استحوذت إشكالية التراث والحداثة على حيز واسع من الأبحاث والدراسات في فكرنا العربي الحديث والمعاصر وبخاصة منذ الثمانينيات من القرن الماضي إلى الآن. ليس أدل على ذلك من نشر عدد من تلك الأبحاث والدراسات في طبعات جديدة، نظراً لاهتمام القراء العرب بالتراث ومكانته المميزة في الوجدان العربي وتعاملهم الراهن مع أطروحاته وقضاياه.
في هذا الإطار أعاد مركز دراسات الوحدة العربية إصدار كتابي محمد عابد الجابري "إشكاليات الفكر العربي المعاصر" و"نحن والتراث". خصوصية إشكالية التراث والحداثة في الفكر العربي الحديث والمعاصر تكمن، كما رأى الجابري في "إشكاليات الفكر العربي المعاصر" في كون العرب يمتلكون تراثاً حياً في نفوسهم وعقولهم وذاكرتهم وكتبهم، تراثاً هو من الحضور وثقل الحضور على الوعي واللاوعي بصورة لا نجد لها نظيراً في العالم المعاصر. أما الوجه الآخر، وهو الأكثر وقعاً وثقلاً على الوعي واللاوعي العربيين، فهو ذلك الشعور الدرامي بعمق الهوة التي تفصل بين التراث ومضامينه المعرفية والأيديولوجية وبين الفكر العالمي المعاصر ومنجزاته العلمية والتقنية ومعاييره العقلية والأخلاقية.الأمر الذي يبرر التجاوب الواسع الذي تحظى به على الساحة الفكرية العربية المعاصرة عبارة "التراث وتحديات العصر".
إلا أنه رغم التوجه المتزايد نحو إعادة قراءة النص التراثي العربي ودراسته، نادراً ما قرئ هذا النص قراءة موضوعية متحررة من الأوهام والتفسيرات الخاطئة والمخلة. ومرد ذلك إلى أن قراءتنا لتراثنا تعاني من آفة في المنهج بافتقاده الموضوعية، ومن آفة في الرؤية جراء غياب النظرة التاريخية. في هذا الإطار يأتي كتاب الجابري "نحن والتراث" الذي أعيد إصداره هذا العام "مساهمة في المجهود المتواصل الذي يبذله الفكر العربي الحديث والمعاصر من أجل إقرار طريقة في التعامل مع التراث".
قراءات متعددة
لقد قرئ هذا التراث قراءات متعددة. التيار السلفي قرأه قراءة أيديولوجية أساسها إسقاط مبادئ الحداثة وأفكارها على الماضي، والتيار الليبرالي رأى إلى التراث من مرجعية أوروبية، وردت القراءة الاستشراقية التراث إلى أصوله الحضارية الأخرى.
القراءات الثلاث هي قراءات سلفية، في رأي الجابري، لا تختلف إبستمولوجياً بعضها عن بعض لأنها مؤسسة على طريقة واحدة في التفكير قوامها "قياس الغائب على الشاهد" ما ترتب عليها إلغاء الزمان والتطور، وتقديس الماضي، لكونه وحده يمتلك الحلول الجاهزة لمشكلات الحاضر والمستقبل. وهكذا استغرق العرب في اقتباس مشروع نهضتهم من "ماض" ما، من "أصل" ما، سواء كان هذا الماضي، الماضي العربي الإسلامي أم "الماضي - الحاضر" الأوروبي.
من هنا، إن المسألة الأساسية، وفق الجابري، هي إيجاد طريقة ملائمة للتعامل مع التراث قوامها نقد العقل العربي، والقطع إبستمولوجياً مع بنيته في عصر الإنحطاط وامتداداتها في الفكر العربي الحديث والمعاصر. أما المنهج الذي يتبناه، فيتأسس على تحرير الذات من هيمنة النص التراثي، بإخضاعه لعملية تشريحية دقيقة تربطه بمجاله التاريخي بكل أبعاده الثقافية والتاريخية، وتكشف عن وظائفه الأيديولوجية. وعليه، إذا نظرنا إلى الفلسفة الإسلامية من زاوية المضامين والوظائف الأيديولوجية التي حملتها، سنجد أنفسنا إزاء فكر متحرك، وهنا بالذات يجب أن نبحث لهذه الفلسفة عن معنى، عن تاريخ.
من هذا المنظور يجب أن ننظر سواء إلى فلسفة الكندي، أول فيلسوف في الإسلام وظَف المادة المنقولة ضد القوى الرجعية والمحافظة، أو إلى فلسفة الفارابي الذي نادى بإعادة الوحدة إلى الفكر والمجتمع معاً من خلال خطاب العقل الكوني والنظام الكوني ودمج الدين في الفلسفة.
وإذا ولينا وجهنا شطر المغرب نجد الفلسفة العربية الإسلامية تواصل نضالها من أجل قضية العقل والعقلانية مع ابن باجة الذي استعاد وعي الفارابي بروح نقدية، ومع ابن طفيل الذي قرر أن لكل من الدين والفلسفة طريقه الخاص، ومع ابن رشد الذي أعاد بناء العلاقة بين الدين والفلسفة حتى يصبح العقل حاضراً في الدين وتصبح الفلسفة متفهمة للدين، فيتجهان نحو الحقيقة نفسها.
إن المغزى البعيد لإشكالية الفكر الفلسفي الإسلامي، سواء في المشرق أو في المغرب، هو أن الفلسفة لم تكن بضاعة أجنبية في المجتمع الإسلامي، بل كانت ضميره، عكست مشكلاته وآلامه، وحملت آماله وأحلامه. لكن ماذا تبقَى من الفلسفة العربية الإسلامية؟ كيف نحدد علاقتنا بها؟ كيف نتعامل مع تراثنا؟
المجتمع والفكر
إزاء هذه الأسئلة خلص الجابري إلى أن المحتوى المعرفي في الفلسفة العربية مادة ميتة غير قابلة للحياة. أما مضمونها الأيديولوجي فإنه يساوق تطور المجتمع، ويمكن توظيفه في حياتنا الفكرية المعاصرة. هنا يصل الجابري إلى أن ما يمكن أن يعيش معنا من تراثنا الفلسفي لا يمكن أن يكون إلا رشدياً. فلنأخذ رفضه تقييد الدين بالعلم أو تقييد العلم بالدين، ولنقتبس منهجه لبناء علاقتنا مع تراثنا ومع الفكر العالمي المعاصر، ما يساعدنا في اتجاه تحديث أصالتنا وتأصيل حداثتنا. إن طريقة ابن رشد "ملهمة حقاً لإعادة بناء خصوصيتنا".
تلك هي العناصر المتبقية من الرشدية والصالحة لتوظيفها في حياتنا الراهنة، وتتلخص في "الروح الرشدية" التي يقبلها عصرنا وتلتقي مع روحه. وعليه فالفكر العربي المعاصر لا يمكن أن يستوعب مكتسبات الليبرالية ما لم نؤسسها داخل فكرنا بربطها بالجوانب المماثلة لها أو القريبة منها في تراثنا.
هذه هي الخلاصات التي انتهى إليها الجابري في "نحن والتراث". والمفارقة أن يجد ناقد العقل العربي في عقلانية ابن رشد الذي عاش في القرن الثاني عشر، ما نوظَفه لبناء العلاقة مع الفكر العالمي المعاصر في القرن الحادي والعشرين، في شكل يحقق ما ننشده من أصالة ومعاصرة. فهل فات الجابري أن ابن رشد كان يتكلم كفقيه، وأن عقلانيته ظلت مقيدة بكونه فقيهاً، لا يخرج في أحكامه على ما يمليه الشرع؟ هل نستطيع أن نبني علاقتنا مع الفكر العالمي المعاصر في عصر الثورة الحداثية وما بعد الحداثة بعدة ابن رشد وعلى منهجه؟ وهل يجب أن يبقى التراث، مهما يكن من الغنى، شرطاً واجباً وضرورياً للتعامل مع الحداثة وإنجازاتها؟ هل تحتمل عقلانية ابن رشد المحافظة الثورة المعرفية المعاصرة التي لا تفتأ تحطم كل المفاهيم والمقولات التقليدية؟ وهل فعلاً يمكن أن نجد سنداً أو أصولاً للعقل الحداثي في تراثنا؟ ولماذا يجب أن نؤسس المكتسبات الإنسانية في تراثنا كي نقبلها ولا تبقى أجنبية عنَا؟
إن قيم الحرية والديمقراطية والدستورية والمواطنية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان، لا أساس لها في تراثنا، كما كل الإنجازات العلمية والتقنية المعاصرة، فلماذا نقبل على هذه ونرفض تلك باسم الأصالة والأمانة للتراث؟
أسئلة دقيقة يثيرها تعامل الجابري مع التراث وطرحه الرشدية منهجاً لبناء علاقتنا مع عصرنا. الأمر الذي لا يستقيم في رأينا ما لم نخرج من فضاء التراث وقيوده وأعرافه إلى فضاء الحرية الذي دشنته ثورة الحداثة.