بعد ما وضعت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) أوزارها، وتقهقرت الدولة العثمانية عن بلدان عربية عدة، أصبح العراق ضمن الأقاليم المنتدبة الخاضعة إلى بريطانيا، لكن الشعب العراقي رفض سياسة الانتداب أو الاستعمار وعدم إيفاء دول الحلفاء بالتزاماتها تجاه العرب بنيل الاستقلال وقيام دولة عربية واحدة تقابل تركيا، وتفجرت ثورة العشرين الكبرى في مايو (أيار) 1920، واستمرت لغاية أكتوبر (تشرين الأول)، واشتعل أوارها في أرجاء العراق من جنوبه حتى شماله.
وعلى الرغم من أن الثورة العشرينية المسلحة لم تحقق كامل أهدافها بالاستقلال التام عن بريطانيا، لكن إحدى أهم نتائجها الإيجابية أنها أجبرت السلطات البريطانية على إعادة النظر تجاه العراق بصفة خاصة، ومنطقة الشرق الأوسط بصفة عامة. ولذلك، دعا وزير المستعمرات وقتذاك ونستون تشرشل (1874-1965) لعقد مؤتمر موسع بالقاهرة في مارس (آذار) 1921، وفي المؤتمر تمت مناقشة مستقبل العراق، وتثبيت فيصل بن الحسين (1921-1933) ملكاً على البلاد.
وانطلاقاً من تأسيس دولة العراق الحديث، عقدت المعاهدات المتوالية بين العراق وبريطانيا في 1922 و1926 و1927 (جراء الاكتشافات النفطية)، وفي 1929 (المتعلقة باستقلال العراق)، وفي 1930 (التي قربت العراق أكثر نحو الاستقلال)، وتم اعتماد الثالث من أكتوبر 1932 "اليوم الوطني العراقي" الذي ينتهي فيه الانتداب البريطاني، وفي اليوم ذاته قُبل العراق العضو 57 في عصبة الأمم، إذ حضر رئيس وزراء العراق نوري السعيد (1888-1958) إلى جنيف في سويسرا حيث مقر العصبة، وتم الاحتفال برفع العلم العراقي بجانب أعلام الأعضاء، وعين نوري السعيد نفسه ممثلاً للعراق، وكان أول مندوب عربي في عصبة الأمم.
وبعد صدور قرار مجلس عصبة الأمم بعضوية العراق، قال الملك فيصل الأول "إن العراق أصبح حراً طليقاً، لا سيد عليه غير إرادته". وأرسل برقية لرئيس المجلس بول بونكور، معرباً عن "تحقيق المبادئ السامية التي ترمي إليها عصبة الأمم". وتسلم فيصل الأول التهنئة من الملك جورج الخامس (1910-1936) ملك بريطانيا، وكذلك برقيات التهنئة من ملوك ورؤساء دول عدة، ومن قادة سياسيين وشخصيات عالمية وغيرهم.
ولم تمض غير 72 ساعة، ففي السادس من أكتوبر ألقى الملك فيصل الأول خطاباً في بهو أمانة العاصمة في بغداد، أكد فيه أن "الاستقلال كان نتيجة لجهود مشتركة اعتمدت الصبر والحكمة". كما تطرق في خطابه إلى ضرورة إعمار العراق وتحديثه وتقدمه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبما أن معاهدة 1930 التي جرى التوقيع عليها في الثلاثين من يونيو (حزيران) بين نوري السعيد والمندوب السياسي البريطاني فرانسيس همفوي، ترهن العراق لصالح بريطانيا لمدة 25 سنة، خصوصاً في الحقوق العسكرية غير المشروطة، وكذلك التجارية غير المحدودة. لذلك، استمرت انتفاضات وثورات العراقيين، ومنها ثورة مايو (أيار) أو ثورة الضباط الأحرار في 1941، بين القوات العسكرية العراقية والقوات البريطانية، التي تمكنت من إسقاط الوصاية على العرش، وشكلت حكومة إنقاذ وطني برئاسة رشيد عالي الكيلاني (1892-1965)، لكن هروب الوصي عبد الإله بن علي (1913-1958) ونوري السعيد اللذين تمكنا من الحصول على مساعدة بريطانيا، التي حركت القوة العسكرية البريطانية المتجحفلة في البصرة والقضاء على الثورة، فاضطر الكيلاني إلى أن يلجأ للسعودية، وبقي فيها حتى قيام ثورة 14 يوليو (تموز) 1958 التي أنهت حقبة الحكم الملكي تماماً، وأزالت النفوذ البريطاني نهائياً.
