في بيروت تساؤلات كثيرة حول حقيقة تفجير المرفأ، وتساؤلات تدور لناحية السقف الذي يمكن أن تبلغه الملاحقات القضائية في الملف، وجاء الحديث عن معرفة رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المستقيل حسان دياب بوجود نيترات الأمونيوم الخطيرة في العنبر رقم 12 في المرفأ ليزيد الغموض، ويطرح علامات استفهام حول إمكانية ملاحقة شخصية تتمتّع بالحصانة في لبنان، في وقت طفت على السطح مطالبات المجتمع بملاحقة كل من يثبته التحقيق مقصّراً أو مهملاً وعدم اقتصار الملاحقات على مستوى متدنٍّ، والاكتفاء بالرؤساء البيروقراطيين للمرفأ والجمارك، إذ تم توقيف مدير المرفأ حسن قريطم ومديرَيْ الجمارك، الحالي بدري ضاهر، والسابق شفيق مرعي، إضافةً إلى نعمة البراكس، مدير المانيفيست في المرفأ والموظف جوني جرجس.
إخبار ضد الرؤساء
ومن واقعة العلم بوجود المادة الخطيرة، انطلق المحامي مجد حرب لتقديم إخبار إلى النيابة العامة التمييزية ممثلةً بالقاضي غسان عويدات ضدّ عون ودياب، ناسباً إليهما الامتناع عن أداء واجباتهما والتسبّب بوفاة مئات الأشخاص وإصابة الآلاف وتدمير نصف العاصمة. وذكّر حرب بواقعة "البلاغ الخطي" للرؤساء بوجود خطر داهم ناتج من وجود نيترات الأمونيوم، وكذلك تصريحه أمام الإعلاميين بذلك، مستنداً إلى عدم قيام الرئيس عون بموجباته الدستورية كرئيس للبلاد والسلطة التنفيذية، وباعتباره قائداً للقوات المسلحة ورئيساً للمجلس الأعلى للدفاع.
وأقر الإخبار بتمتّع رئيس الجمهورية بحصانة تحول دون محاكمته أمام القضاء العادي، وعاد ليطلب ملاحقته مدنياً وجزائياً عن إهماله لواجباته، وإلزامه التعويض على المتضرّرين من أمواله الخاصة، كما طالب بإلزام دياب التعويض عن إهماله وعدم دعوة مجلس الوزراء استثنائياً إلى النظر في خطورة المواد المتفجّرة الموجودة في المرفأ، وكذلك عدم مراجعته للأمنيين والإداريين لجهة حقيقة وخطورة الأمر في المرفأ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولاقى هذا الإخبار ردود فعل متباينة، فهو شكّل إدانة معنوية للسلطة التنفيذية في البلاد، ولكنه تعرّض كذلك للانتقاد لتوجيهه إصبع الاتهام إلى الرئيسَيْن عون ودياب. وفي هذا السياق، تحفّظ المحامي وديع الأسمر (ناشط حقوقي) على جدوى الإخبارات في النظام القضائي اللبناني، مطالباً بعدم التوسّع بهذه التقنية والاكتفاء بها "عندما لا يتمكّن الضحية وهو ضعيف، وغير قادر على تحصيل حقوقه مباشرة، ولحث القضاء على التحرّك". وسأل الأسمر عبر "اندبندنت عربية" عن سبب الإخبار في قضية حُوّلت إلى المجلس العدلي"، مطالباً بتوسيع دائرة الإخبار لتشمل جميع المشتبه فيهم، "كل من تناوب على منصب رئاسة الجمهورية، رئاسة الحكومة، قيادة الجيش، أجهزة المخابرات، الوزارات المعنية بالمرفأ (مالية، أشغال عامة ونقل، دفاع، داخلية)، وعدم حصره بالأخصام السياسيين"، لذلك يعتقد الأسمر أن الهدف من بعض الإخبارات الدعاية عندما تتوجّه ضد مَن يتمتّع بالحصانة، من هنا يرفض تسييس العمل القضائي.
