يدخل السودان السبت، الثالث من أكتوبر (تشرين الأول)، مرحلة جديدة من الاستقرار بإنهاء عقدين من الحروب في ثلاثة أقاليم من البلاد هي دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق، أدت إلى مقتل وتشريد آلاف المواطنين، وذلك بتوقيع اتفاق سلام نهائي في العاصمة جوبا بين الحكومة السودانية وعدد من الفصائل المسلحة المنطوية تحت لواء الجبهة الثورية السودانية، وهي تحالف من خمس حركات مسلحة وأربع سياسية، بحضور رؤساء دول وحكومات في الإقليم والعالم العربي، وممثلين عن الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة.
ويأمل قطاع عريض من السودانيين أن يسهم اتفاق السلام، الذي يتضمن ثمانية بروتوكولات، ويستند على نظام حكم فيدرالي مكون من ثمانية أقاليم بدلاً من 18 ولاية، تتمتع بصلاحيات وسلطات حقيقية، في تطوير المناطق التي أنهكها النزاع منذ سنوات طويلة، وإقناع الحركة الشعبية شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان بزعامة عبد الواحد محمد نور بالانخراط في مفاوضات السلام، وطي صفحة الحرب نهائياً في البلاد.
وتشمل البروتوكولات الثمانية محل الاتفاق، ملكية الأرض، والعدالة الانتقالية، والتعويضات، وتطوير قطاع الرحل والرعوي، وتقاسم الثروة، وتقاسم السلطة، وعودة اللاجئين والمشردين، فضلاً عن البروتوكول الأمني والخاص بدمج مقاتلي الحركات المسلحة في الجيش الحكومي ليصبح جيشاً يمثل كل مكونات المجتمع السوداني.
تحالف جديد
لكن كيف ينظر المراقبون لعوامل استدامة هذا الاتفاق في ظل التحديات والظروف الماثلة في البلاد، يجيب الرشيد محمد إبراهيم أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعات السودانية، في حديثه لـ "اندبندنت عربية"، "لا يمكن بأي حال من الأحوال التقليل من هذا الاتفاق، كما لا يمكن في الوقت نفسه التعويل عليه في استقرار السودان، لأن سنتين مرتا من دون أن يكون هناك اقتتال بين القوات الحكومية والحركات المسلحة، كما أن عدم وجود الحلو وعبد الواحد في هذا الاتفاق لما يملكان من تواجد وقوة على أرض الواقع في منطقتي كاودا بجنوب كردفان، وجبل مرة بدارفور، يلقي بظلاله السلبية على عملية السلام التي تستوجب ضم كل أطراف الصراع من دون استثناء حتى يكون السلام شاملاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع، "وضح جلياً من بنود اتفاق السلام أن هناك تحالفاً جديداً تشكل في الباطن بين المكون العسكري في مجلس السيادة السوداني والجبهة الثورية السودانية، يهدف إلى الاقتصاص من قوى الحرية والتغيير الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية في البلاد، لكونها عملت على ابعاد الجبهة الثورية عن إدارة الفترة الانتقالية، والايحاء إليها بأنه لا توجد محاصصات في شغل الحقائب الوزارية، لكن الخطورة الماثلة الآن أن الملف تحول من السلام إلى البحث عن السلطة، وهو ما أدى إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي من جديد".
ولفت الرشيد محمد إبراهيم إلى أنه لم يحدث في تاريخ السودان أن وصل اتفاق سلام إلى نهايته، لكن هذا الاتفاق يحمل الحكومة السودانية أعباء كبيرة في ظل ما تعانيه من وضع اقتصادي مترد، وذلك من ناحية استيعاب ودمج حوالى 30 ألف جندي من الحركات المسلحة في إطار اتفاق الترتيبات الأمنية.
دستور انتقالي
في المقابل، يوضح فؤاد عثمان مسؤول العلاقات الخارجية في حزب المؤتمر السوداني لـ "اندبندنت عربية" أن "توقيع السلام مع الجبهة الثورية يعد خطوة جيدة، وجهداً عظيماً ومقدراً، يؤكد أن السلام كان بالفعل أولية الحكومة الانتقالية، وشغلها الشاغل منذ بدء مهامها، كما يدل إلى أن الحكومة السودانية استفادت من تجاربها السابقة في عامي 1964، و1985، اللتين شهدتا ثورتين شعبيتين أطاحتا بنظامين شموليين، وتعد المرة الأولى التي يتم التوصل فيها إلى اتفاق مع حاملي السلاح، وهو مؤشر إلى أن الفترة المقبلة ستشهد استقراراً وعملاً دؤوباً لحل المشكلات التي تواجه البلاد، خصوصاً الاتفاق على دستور انتقالي أو ملامح دستور دائم لحكم السودان".
أضاف عثمان، "اعتقد ان اتفاق السلام شمل كل القضايا مثار الاهتمام، ولا أظنه جاء منقوصاً لعدم انضمام الحلو وعبد الواحد لهذا الاتفاق على الرغم من تأثيرهما الواضح على الأرض، ولا أحد ينكر ذلك، صحيح كان هناك تباين وتجاذب في تفسير بعض بنود الاتفاق لا سيما في مسألة العلمانية التي شهدت جدلاً واضحاً، لكن هذه المسألة ضمنياً موجودة، ولن تكون عقبة للتوصل إلى اتفاق حولها، وذلك انطلاقاً من حرص جميع الأطراف من بينها الحكومة السودانية على استقرار الفترة الانتقالية حتى الوصول الى انتخابات عامة".