من هنا، وعلى مدى نصف قرن تقريباً، عمدت الجمهوريات المتتالية: الحكم القاسمي (1958-1962)، والحكم العارفي، عبد السلام محمد عارف ثم أخاه عبد الرحمن (1962-1968)، والحكم البعثي (1968-2003) إلى تغافل الاحتفال بـ"اليوم الوطني العراقي" بتاريخ الثالث من أكتوبر 1932، وإبراز الثورات الرئيسة في أعوام 1920 و1941 و1958 على الإنجازات السياسية التي تحققت في فترات العهد الملكي. ولعل أحد أهم الأسباب لعدم ذكر هذا التاريخ ارتباطه المباشر بالاستعمار البريطاني الذي كان يحدد الأبعاد في عملية الاستقلال، كما أن العراق لم يكن فعلاً يمتلك السيادة والإرادة الحقيقية حتى بعد نيل ذلك الاستقلال المزعوم.
بمعنى آخر، كان استقلال العراق من الانتداب البريطاني منقوصاً وليس كاملاً، إنه استقلال صوري أكثر منه واقعياً، لا سيما أن بريطانيا هي التي خططت ثم منحت هذا الاستقلال وفق الأقيسة التي تصب في صالحها وتحفظ لها مصالحها بالدرجة الأساس على حساب العراق وشعبه.
غير أن هذا لا يمنعنا من القول، إن "اليوم الوطني العراقي" تعرض إلى إجحاف شديد وغبن لا داعي له، وذلك بسبب النزعة الثورية والتشدد في المفاهيم الوطنية. إذ إن قادة تلك الفترة من التاريخ السياسي الحديث، تحركوا وفق المعطيات المتاحة، وحققوا ما يمكن تحقيقه تجاه المستجدات والمتغيرات في تأسيس وبناء دولة العراق، وما يترتب عليه من استقلال وفق مراحل يعد استثنائياً مقارنة بأقاليم منتدبة أخرى، وفق درجاتها الأولى والثانية والثالثة بحسب التقسيم السياسي الاستعماري للبلدان الذي احتلها بعد الحرب العالمية الأولى.
كيفما كان الأمر، لقد أرادت الطبقة السياسية التي وصلت إلى السلطة عبر قوات الاحتلال الأميركي، أن تجعل من تاريخ دخول المحتل إلى بغداد في التاسع من أبريل (نيسان) 2003 أن يكون يوماً وطنياً في تحرير العراق من النظام البعثي الحاكم، لكن الاعتراضات الواسعة والرفض الشعبي أرغمهم على التراجع، إلا أنه في فبراير (شباط) 2008 قررت حكومة الاحتلال أن تختار تاريخ استقلال العراق والخلاص من الانتداب البريطاني في الثالث من أكتوبر عام 1932 يوماً وطنياً عراقياً، لكن لم يتم تفعيل هذا القرار، إذ كان على مجلس رئاسة الوزراء أن يعد قانوناً خاصاً باليوم الوطني العراقي ثم يحوله إلى مجلس النواب بغية إقراره.
وبعد مضي 12 عاماً تقريباً، في مطلع سبتمبر (أيلول) من الشهر الحالي، قررت الحكومة العراقية أن تعيد تحريك القرار باختيار تاريخ استقلال العراق من الانتداب البريطاني في الثالث من أكتوبر 1932. وعلى الرغم من استشارة مؤرخين وسياسيين في هذا الشأن، لكن الأمر يتطلب بعداً أوسع ونظرة أشمل في هذا الجانب، فحسب تصوري، هناك حاجة إلى تفعيل شعبي بالمشاركة في اتخاذ هذا القرار من أجل أن يبقى ويستمر من جيل إلى آخر، وليس عبر فرض قرار سياسي قد يلغيه نظام حكم آخر مغاير.
في الحقيقة، يرى بعض المؤرخين والباحثين العراقيين، وصاحب المقال منهم، أن استقلال العراق في 1932 وانضمامه لعضوية عصبة الأمم، يشكلان نقطة مفصلية في تاريخ العراق السياسي الحديث، وينبغي التعامل مع الحدث بواقعية إيجابية لا التغافل السلبي، كون عدم اكتمال الاستقلال بالشكل الوطني المطلوب، كما أن هذا التعامل الإيجابي لا يقلل من شأن الثورات العراقية التي حققت للعراق وشعبه كثيراً من الإنجازات، إنه جزء تاريخي مهم لا يجوز الاستمرار في غض الطرف عنه أو التفريط فيه، إذ يبقى ضمن الصورة السياسية العامة في تاريخ دولة العراق الحديث.