في هذه الآونة يمكن القول إن منظمة الصحة العالمية هي الأكثر أهمية وشهرة من بين منظمات الأمم المتحدة، فجائحة كورونا وضعتها في واجهة الأحداث وفي مقدمة الأخبار في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. والمنظمة ذات الهيكل الإداري الضخم المؤلف من 7 آلاف موظف لا تقصّر في وضع نفسها في هذا الموضع الإعلامي، بل وهذا أحد أهم أدوارها الأساسية، أي نشر التوعية حول هذه الجائحة أو غيرها من الأزمات الصحية العالمية، وتقديم المعلومات المتوفرة لديها إلى جميع البشر والمؤسسات الصحية والحكومات حول العالم.
وكان لإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب حول تجميد إسهامات بلاده للمنظمة دوره أيضاً في إعادتها إلى الواجهة بداية انتشار فيروس كورونا. فقد أسهم هذا الإعلان بإلقاء الضوء على المنظمة ودورها، ودفع برؤساء دول كثيرة للدفاع عنها. وكان ترمب قد اتهمها بسوء إدارة مكافحة الوباء وبالتستر على انتشاره. كما انتقد علاقتها مع الصين. معتبراً أن "اعتماد المنظمة على المعلومات التي قدمتها الصين تسبب في تضاعف الإصابات".
في البدء كان كورونا
بعد إعلان الصين عن وجود فيروس كورونا وبدء انتشاره في مدينة ووهان، انطلقت منظمة الصحة العالمية في عملها التي أسست من أجله، أي العمل على "استعادة الصحة للجميع"، من منطلق أن الصحة حق إنساني لكل فرد. ونشرت بالتعاون مع مؤسسات دولية حكومية، بخاصة المعلومات المتاحة لديها بشأن الفيروس، وكيفية الحد من انتشاره، وهي معلومات بات جميع البشر يعرفها اليوم، مثل التعقيم العام، وغسل اليدين وارتداء الكمامة، والتباعد الاجتماعي ثم الحجر أو الاغلاق العام، الذي أوصت به المنظمة بعد تفلّت انتشار الفيروس. آخر أعمالها المتعلقة بفيروس كورونا تمثلت في مبادرة "تسريع إتاحة أدوات مكافحة كوفيد-19"، وهي عبارة عن تعاون عالمي يُعد الأول من نوعه لتسريع عملية تطوير الاختبارات والعلاجات واللقاحات وإتاحتها على نحو عادل.
واستُهلت مبادرة تسريع إتاحة أدوات مكافحة كوفيد-19 في نهاية أبريل (نيسان) 2020، وتجمع الحكومات والعلماء والشركات والمجتمع المدني والمؤسسات الخيرية ومنظمات الصحة العالمية ومؤسسة بيل وميليندا غيتس، والائتلاف المعني بابتكارات التأهب لمواجهة الأوبئة، ومؤسسة وسائل التشخيص الجديدة المبتكرة، والتحالف العالمي من أجل اللقاحات والتمنيع، والصندوق العالمي، والصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا، ومؤسسة ولكوم الاستئمانية، ومنظمة الصحة العالمية والبنك الدولي.
التأسيس والدستور
انطلقت فكرة إنشاء منظمة عالمية تعنى بالصحة على مستوى المجتمع البشري بأكمله خلال المؤتمرات الصحية الدولية التي عقدت في القرن التاسع عشر لمكافحة الأمراض المعدية مثل الكوليرا والحمى الصفراء والطاعون.
وبقيت الفكرة تراود الحكومات المعنية والبلدان، التي تتفشى فيها الأمراض المعدية والمؤسسات الصحية الدولية إلى أن حان وقت تأسيس الأمم المتحدة عام 1945. في اجتماع التأسيس اتفق ممثلو الدول المؤسسة على إنشاء منظمة صحية عالمية. ودخل دستور المنظمة حيز التنفيذ في 7 أبريل 1948. وبات هذا التاريخ هو يوم الصحة العالمي، الذي يحتفل به سنوياً. ودستور المنظمة هو المنارة التي توجه دفتها، وتلتزم المنظمة المبادئ الواردة فيه، وفي مقدمته. وهذه المبادئ تتناول تعريف الصحة كحق إنساني على أنها حالة من اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً، لا مجرد انعدام المرض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وجاء في مقدمة دستور المنظمة أن صحة جميع الشعوب أمر أساس لبلوغ السلم والأمن، وهي تعتمد على التعاون الأكمل للأفراد والدول، وما تحققه أي دولة في مجال تحسين الصحة أمر يستفيد منه الجميع، عبر إتاحة فوائد العلوم الطبية والنفسية، وما يتصل بها من معارف لجميع الشعوب. وبأن الحكومات مسؤولة عن صحة شعوبها ولا يمكن الوفاء بهذه المسؤولية إلا باتخاذ تدابير صحية واجتماعية كافية.
الهيكل الإداري
تتألف منظمة الصحة العالمية في أعلى هرمها من جمعية الصحة العالمية والمجلس التنفيذي. ويكمل كل جهاز منهما عمل الآخر. فالجمعية هي أعلى جهاز لاتخاذ القرار في منظمة الصحة العالمية. ويجتمع أعضاؤها مرة في السنة، ويحضر الاجتماع وفود من جميع الدول الأعضاء في المنظمة. والوظيفة الرئيسة لها، تحديد سياسات المنظمة، وتعيين المدير العام، ومراقبة السياسات المالية التي تنتهجها.
أما المجلس التنفيذي فيتألف من 34 عضواً من ذوي المؤهلات التقنية في مجال الصحة، وتتم تسمية كل عضو من قبل إحدى الدول الأعضاء المنتخبة لهذا الغرض من قبل جمعية الصحة العالمية. وتُنتخب الدول الأعضاء لولاية مدتها ثلاث سنوات.
يجتمع المجلس التنفيذي مرتين على الأقل سنوياً، يقرر فيهما إنفاذ ما تقرره جمعية الصحة وإنفاذ سياساتها، وإسداء المشورة إليها، والعمل عموماً على تيسير عملها.
في الهيكل الإداري الذي تتشكل منه المنظمة بمكاتبها المنتشرة حول العالم وبمقرها الرئيس في جنيف، يعمل ما يزيد على 7 آلاف موظف من 150 بلداً، يتوزعون على 150 مكتباً قطرياً وستة مكاتب إقليمية والمقر الرئيس.
والموظفون هم من الأطباء والمتخصصين في مجال الصحة العامة، والخبراء العلميين ومتخصصي الوبائيات، وأشخاص مدربين على إدارة النُظم الإدارية والمالية والإعلامية، فضلاً عن خبراء في ميادين الإحصاءات الصحية وعلوم الاقتصاد والإغاثة في حالات الطوارئ.
سفراء النوايا الحسنة
يتحول هؤلاء السفراء إلى أعضاء في المنظمة لمدة عامين، ويعينهم المدير العام، وهم عموماً من الشخصيات المعروفة في مجالات الفنون والأدب والترفيه والرياضة وعموم مجالات الحياة العامة، يحملون همّ الإسهام في الجهود التي تبذلها منظمة الصحة العالمية من أجل نشر الوعي حول المشكلات الصحية وحلولها.
وكان آخر المعينين كسفراء للنوايا الحسنة من قبل مدير عام المنظمة سينثيا جيرمانوتا، كسفيرة تهتم بالصحة النفسية. وجيرمانوتا رئيسة مؤسسة بورن ذيس واي (BornThisWay) التي شاركت في تأسيسها مع ابنتها الليدي غاغا عام 2012 بهدف تعزيز عافية الشباب وتمكينهم من إقامة عالم ينعم بمزيد من التواصل والمسامحة.
والسفيرة إلين جونسون سيرليف، عُينت كسفيرة تُعنى بصحة القوى العاملة. وهي حائزة جائزة نوبل للسلام قبل أن تصبح رئيسة لليبيريا. وتعد أول امرأة تصل إلى هذا المنصب في أفريقيا بعد انتخابات ديمقراطية. وهي مناصرة معروفة لقضايا القوى العاملة الصحية، وتولت أعقاب اندلاع وباء الإيبولا في ليبيريا عام 2015 الإشراف على توسيع نطاق خدمات الرعاية الصحية الأولية في البلد، وإيجاد أكثر من 4 آلاف وظيفة جديدة للعاملين الصحيين في بلدها.
وعُين لاعب كرة القدم أليسون بيكر، سفيراً للنوايا الحسنة يعنى بتعزيز الصحة لدى الأطفال عبر ممارسة الرياضة. وبيكر هو حارس مرمى منتخب البرازيل وفريق ليفربول لكرة القدم. وهو زوج سفيرة المنظمة للنوايا الحسنة ناتاليا لوي بيكر الطبيبة والمدافعة عن قضايا الصحة في البرازيل.
ما الذي تقوم به المنظمة؟
يتمثل العمل الرئيس الأول لمنظمة الصحة العالمية في رصد الأوضاع والاتجاهات الصحية الإقليمية والعالمية، وجمع المعلومات عن جميع الأمراض والنظم الصحية. والمعلومات الموثوقة التي تسهل عمليات اتخاذ القرارات، وتخصيص الموارد لدى المؤسسات المعنية. لذا تعمل المنظمة على تسهيل عملية تبادل المعلومات ونقلها.
وخلال حالات الطوارئ، يتضمن الدور التشغيلي للمنظمة قيادة وتنسيق الاستجابة الصحية وإجراء تقديرات المخاطر، وتحديد الأولويات ووضع الإستراتيجيات، وتوفير الإرشادات التقنية والإمدادات والموارد المالية. كما تساعد المنظمة الحكومات على تعزيز قدراتها المتعلقة بإدارة مخاطر الطوارئ.
التمويل
في إطار الشفافية التي تعمل المنظمة من خلالها فإن ميزانيتها ومصادر تمويلها مكشوفة أمام من يرغب الوصول إليها، وبات من المعروف أن الولايات المتحدة هي أكبر مانح لها، حيث تسهم بنحو 15 في المئة. مصادر التمويل الأخرى هي مزيج من الإسهامات الإلزامية المترتبة على الدول الأعضاء والتمويلات الطوعية. ويُحدد المبلغ المترتب على كل دولة على مقياس متحرك نسبة إلى ثروة البلاد وسكانها.
في السنوات الأخيرة، تراجعت الإسهامات الإلزامية لمنظمة الصحة العالمية، وشكلت الإسهامات الطوعية المتأتية من مجموعة من المصادر العامة والخاصة، أكثر من ثلاثة أرباع تمويل منظمة الصحة العالمية.