ملخص
هكذا تمكن الإنجليزيان هوارد كارتر ولورد كارنافون من العثور على قبر توت عنخ أمون الذي كان التاريخ قد أخبرنا كيف أن ديوذدور الصقلي أطلق عليه اسم "بيت الخلود"، بوصفه المثوى الأخير لذلك الفرعون "الغامض" المنتمي إلى الأسرة الـ18
من المؤكد أن في مقدورنا دائماً أن نربط ما سيسمى لاحقاً "الشغف الفرنسي" بمصر في عام 1856 الذي صدرت فيه في العاصمة الفرنسية رواية "المومياء" للكاتب ثيوفيل غوتييه موصلة إلى ذروة لا سابق لها، ذلك الشغف الذي كان حتى ذلك الحين، لا يزال مقتصراً على نوع من النزوع الاستشراقي الغرائبي القائم على أعمال إبداعية تراوح ما بين الموسيقى والرسم والتعامل مع الأساطير والفنون التشكيلية. وكان ذلك ولعاً أوروبياً عاماً على أية حال في جوانب كثيرة منه. غير أن الجانب الآخر المرتبط بالشغف برمته كان عليه أن ينتظر نحو ثلاثة أرباع قرن أخرى قبل أن يظهر مرتبطاً هذه المرة، ليس تماماً بأبعاد إبداعية تثير اهتمام النخب، بل أكثر من ذلك بأبعاد "واقعية" يمكن السجال على أية حال بمقدار "واقعيتها". ونتحدث هنا بالطبع عن الاكتشاف المدهش لقبر توت عنخ آمون الذي لئن كان حول الحكاية كلها من الأسطورة إلى التاريخ الواقعي، فإنه تمكن من أن يعيد، في الوقت نفسه خلق أسطورة جديدة ستحمل منذ نهايات عام 1922 اسم "لعنة الفراعنة" مُضفية حياة جديدة حتى على تلك القمة الإبداعية التي كانتها "رواية المومياء" حين صدورها، إذ مما لا شك فيه أن يوم الـ25 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1922 سيعد منذ ذلك الحين اليوم الذي شهد "الولادة" الحقيقية لذلك التبجيل الذي سيتحول إلى شغف وقد أضحى من نصيب كل ما يتعلق بمصر الفرعونية وفي فرنسا تحديداً، ولكن من خلالها في أوروبا، ومن ثم في العالم أجمع... وحتى من دون أن يكون لفرنسا دور كبير في ذلك على أية حال.
الكنز كما رتبه الدافنون
ففي ذلك اليوم تحديداً تمكن عالمان من علماء ما يسمى "المصريات"، وهما الإنجليزيان هوارد كارتر ولورد كارنافون من العثور على تابوت محدد داخل الضريح الذي كان التاريخ قد أخبرنا كيف أن ديوذدور الصقلي أطلق عليه اسم "بيت الخلود"، بوصفه المثوى الأخير لذلك الفرعون "الغامض" المنتمي إلى الأسرة الـ18، وذلك على بعد أمتار قليلة من قبر الفرعون رمسيس السادس، والذي يحتاج بلوغه إلى العبور بدرج يتألف من 16 درجة تقود إلى مدفن نقشت على بابه لافتة تحمل خاتم المدفون داخله وهو توت عنخ آمون. في البداية كان كارتر كما تقول لنا الحكاية، أول الواصلين إلى الباب، غير أنه آثر ألا يفتحه للدخول إلا بعد وصول رئيس البعثة وممولها اللورد كارنافون الذي تأخر وصوله بضعة أيام، أي إنه وصل في الـ29 من الشهر. وهو ما إن وصل حتى أعطى إشارة لكارتر الذي فتح باب الردهة الموصلة إلى القبر. وهناك كان الكنز في الانتظار. كان عبارة عن مجموعة بالغة الثراء والأهمية من القطع والمذهبات والأواني والرموز التي لا شك أنها قد قبعت في ذلك المكان طوال ما يقارب 30 قرناً، ومن أهمها مجوهرات وعقود وسلاسل علب وصناديق وأوانٍ منزلية وأدوات زينة متنوعة تشكل في مجموعها ما يستحق أكثر كثيراً من اسم كنز. وبخاصة أن قبر توت عنخ آمون ذاك، كان أول قبر فرعوني يتم العثور عليه كما رتبه دافنو الفرعون الأوائل فلم تتمكن أية أيدٍ من العبث به!