مراسيم التوقيع
وشهدت عاصمة جنوب السودان جوبا، توافد العديد من الشخصيات والمسؤولين السودانيين والدوليين للمشاركة في مراسيم التوقيع على اتفاق السلام، التي حضرها رئيسا إثيوبيا وتشاد ورئيسا وزراء مصر وأوغندا، ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، إضافة إلى ممثل كينيا، ووزير خارجية قطر، ووزير البترول الاماراتي، ووزير الدولة في وزارة الخارجية السعودية، وممثل مملكة البحرين، وعدد من ممثلي الدول الأوروبية، ودول الترويكا، والمبعوث الأميركي الخاص للسودان.
ووصفت جوبا على لسان توت قلواك رئيس لجنة الوساطة الجنوبية في المفاوضات السودانية، اتفاق السلام بأنه يمثل استقراراً لدولة جنوب السودان، انطلاقاً من كون أن الشعبين في الخرطوم وجوبا هما شعب واحد في دولتين، معرباً عن سعادة شعب وحكومة جنوب السودان بالوصول إلى هذا الاتفاق الشامل للسلام في السودان، ما يساهم في استقرار البلدين.
وحيا توت الشعب السوداني وخصوصاً اللاجئين والنازحين في المعسكرات في جنوب السودان وتشاد ودارفور، مؤكداً أن توقيع اتفاق السلام سيضع حداً لمعاناتهم ويحقق لهم الأمن والاستقرار، وأثني على أطراف المفاوضات لصبرهم ومثابرتهم طيلة فترة التفاوض.
كما أشاد توت بجهود الشركاء في لجنة الوساطة من دول تشاد والإمارات ومصر والولايات المتحدة والنرويج وبريطانيا إلى جانب منظمة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي و"إيقاد"، مؤكداً استعداد حركتي عبد العزيز الحلو وعبد الواحد محمد نور التفاوض عبر منبر جوبا، وتوقع أن يشهد العالم تحولاً حقيقياً في السودان في ظل الظروف الإقليمية والدولية.
شمولية القضايا
في هذا الوقت، اعتبر الهادي ادريس رئيس الجبهة الثورية السودانية التوقيع على اتفاق السلام بأنه حدث عظيم في تاريخ السودان، موضحاً أن ايقاف الحرب من الأشياء الأساسية التي تم الاتفاق حولها عقب ثورة ديسمبر (كانون الأول) التي أطاحت بنظام الرئيس السابق عمر البشير لتحقيق التحول الديمقراطي، وأضاف، "نحن على اعتاب سلام شامل يؤسس لاستقرار البلاد وتحقيق التحول الديمقراطي"، مهنئاً الشعب السوداني بهذا الانجاز الذي تحقق، مشيراً إلى أن المفاوضين من الجبهة الثورية السودانية والوفد الحكومي بذلوا مجهوداً كبيراً بمعاونة وساطة دولة جنوب السودان.
ولفت ادريس إلى أن العملية التفاوضية خاطبت كل القضايا الحقيقية التي ظلت حجر عثرة أمام استقرار البلاد منذ الاستقلال عام 1956، إلى جانب مناقشتها القضايا المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأزمة السياسية السودانية وكل إفرازاتها المتعلقة بالحروب والنزوح واللجوء ومشاكل الاراضي وغيرها من المشكلات، مؤكداً أن اتفاق سلام جوبا اتفاق شامل من حيث المحتوى والقضايا، لكنه أعرب عن تطلع الجبهة الثورية لانضمام بقية الأطراف حتى يكتمل السلام من حيث شمولية القضايا والأطراف.
المشاركة في الحكم
ويمهد الاتفاق الذي وقع بالأحرف الأولى في أغسطس (آب) الماضي، لمشاركة الفصائل المسلحة في الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات، إذ سيتم تعيين قادة مكونات الجبهة الثورية في هياكل الحكم (مجلسا السيادة والوزراء)، بالإضافة إلى منحهم نسبة 25 في المئة من مقاعد البرلمان الانتقالي الذي لم يتم تشكيله بعد، وخصص الاتفاق حوالى سبعة مليارات دولار تدفع على 10 سنوات لإعادة إعمار وتأهيل المناطق المتأثرة بالنزاعات.
ومنذ تشكيل الحكومة المدنية في البلاد بعد ثورة ديسمبر التي أطاحت بحكم البشير في أبريل (نيسان) 2019، وضعت السلام في قمة أولوياتها، وشرعت على الفور في إجراء اتصالات بالمسلحين، بعد إعلان رئيس حكومة جنوب السودان سلفاكير ميارديت استضافة بلاده للمحادثات.
وانطلقت المفاوضات رسمياً بين الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة في دارفور ومنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان في أكتوبر 2019، وضمت ممثلين عن شمال وشرق ووسط البلاد، وتوصلت المفاوضات إلى رؤية مشتركة حول القضايا المطلبية للأقاليم والقضايا القومية لكل البلاد.