تتداخل الأسباب والمبررات التي تفسر إطلاق الرئيس الأميركي دونالد ترمب تصريحاته الخاصة بسد النهضة وتحذيره، في اتصال مع رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، من إمكان واحتمال أن تقوم مصر بتفجيره، بعدما عجزت الأطراف المعنية عن التوصل إلى اتفاق مرض ومقبول للجميع، وفي ظل استمرار الاتحاد الأفريقي في التفاوض معها.
أسباب مباشرة
يمكن إيجاز تلك الأسباب بنقاط عدة، وفي مقدمها سباق الانتخابات الرئاسية، فالرئيس الأميركي الذي تفاخر بأنه كان الوسيط في إتمام صفقات السلام الأخيرة بين بعض الدول العربية وإسرائيل، منوهاً بقرب توقيع أخرى، هو من أعلن عن هذا الأمر في توقيت محدد، وقبيل إجراء الانتخابات رسمياً، ليؤكد أنه بذل في المفاوضات التي جرت في واشنطن الكثير وأن الرفض الإثيوبي هو السبب، وأن هذا الفشل قد يدفع المصريين إلى تفجير السد، وحسم الأمر.
وقد سبقت تصريح ترمب تحذيرات أميركية لإثيوبيا وتهديدات بإجراءات تتجاوز وقف المساعدات الممنوحة، وهو ما لم ينصت إليه الجانب الإثيوبي. كما قامت أديس أبابا باستدعاء السفير الأميركي مايك راينور، واستنكرت وزارة الخارجية فيها تصريحات الرئيس الأميركي، واصفة إياه بالتحريض على حرب بين القاهرة وأديس أبابا وأنه "غير مقبول". واعتبرت أن التصريح من رئيس لا يزال في منصبه لا يعكس الشراكة الطويلة الأمد والتحالف الإستراتيجي بين الولايات المتحدة الأميركية وإثيوبيا، ولا يُعد أمراً مقبولاً بموجب القانون الدولي الذي يحكم العلاقات بين الدول.
موقف ترمب ليس داعماً لمصر في موقفها كما فسره الكثيرون فحسب، إنما تأكيد على وجود متغيرات جديدة في الإقليم ترتبط بعلاقات السلام فيه، ودخول إسرائيل على خط التواصل مع كل الأطراف، بما يسمح لها لاحقاً بالمشاركة في مسار المفاوضات، نظراً لعلاقاتها المتشابكة مع الجانب الإثيوبي، بغض النظر عن جدية ما طرح أميركياً.
قيود الضربة
تدرك القاهرة أن تصريح ترمب يجب أن يكون في إطاره، بخاصة أن الدعم الأميركي لمصر في تطورات الملف يمكن أن يتم بالضغط الدبلوماسي والسياسي، وليس بالدفع إلى إجراء عسكري مباشر. كما أن مصر، في حال تبنيها الخيار العسكري، سيكون قراراً ذاتياً وفي التوقيت المناسب، وهو الأمر الذي تعاملت معه بذكاء سياسي، فلم تطلق تصريحات معادية. ولا تزال تؤكد استمرار الخيار التفاوضي والتأهب لاحقاً، في حال فشل الاتحاد الأفريقي، للذهاب إلى مجلس الأمن، وهناك أشهر عدة للقيام بذلك. أي أن القاهرة ليست في عجلة من أمرها، تخوفاً من أي ردود فعل غير مدروسة أو مخطط لها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، أعلن الجانب الإثيوبي استئناف مفاوضات سد النهضة بينه وبين مصر والسودان تحت رعاية الاتحاد الأفريقي، الثلاثاء، والتي كانت قد توقفت أسابيع بعد تعثرها في الوصول إلى اتفاق مرضٍ.
