قبل فترة وفي سياق مقال كتبه في إحدى صحف بلاده حول العلاقة بين الفن والكوارث بما فيها الأوبئة كما حول تجاوب الفنانين مع ما يحدث من حولهم في مثل هذه الظروف، تساءل ناقد فني بلجيكي عما كان من شأن الرسام جيمس إنسور (1860 – 1949) أن يضيف إلى فنه التشكيلي لو إنه كان حيّاً بيننا وعايش ما نعايشه من عزلة الكورونا ورعب وبائه وأراد أن يعبّر عنه. وكان جوابه في المقال نفسه: "لا شيء... أبداً ما كان من شأنه أن يضيف أي شيء هو الذي امتلأت رسومه بالأقنعة ورعب الإنسان من أخيه الإنسان والهياكل العظمية التي تزاحم البشر مكانهم في عالم الأحياء وتملأ طرقات وساحات عامة ربما كانت محظورة على البشر أنفسهم. لقد رسم إنسور معظم لوحاته وكأنه معاصر لنا"، واصل الناقد قائلاً ليضيف: "لكنه لم يكن يتنبأ بل يصوّر العالم كما تراءى له، ويركز على رؤى كان يرى أنها محيطة به، رؤى مجنونة مرتعبة ومرعبة. فإزاء هذا ما الذي كان يمكنه أن يضيفه حقاً؟" ختم الناقد تساؤله وإجابته عليه.
السوداوية الساخرة
والحقيقة أن استعراضاً لأي كتاب أو كاتالوغ يتضمن نسخاً عن القسم الأعظم من لوحات إنسور سيضعنا في مواجهة فن "كارثي" حقيقيّ. فن يبدو في كل لحظة وحين مغالياً في سوداويته مع فارق أساسي يكمن في تلك السخرية المدهشة التي تعامل بها إنسور مع مفهوم السوداوية هو الذي ما كان أبداً يسعى في لوحاته إلى أي وعظ أو إبلاغ رسالة لأحد. كل ما في الأمر أنه استخدم رؤاه الكابوسية للتعبير عما يراه "مسلّيا" في حياتنا ويستحق أن يسجّل!
في مثل هذا السياق قد يكون في وسعنا أن نتأمل واحدة من أضخم لوحات إنسور: لوحة "دخول المخلّص إلى بروكسل في عام 1889" التي رسمها بين العامين 1888 و1889 وكانت من ضخامة الحجم (أكثر من 450 سم عرضاً و252 ارتفاعاً) إلى درجة أنه هو نفسه لم يرها مكتملة لسنوات طويلة بل ظلت حتى أسيرة المستودع الضيق التي رسمها فيه نحو أربعين عاماً قبل أن يُقيّض لها أن تُخرج من مكانها وتعرض للمرة الأولى عام 1929، فتمكن الرسام من مشاهدتها بأكملها وأدهشه كما قال كم أنه كان صادقاً فيها في تعبيره عن وضعية بيئته حين رسمها! وحينها عندما سُئل عمّا أراد أن يصوّر فيها قال: "من المؤكد أنني صورت كيف يموج ويهوج الناس الصغار البسطاء بأقسى ما تفعل أمواج البحر الهادر... لقد عبّرت عنهم بلغة مريرة ورؤية حادة وسخرية لا شك أنهم يتبنونها من دون تردد".
... وأيّ استقبال!
بالتأكيد لدينا في اللوحة كلّ تلك العناصر التي اعتادت أن تشكّل العناصر المتواترة في رسوم إنسور من الأقنعة إلى الحشود الواهية التي لا تدري هي ولا يدري أحد ماذا تفعل هنا. ولئن تصوّر أحد أنها اجتمعت لاستقبال المخلّص (السيّد المسيح) في زيارته المفترضة لبروكسل أواخر القرن التاسع عشر سيكون من السهل على أي كان أن يتنبه إلى أن الحشود لا تبدو مبالية بالزائر الكبير بل ولا يبدو أنه هو بدوره مبال بها ولا بأقنعتها ولا بوجوهها الشاحبة ولا بالتأكيد بالرعب الماثل على وجوهها وأقل من ذلك طبعا بالهياكل العظمية أو بالجماجم المنتشرة. ويبدو في هذا السياق محقاً الشاعر والكاتب البلجيكي المعاصر لإنسور إميل فرهارن، الذي كتب عن اللوحة يقول: "إننا لنرى هنا المخلّص وقد وُضع بشكل فظيع وسط سجالاتنا اليومية التافهة. وها هو منتصب يتأمل مطالبنا السياسية والاجتماعية الصاخبة الهائجة كما قد يفعل أي مندوب بلدي عادي أو نائب في البرلمان في يوم تصاعدت فيه حدة التظاهرات المطلبية...".
