية. لكن لكي لا نحرم أحداً من العروض بسبب العادات والتقاليد المحافظة نقدم عروضاً منفصلة للإناث والذكور. لكن هذا الفصل بين الجنسين أحد المعوقات الكبيرة التي نواجهها، لكن كمؤسسة فنية أفضل أن أدخل مع العقليات المحافظة جداً في حوار، وليس في نقاش حاد قد يؤدي إلى إلغاء العرض كلياً وحرمان مئات الأطفال من مشاهدته".

السيرك هنا ليبقى!

قدمت مدرسة السيرك منذ نشأتها عام 2006، وفق رباح، عروضاً اعتبرها كثيرون مثيرة للجدل. لكن اليوم هناك تغير ملحوظ في تلك النظرة، وأصبح الآن لاعبو الجمباز وقاذفو الكرات والمهرجون ولاعبو الهوائيات وفنانون آخرون يملكون الهدف نفسه، ألا وهو تطوير فنون السيرك في فلسطين واستخدامها في الوقت ذاته أداة لتعليم الأجيال الشابة قيم العمل الجماعي والثقة والمساواة والوحدة والتعددية، من خلال تعزيز هويتهم الفردية والوطنية.

واستطاعت مدرسة سيرك فلسطين خلال 12 عاماً تقديم 12 عرضاً، تجولت بها محلياً وعالمياً، بهدف نشر شكل جديد من أشكال الفنون الأدائية وتعريف العالم إلى وجه إبداعي جديد لفلسطين. فقدمت "سيرك من خلف الجدار" و"لوين" و"أحلام للبيع"، الذي عرض عام 2012 أكثر من 46 مرة في مختلف المناطق الفلسطينية. وآخر هذه الابداعات كان عرض "سراب"، الذي يتحدث عن قضية غرق اللاجئين السوريين الذين فروا من العذاب والحرمان.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات