الحقيقة الوحيدة حول انتخابات 2020 هي أن أميركا لا تزال دولة منقسمة، ليس فقط بين الجمهوريين والديمقراطيين، بل داخل الحزب الجمهوري نفسه، وهو ما كشفت عنه ردود الأفعال على تصريحات الرئيس ترمب الأخيرة عن محاولات تزوير وسرقة الانتخابات، فقد تباينت آراء القادة داخل الحزب ما بين مؤيد ومعارض وصامت، في حين أظهرت نتائج انتخابات الكونغرس بغرفتيه واحتشاد آلاف المؤيدين للرئيس أمام مراكز فرز الأصوات للمطالبة بوقف عدّ أوراق الاقتراع بالبريد، أن الشعبوية القومية الترمبية سوف تظل على قيد الحياة، سواء بقي في البيت الأبيض أم حل محله جو بايدن.
تباينات عميقة
انقسام قادة الحزب الجمهوري حول تصريحات الرئيس ترمب، عكس التباينات العميقة بينهم إزاء النظرة إلى مستقبلهم السياسي ومستقبل الحزب، فقليل من التأييد الذي ناله ترمب من السيناتور ليندسي غراهام وعدد قليل من القادة، واجهه صمت من عدد آخر، بينما تحدث عدد من أعضاء الكونغرس الجمهوريين ضد تصريحاته الأخيرة مطالبين بإنفاذ قوانين الانتخابات وفرز الأصوات بدقة، حتى إن النائب الجمهوري ويل هيرد اعتبر في تغريدة له أن الرئيس الحالي الذي يقوّض العملية السياسية ويتشكك في شرعية أصوات عدد لا يحصى من الأميركيين من دون دليل ليس فقط خطيراً وخاطئاً، بل إنه يقوض الأساس ذاته الذي بنيت عليه الأمة الأميركية.
على الرغم من أن هذا الانقسام أثار حفيظة أبناء الرئيس، الذين غردوا على تويتر عن إحباطهم وغضبهم من فشل الجمهوريين في مساندته وغياب دعمهم الصريح ، فإن أكثر مؤيديه الذين جاءوا من خارج المؤسسة السياسية الرسمية، كانوا أكثر حماسة ودعماً، بينهم مارك ليفين المذيع الإذاعي اليميني، الذي أثار جدلاً واسعاً عبر دعوته المجالس التشريعية في الولايات المتأرجحة مثل بنسلفانيا إلى تعيين قائمة ناخبيها المنفصلة المؤيدة لترمب في المجمع الانتخابي، وتجاهل نتائج التصويت الشعبي فيها.
نذير خطر
ما يجعل لهذه الدعوة أهميتها أن ليفين أحد أكثر الأصوات شعبية في الإعلام الترفيهي المحافظ الذي يدعو إلى تحدٍ مباشر غير مسبوق للعمليات الديمقراطية والقضائية.
ويرى مراقبون، أن انتقاد أبناء الرئيس ينذر بالسوء نظراً للاتهامات المتبادلة التي يمكن إطلاقها إذا انتهت النتائج بتأكيد خسارة ترمب، حيث ستطفو على السطح اتهامات بأن خسارته أصبحت حقيقة، فقط لأن الجمهوريين رفضوا ممارسة كل وسيلة ضرورية لإبقائه في السلطة بغض النظر عن عدم ديمقراطية هذه الخطوة، بخاصة أنهم تسامحوا مع العديد من التحركات المناهضة للديمقراطية التي قام بها الرئيس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تزامن ذلك مع ما يريده أنصار الترمبية الذين يعتقدون أن على الجمهوريين أن لا يترددوا في خوض الأهوال والأخطار جنباً إلى جنب مع ترمب في جهوده لمواجهة ما يصفه بتزوير إرادة الناخبين ووقف عد بطاقات الاقتراع، أو ضمان عدم احتسابهم على الإطلاق. مع ذلك، قد يكون من الخطر تجمع متظاهرين حول مواقع فرز الأصوات في مواجهة متظاهرين آخرين يريدون فرز الأصوات ما قد يفجر عنفاً بين الطرفين.
استمرار الشعبوية الترمبية
منذ ما يقرب من أربع سنوات كان الجمهوريون في الكونغرس في موقف دفاعي بسبب رفضهم التنديد بالتغريدات والتصريحات المستفزة من الرئيس دونالد ترمب، وحتى مع تزايد احتمالية خسارته أمام جو بايدن، فهناك أسباب للاعتقاد بأنهم في "الكابيتول هيل" سيستمرون في التمسك بالطبيعة الشعبوية القومية، التي قد تكون في بعض الأحيان فجة وتآمرية لسبب بسيط لكنه قوي للغاية هو أن هذه الشعبوية هي ما يريده ناخبوهم.
تعد نتائج هذه الانتخابات أفضل دليل على ذلك، إذ من المرجح أن يحصل ترمب على 48 في المئة من الأصوات الشعبية، وهي نسبة تزيد على نسبة تأييده البالغة 46 عشية الانتخابات وأعلى بكثير من نسبة التأييد البالغة 41 التي حصل عليها في بداية رئاسته.
من المرجح أن يظل مجلس الشيوخ في أيدي الجمهوريين، أما في مجلس النواب، فمن المتوقع أن يفوزوا، وهم الأقلية فيه بأعداد أكبر مما كان متوقعاً. وهذا يعطي المشرعين الجمهوريين سبباً وجيهاً للبقاء على مسار ترمب، سواء بقي في البيت الأبيض بعد 20 يناير (كانون الثاني) أو حل محله بايدن. إذ لم يكن هناك رفض شامل لترمب والترمبية.
في الكونغرس المقبل، سيشغل الديمقراطيون 227 مقعداً والجمهوريون 208، على الرغم من أن هذه الأرقام قد تتغير. وسيؤدي ذلك إلى تقليص الأغلبية الديمقراطية، التي تبلغ حالياً 232، في الغرفة المكونة من 435 عضواً. وعلى الرغم من أن ترمب خسر التصويت الشعبي ويبدو قريباً من خسارة المجمع الانتخابي أيضاً، لكن الجمهوريين أصبحوا أقرب إلى الاحتفاظ بسيطرتهم على مجلس الشيوخ.
وفي حين يعتبر البعض أن أغلبية الأميركيين سئموا طريقة الرئيس ترمب وأسلوبه، فإن صناديق الاقتراع كشفت عن أكثر من 60 مليوناً من الناخبين الذين صوتوا له لا يثقون في النخبة الليبرالية التي يرون أنها تتجاهل وجهات نظرهم. ولهذا سوف تستمر "الترمبية" من دون ترمب في البيت الأبيض.
يشير مراقبون إلى أن السيناتورين غوش هاولي وتوم كوتون، ربما أدركا هذا الوضع وهما يتأهبان لالتقاط عباءة الشعبوية الترامبية، كطريق مضمون للمنافسة عام 2024 في الانتخابات التمهيدية الرئاسية للحزب الجمهوري.
إعادة بناء الحزب
يبقى السؤال هو: هل سيتمكن الجمهوريون من إعادة بناء حزبهم المنقسم إذا لم يعد ترمب في البيت الأبيض؟ بالنسبة إليهم في مجلس الشيوخ ، فإن رحيل ترمب سيوفر فرصة جيدة ليكونوا أكثر إخلاصاً لقيم الحزب وأقل خوفاً من عقاب ترمب لهم وهو ما قد يستغرق بعض الوقت.
لا شك في أن قيادات الحزب لا تزال تشعر بأن عشرات الملايين من الأميركيين يحبون شعار "اجعل أميركا عظيمة ثانية"، وأن الناس الذين خرجوا بعشرات الملايين للتصويت في انتخابات حقيقية لا يفعلون ذلك بدافع من حب الاستبداد أو الرغبة في تقويض الديمقراطية.
لكن أميركا الآن دولة مختلفة ومنقسمة، فما يقرب من نصف الناخبين رأوا ترمب خلال سنوات حكمه، وشاهدوا ازدراءه للديمقراطية ومع ذلك احتضنوه لأنهم لا يهتمون بالأفعال اليومية لقادتهم السياسيين، وعلى الحزب الجمهوري أن يحاول تصحيح هذه الأفكار.
وعلى الرغم من أن الرئيس حصل على زيادة طفيفة في الأصوات من الأميركيين الأفارقة واللاتينيين المتحدرين من أميركا اللاتينية، فإن الغالبية العظمى من مؤيديه لا تزال من البيض حيث يتضخم لديهم الإحساس بالاستياء الثقافي من تزايد معدلات الهجرة واختلاط الأعراق، وترتفع هواجس القلق بينهم، لهذا يرى كثيرون داخل الحزب أنه الأوان لتجاوز هذه السياسات والعمل على توحيده من جديد.