والحقيقة أن إنسور عرف من ناحية أخرى، كيف يشتغل على موضوعه هنا بتجديد تلويني لم يكن مألوفاً لديه في ذلك الحين وكأنه أراد أن يشدد من حدة سخريته من المشهد كله ويجمع هنا، في لغة كرنفالية صاخبة وزاهية، معظم الشخوص الذين كانوا ملأوا لوحاته السابقة ويستعدّون من جديد للانتقال إلى لوحاته التالية... والتي تعتبر من اللوحات الأكثر تعبيراً عن الحس البلجيكي الذي نراه في مختلف فنون هذا البلد ماثلاً صاخباً عدائياً غامضاً غاضباً ويتّسم بذكاء في الأداء مدهش.
البلجيكيون المدهشون
إن من أروع ما في الحس الإبداعي البلجيكي قدرة أصحابه الهائلة على إبداء التعبير الساخر، وولوج عالمي الغرابة والحلم في الوقت نفسه، مع إصرار دائم على الحضور الطاغي لـ «الأنا» سواء كان ذلك في مجال السخرية التي تنقلب إلى سخرية من الذات، أم في مجال ولوج عالم الحلم حيث تشكل أحلام المبدع وهواجسه موضوع إبداعه الأساسي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل إنسور يكفينا كمثال حي على ما نذهب إليه، فهو، في حياته كما في موته، في إبداعه الفني كما في تقلبات علاقته بالعالم المحيط به، مثّل على الدوام تلك الذهنية البلجيكية التي يمكننا أن نرصدها في مجالات شديدة التنوع من أغنيات جاك بريل إلى فن بول دلفو، ومن روايات وأشعار بيار مارتنس إلى أفلام أندريه دلفو، وغيرها.
ومع هذا كله من المعروف أن إنسور حاول، طوال النصف الأول من حياته ومساره الفني، على الأقل، أن يعيش منعزلاً على الهامش، في مدينته البحرية أوستاند التي ندر أن بارحها.
مهما يكن، إذا كان نقاد الفن ومؤرخوه قد اعتبروا فن إنسور فناً ينتمي إلى التيار التعبيري لما قبل - النازية، وعاملوه على هذا الأساس، فإن صاحب العلاقة نفسه كان يقول إن فنه فن خاص وشديد البلجيكية حتى لو كان بالإمكان رصد ملامح تعبيرية فيه. وهو، على سبيل التأكيد على نظرته هذه، سرعان ما انفصل عن حلقات التعبيريين بعد فترة إغواء قصيرة ليعود إلى منتجعه وحيداً ساخراً من كل شيء.
إذن، إلى هذه الدرجة كان جيمس إنسور متفرداً وعلى حدة، وكان بلجيكياً ومع هذا لم يكن صاحبنا بلجيكياً إلا من ناحية أمه، لأن أباه من أصل بريطاني، وكان الوالدان، حين ولد جيمس إنسور يملكان محلاً لبيع اللعب في أوستاند. أما الفتى فإنه بعد سنوات فضول ومتعة أمضاها بين اللعب والطرائف التي تملأ حانوت والديه دخل في عام 1877، وكان في السابعة عشرة من عمره، أكاديمية الفنون الجميلة في بروكسل، حيث درس ثلاث سنوات مبدياً مواهب فنية مذهلة تجلت بخاصة في أولى اللوحات التي رسمها مثل "المرأة ذات الأنف الأفطس" وغيرها. ومنذ تلك اللوحات وطوال السبعين سنة التي عاشها بعد ذلك لم يكف إنسور عن رسم لوحات غريبة وقاسية، تملأها أقنعة الموت وصور الشياطين والملائكة والحفلات التنكرية وضروب المذابح، وكل ذاك على قاعدة أداء ساخر، كان غالباً ما يقود الرسام إلى إعارة ملامحه للشياطين أو للمهرجين أو للموتى ذوي الأقنعة.
لم يحالف النجاح جيمس إنسور بما يكفي أول الأمر، لكنه سرعان ما بدأ يعرف على نطاق واسع ابتداء من العشرية الأخيرة من القرن التاسع عشر. حتى وإن كانت شهرته قد استقرت بعد ذلك بالمعنى السلبي، وعاش وحيداً ومنعزلاً طوال أكثر من خمسين عاماً، عرف خلالها ضروب اليأس والتقلب كافة، إلى درجة جعلته ذات مرة، في لحظة يأس، يحاول أن يبيع محترفه بكل لوحاته بمبلغ 8500 فرنك، لكنه - لحسن الحظ - لم يجد شارياً يومها. المهم أن ذلك كله دفعه إلى مزيد من الغرابة والسخرية وأعطى رسومه دفعاً جديداً، وجعله أقدر على السخرية - السخرية ممن؟ من نفسه ومن كبار الموظفين، من التجار ومن البورجوازيين الصاعدين، من النساء ومن العجائز.
والطريف في هذا كله أن جنازة إنسور، حيث مات عام 1949 بعد أن كان موته أعلن مرات وأجل مرات عدة، شهدت ذلك الذي اعتبر أكبر تجمع رسمي أحاط بموت فنان. فحضرها كل أولئك الذين أمضى إنسور حياته وهو يسخر منهم، وزينتها فرقة موسيقى عسكرية تشبه تلك الفرق التي ملأت بعض لوحات إنسور القاسية والساخرة.