عائق الحصانة
ويمنح القانون اللبناني الحصانة لمجموعة من الشخصيات الحقيقية والهيئات الدبلوماسية التي لا يمكن ملاحقتها إلّا وفق إجراءات خاصة وأذونات مسبقة، وتلتزم النصوص الدستورية مبدأ الحصانة لكبار الشخصيات السياسية والموظفين في البلاد، لذلك لا يمكن ملاحقة رئيس الجمهورية وفق المادة 60 من الدستور اللبناني إلّا لجريمَتَيْ الخيانة العظمى وخرق الدستور، ولا يمكن اتّهامه بسبب هذه الجرائم إلّا من قبل مجلس النواب بموجب قرار يصدره بأكثرية الثلثين من الأعضاء، وكذلك لا يمكن محاكمة رؤساء الوزراء والوزراء إلّا أمام مرجع خاص هو "المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء" الذي نصّ عليه الدستور وبقرار اتهام يوافق عليه ثلثا أعضاء البرلمان، كما لا يمكن ملاحقة النائب في البرلمان أمام القضاء العادي قبل رفع الحصانة عنه من قبل الهيئة العامة لمجلس النواب.
في هذا السياق، يُشار إلى أن المجلس الأعلى يتألّف من سبعة نواب ينتخبهم مجلس النواب، وثمانية من أعلى القضاة اللبنانيين رتبة بحسب التسلسل القضائي أو باعتبار الأقدمية، إذا تساوت درجاتهم يجتمعون تحت رئاسة أرفع هؤلاء القضاة رتبة وتصدر قرارات التجريم من المجلس بغالبية 10 أصوات، وتحدّد أصول المحاكمات لديه بموجب قانون خاص (المادة 80 من الدستور).
الدستور منحهم الحصانة
من هذا المنطلق، أكّد نزيه رعد (الأكاديمي والخبير الدستوري) أنه في جريمة تفجير المرفأ، لا يمكن ملاحقة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء أمام المجلس العدلي، لأن الدستور منحهم الحصانة وحدّد طرق ملاحقتهم واتّهامهم من قبل مجلس النواب بغالبية الثلثين من أعضائه، لافتاً عبر "اندبندنت عربية" إلى أن هناك أصولاً قانونية يجب اتّباعها لناحية ملاحقة الرؤساء والوزراء أمام المجلس الأعلى، ولا يمكن مخالفتها تحت وطأة التحليل السياسي والانفعال العاطفي، لذلك، يبقى واجب الالتزام بالنص الدستوري إلى حين ظهور الإرادة لتعديله بغالبية الثلثين في مجلس النواب، أو الغالبية المطلقة لتعديل القاعدة القانونية العادية.
ويعتقد رعد شمول النص القانوني للوزراء الحاليين والسابقين عند ارتكاب خطأ أو تقصير في معرض عملهم ووظيفتهم، إلّا أنّه يفتح باب الاجتهاد في هذه المسألة، ويطالب بتعديل النصوص الدستورية والقانونية لتسهيل رفع الحصانة عن الشخصيات السياسية لأن التجربة أثبتت مدى استغلال الوزراء في لبنان وغيرهم من الساسة لهذه الحماية القانونية، وتغطية عددٍ كبيرٍ من المخالفات والارتكابات، مستفيدين من عدم تشكيل المجلس الأعلى أو إعاقة اجتماعاته وعرقلتها.
الدستور لم يمنحهم هذا الحق
ورداً على سؤال حول إمكانية تنازل الرؤساء والوزراء عن حصاناتهم مؤقتاً من أجل ملاحقتهم، يجيب رعد أن الدستور لم يمنحهم هذا الحق، وما يتم قوله في المؤتمرات الصحافية ليس سوى بدعة من أجل الدعاية لأنفسهم، والادّعاء أنهم أبرياء. ويلفت إلى إمكانية الاستماع إلى أقوال هؤلاء سواء كان رئيساً أو وزيراً كشهود "برضاهم"، ولكن ليس لمحاكمتهم.
وفي المحصّلة، تبقى العدالة في لبنان انتقائية وخاضعة لشبكة كبيرة من المصالح والحمايات القانونية والسياسية، لذلك بات لزاماً أن يبدأ الإصلاح بإعادة النظر في نظام الحصانات التي تحول دون محاسبة المرتكبين، وتخفيف القيود التي تسمح بملاحقة المشتبه فيهم مهما علت رتبتهم، متى ارتكبوا أخطاء فادحة أو إهمالاً وتقصيراً غير مقبول. وفي غياب آليات تسمح بملاحقة ومحاكمة القادة والزعامات السياسية، تبقى الإخبارات بمثابة عمل دعائي يهدف إلى تسجيل النقاط، وفي أحسن الأحوال إدانة معنوية لفئة مستثناة من تطبيق القانون وتخرق سقوفه لتعيش فوقه.