خمس محاولات مضنية
في الحقيقة أن الاكتشاف لم يشكل مفاجأة حقيقية، إذ كان القبر ومحتوياته معروفين منذ زمن بعيد ولم يكن ثمة بين الباحثين والمستكشفين من لم يسع حقاً ومنذ عقود طويلة بل أحياناً منذ ما هو أقدم من ذلك، للعثور على ذلك المدفن الذي كان قد تحول إلى أسطوري منذ الأزمنة السحيقة، بل إن كارتر كان بنفسه قد قام بخمس محاولات للعثور على مدفن توت عنخ آمون منذ إلى على نفسه أن يقوم بتلك المهمة، ولا سيما في تجواله المتعب في وادي الملوك متنقلاً بين خمسة وعشرين قبرا تم تعرفه وتعرف سابقيه عليها لفراعنة معروفين، ولكن خلال تلك المراحل السابقة كلها كان توت عنخ آمون يعد الفرعون الأقل شهرة، بل حتى كان ينظر إليه في بعض الأحيان باعتباره أسطورياً اخترعته مخيلات كتاب ومؤرخين "زعموا" دائماً أن العثور "المؤكد، في رأيهم، عليه سيقلب التاريخ الفرعوني رأساً على عقب"، ولكن دائماً من دون أن يكون لديهم أية أدلة قاطعة على ذلك. وبالنسبة إلى علماء المصريات، يمكننا طبعاً أن نتخيل أن أقطع الأدلة إنما هي القبور. ومن هنا كان دائماً ذلك الاستشراس في البحث عن تجسيد لأسطورة بدت دائماً بعيدة المنال على أرض الواقع! أما منذ العثور على المدفن فقد تحولت الأسطورة إلى تاريخ واقعي استعاد مكانته منذ ذلك اليوم تحديداً. فازدادت شهرة توت عنخ آمون بصورة متصاعدة راح الناس يتدافعون لزيارة القبر، مما اضطر السلطات إلى سده ووضع حراسة مشددة عليه.
ولادة لعنة
غير أن تحرك السلطات وإن كان قد انطلق من سعيها إلى الحيلولة دون نهب محتويات القبر، وهذا أمر طبيعي بالنظر إلى ما هو معروف من سوابق مؤلمة تتعلق بمجموعات بأسرها من السكان المحليين تعيش من استكشاف القبور ونهب محتوياتها لحساب جمهرة من تجار أجانب يشترونها بأبخس الأثمان ليشتتوها حول العالم في المتاحف، ولكن خاصة في المجموعات المملوكة لأثرياء لا ضمير لهم، انطلق أيضاً في مجال التصدي لتلك الظاهرة الأخرى التي رصدت منذ الأيام الأولى لفتح القبر لتبدو أكثر مرارة وغرابة وإثارة للرعب من ممارسات النهب والتهريب والتجارة. وتتعلق طبعاً بما سيحمل من فوره اسم "لعنة الفراعنة" كما أشرنا. والحقيقة أن سواء صدقنا وجود تلك اللعنة اليوم أو اعتبرنا الأمر من قبيل "التخويف" العام، يجب ألا يغيب عن بالنا سلسلة من الظواهر الغريبة التي ساد ذكرها واشتهرت خلال النصف الأول من القرن الـ20، والتي ربما يمكن العودة بجذور الحديث عنها بصورة أو بأخرى إلى رواية غوتييه نفسها التي ذكرناها أول هذا الكلام، وفحواها أن كل من يقترب من قبور الفراعنة سيعرض نفسه للعنة قد تطاول حياته كعقوبة له على ما يقترف. والحقيقة أن ما عزز من "صدقية" وجود تلك اللعنة، المصير الذي كان للمكتشف الأول كارتر نفسه، حيث الحكاية، وهي حكاية تاريخية على أية حال أقيم حولها ستار من الإشاعات، التي تتعلق بكون كارتر مات ميتة غريبة، وكذلك كان حال معظم العمال المصريين وغير المصريين الذين كانوا معه يوم دخل إلى القبر الغامض. وهو أمر سيعزوه علماء وأطباء أكثر عقلانية إلى تلوث قاتل كان متحكماً بجو القبر الذي بقي مغلقاً طوال ألوف السنين فلما فتح انتشر تلوثه فاتكاً بأول الداخلين.
في سبيل الرزق
صحيح أننا نجدنا هنا أمام تفسير علمي ومنطقي، لكه غير قادر إلا بقدر كبير من الصعوبة، على تفسير مصير مقابل للورد كارنافون الذي كان يرافق كارتر في الصف الأول لحظة دخول هذا الأخير إلى القبر للمرة الأولى، فخرج سليماً مُعافى من دون أن تجتاحه "اللعنة". إن هذا ثابت تاريخياً، ولكن... ولكن كارنافون سيتوفى في القاهرة بعد أشهر وفاة غامضة دون أن يكون قد ظهر عليه أي أثر لأي مرض أو تلوث. فما الحكاية؟ ثم ما سر تلك الحكاية الأخرى المتداولة، والتي تروى بكل رصانة عن أن ذلك اللورد الذي كان معروفاً بصحته الجيدة، كان يملك كلباً مميزاً تركه في دارته الإنجليزية على بعد 3000 كيلومتر من القاهرة، لكن ذلك البعد لم يمنع الكلب من إطلاق صيحة مريعة اهتز لها الحي الذي تقع فيه الدارة في اللحظة نفسها التي كان فيها اللورد يقع صريعاً من دون أي سبب واضح في مكان إقامته في العاصمة المصرية؟ هل هذا كله حقيقة أم خيال يا ترى؟ من المؤكد أننا لسنا قادرين اليوم، ولم نكن قادرين في ذلك الحين، على الإجابة عن هذا السؤال أو أن نعرف حقيقة ما حدث، لكن ذلك كله عرف كيف يتضافر ليسبغ على توت عنخ آمون تلك الهالة السحرية الأسطورية المرعبة: هالة اللعنة التي تجعل المنقبين عن القبور أكثر حذراً في وقت جعل كثراً من المنقبين والمهربين والمتاجرين أكثر قدرة على ممارسة جرائمهم من دون مجازفة كبيرة... يحركهم الفقر الذي يحرضهم على تجاهل اللعنة سعياً وراء "الرزق".