كما تتجه أديس أبابا بقوة إلى تأمين موقفها العسكري والإستراتيجي، تخوفاً من أي خطوة قد تشجع القاهرة على القيام بإجراءات غير تقليدية وفي نطاق من العمل غير المعلن. فقامت بتأمين مشروع السد ومنع الطيران فوقه والإعلان عن امتلاكها كل وسائل الحماية، بما في ذلك النظام الدفاعي الإستراتيجي الكامل مع تكثيف الإعلان عن قدراتها العسكرية الكبيرة للدفاع عن السد من أي تحديات أو مخاطر من أي نوع. ولهذا، ليس غريباً أن إثيوبيا ستعيد النظر في إجراءات الحماية الكاملة وستراجع خطط التأمين، وسيشمل ذلك استئناف اتصالاتها وتركيزها مع كل من روسيا والصين وإيطاليا ودول أخرى تستثمر في السد، في إطار محاصرة أي تطورات دراماتيكية تحرض على ضربه أو القيام بأعمال تخريبية تستهدف بالأساس تأخير التشغيل وعرقلة الملء الثاني.
مسارات مستقبلية
الخروج بحل غير تقليدي لأزمة سد النهضة يذهب باتجاه إعادة تدوير دور بعض الأطراف الراهنة، لتبرز بصورة مباشرة دول أخرى مثل إسرائيل والصين، وقد يمتد إلى دخول دول عربية تستثمر فيه للعب دور حقيقي ومباشر في المفاوضات، والتي يمكن أن تتحول إلى جماعية بمشاركة إسرائيلية أميركية ودور محدد للبنك الدولي والمنظمات المانحة والمتخصّصة، في حال استمرار ترمب في البيت الأبيض، ما يعني أن مسارها مرتبط بنتيجة الانتخابات الأميركية.
في المقابل، هناك احتمالات لقلق القاهرة من إفساح الإدارة الأميركية المجال لتل أبيب للعب دور يعيد إلى ذاكرتها ما دار في سنوات بعد معاهدة السلام من نقل المياه إلى إسرائيل، و"تديين" هذا الملف إقليمياً، من خلال نقل هذه المياه إلى المقدسيين على سبيل المثال.
إن عدم إنصات القاهرة لتصريح ترمب والنظر إليه في سياقه الانتخابي، يشير إلى حرصها على عدم الدخول في حلبة الخيارات العسكرية، أو دفعها دفعاً للقيام بهذا الأمر. ولعل في ذاكرتها القريبة الكلام عن أن السفيرة الأميركية في العراق أبريل غلاسبي هي من أعطت الضوء الأخضر لصدام حسين لغزو الكويت، وبالتالي فإن الكرة في الملعب المصري في الأساس، وليس السوداني أو الإثيوبي، بخاصة أن هناك ما يشير في الأفق إلى محاولات لزج الجيش المصري في مواجهات غير محسوبة، سواء في ملف سد النهضة أو ليبيا وشرق المتوسط. ولهذا تجري إثيوبيا استعدادات عسكرية غير مسبوقة ولا تنصت كثيراً للاتفاق السياسي، ما لم تقم إدارة ترمب في ولايتها الثانية، في حال فوزها، بممارسة ضغوط حقيقية على أديس أبابا للقبول بصيغة إعلان واشنطن، بل ودفع السودان للتوقيع عليها أيضاً. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، ما الذي ستحصل عليه الإدارة الأميركية من مصر تحديداً، وهل لديها قائمة مطالب جديدة من القاهرة قد تعمل على طرحها في حال استمرارها ولاية ثانية؟ وهو ما تدركه القاهرة جيداً وتتعامل معه بحذر وبسيناريوهات متعددة.
المعضلة
في كل الأحوال، نحن أمام خيارات صعبة مصرية وإثيوبية وسودانية. وما لم يتم حسم ملف التفاوض المتعثر في الاتحاد الأفريقي، فإن الإدارة الأميركية الحالية ستستثمر في الأزمة وتبعاتها، ليس ميلاً إلى الموقف المصري، لكن بحثاً عن إنجاز حقيقي وتحقيق اختراق واقعي في الملف بأكمله.
ووفقاً لردود الفعل المتباينة، سواء مصرية أو إثيوبية، فإن المشهد السياسي والأمني سيبقى على حاله إلى حين انتهاء الانتخابات الأميركية، خصوصاً أن كل الأطراف تواجه معضلة حقيقية، بما في ذلك الطرف السوداني الذي لا يزال يتعامل مع الملف على أنه وسيط وليس شريكاً.