شهد عام 2020 على إقرار قانون "تجريم التحرش الجنسي" في لبنان، ليشكّل هذا التشريع الجديد نقلة نوعية في عالم التشريعات اللبنانية وتعبيراً عن التمسك بضوابط حقوق الإنسان. ففي 21 ديسمبر (كانون الأول)، صادق مجلس النواب على قانون معاقبة جريمة التحرش الجنسي، ليلاقي ردود فعل متفاوتة في الأوساط الحقوقية الدولية والمحلية.
ففي وقت رحبت الأمم المتحدة على لسان منسقها في لبنان يان كوفيتش بما وصفته "خطوة باتجاه تمكين المرأة وحقوق الإنسان"، ظهرت تحفظات كبيرة لدى المجتمع المدني والحقوقي اللبناني. بين هذا وذاك، تبقى الجدلية قائمة بين إلزامية التشريع وقوة الموروثات الثقافية، وتأثير كل واحدة منهما في السلوكيات الفردية والاجتماعية.
التحرش في التظاهرات
وبعد مرور أسبوع على إقرار قانون التجريم، صُعقت مواقع التواصل الاجتماعي بصور نشرها ناشطون لما وصفوه بـ"تحرش عناصر أمنية بشابات أثناء تظاهرة احتجاجية أمام الجامعة الأميركية في بيروت"، حيث أظهرت الصور ملامسة أماكن حساسة لبعض المتظاهرات.
أدت هذه المشاهد إلى التساؤل عن دور السلطة الأمنية في قمع عمليات التحرش. من جهتها، استغربت أوساط مؤسسة قوى الأمن الداخلي هذه "الحملة لتشويه صورة ما تبقّى من مؤسسات شرعية في البلاد، التي إذا انهارت سينهار لبنان".
وتؤكد الأوساط المطلعة أن "هناك استخداماً مجتزأ ومشبوهاً لصور ثابتة في أحداث متحركة"، نافيةً تحرش أي فرد من أفراد الأمن بالمتظاهرات. واستندت الأوساط إلى صور أخرى وفيديوهات لتوضيح ما حدث، فقد "قامت العناصر الأمنية بتأمين الحماية والخروج لشابتين بعد حصول عملية رشق بالحجارة".
وتُعرب الأوساط عن استعداد المؤسسة العسكرية للمحاسبة في حال ثبُتَ أي فعل منافٍ للأخلاق أو الحشمة، أو أي اعتداء على الأفراد أو تحطيم المؤسسات العامة، ودعت من يتعرّض لأي اعتداء إلى تقديم شكوى لدى المراجع القضائية للمحاسبة.
وترفض الأوساط توسيع دائرة الاتهام لتشمل كامل المؤسسات الأمنية، على غرار قيام عناصر أمن مجلس النواب بالاعتداء على متظاهرين "لأن قوى الأمن الداخلي غير معنية بأي خروق تقوم بها الأجهزة الأخرى، ومن الظلم استهدافها والتحريض ضد عناصرها بسبب أخطاء الغير".
ملاحظات قانونية في العمق
وفي 21 ديسمبر 2020، أقرت الهيئة العامة لمجلس النواب "قانون تجريم التحرش الجنسي وتأهيل ضحاياه"، بعد دمج عدد من الاقتراحات، خصوصاً اقتراحَي النائب عناية عز الدين والهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية.
وقدّم حقوقيون ورجال قانون قائمة بأبرز الملاحظات والتحفظات حوله. وينطلق المحامي كريم نمور في تحليله للقانون الجديد من تعريف التحرش، الذي اعتبر أنه لا يقتصر على ذاك الواقع داخل مكان العمل فقط، وإنما يشمل أيضاً الأفعال التي تحدث في أي مكان أو ظرف وجدت فيه الضحية.
وفي حين أدخل الاقتراح عنصر التكرار في صلب تعريفه للتحرش بهدف استبعاد الحالات العرضية ومعالجة النمطيات في السلوك، فإنه في المقابل استبعد هذا العنصر في حال توفّر أي نوع من الضغط على الضحية سواء كان نفسياً أو معنوياً أو مادياً أو عنصرياً، والهدف هنا هو احتساب موازين القوة في العلاقات الاجتماعية ومدى إمكانية استغلالها للحصول على منفعة ما (جنسية أو غيرها) مستمدّة من موقع السلطة.
ويشير كريم نمور إلى أن استخدام اقتراح القانون لكلمة "سيّء" في توصيفه للسلوك المقترف ضمن تعريفه للتحرش، يشي بمقاربة أخلاقية من قبل المشرّع لإشكالية التحرش في المجتمع، أكثر مما هي مقاربة آيلة إلى حماية أشخاص وقعوا ضحايا عنف جنسي، ما قد يؤدي إلى إقحام القانون الجزائي والسلطات العامة بالحياة الخاصة، ومع ما يتفرّع عن هذا الأمر من صعوبات في تطبيق النص.
ويلفت إلى اعتماد معيار "الخارج عن المألوف"، ما يفتح الباب أمام تأويل النص القانوني واستغلاله لاستبعاد حالات التحرش الجنسي التي قد تقع في أطر العلاقات الزوجية أو بمعرض الخطوبات، بالتالي إعفاء المتحرش في هذه الحالات من المحاسبة القانونية. لذلك يعتقد نمور أنه "كان من الأنسب استبعاد هذه المقاربة لتعزيز موقع الضحية في صلب فلسفة النص القانوني".
التحرش في سوق العمل
ويشكّل سوق العمل ميداناً واسعاً للتحرش الجنسي، في ظل علاقة التبعية وعدم التوازن بين رب العمل والأجير. ويقرأ المحامي كريم نمور في القانون الجديد، قائلاً "حين عاقب التحرش مهما كان المكان الذي وقع فيه، وأزال عنصر التكرار في حال توفّر أي نوع من الضغط على الضحية، فهو بالمقابل لا يميّز بين أجير وصاحب عمل في حال وقع التحرش في إطار الوظيفة، ما يستدعي التساؤل عن مدى فاعلية النص".
ويرى نمور أن هذا الأمر يفتح باباً واسعاً أمام أصحاب العمل لاستغلال هذا النص ضد أجرائهم، لأنه لم يأخذ في الاعتبار "طبيعة علاقات العمل غير المتساوية في لبنان". في المقابل، يلفت إلى أن المشرّع حصر معالجة التحرش بالمنطق العقابي، من دون إيلاء أي دور للقضاء المدني أو لمجالس العمل التحكيمية أو للوساطة في قضايا حساسة مثل هذه، منّوهاً لأهمية اللجوء إلى وسائل بديلة ووقائية لحل مثل هذه النزاعات قبل الذهاب مباشرة إلى القضاء الجزائي.
ويعطي نمور أهمية للمساحة التي تحتلها وجهة نظر الضحية للفعل المقترف، فـ"من ناحية ما قد يشكّل الأمر تحرشاً لشخص ما وقد لا يشكّل تحرشاً لآخر نظراً إلى ضرورة المحافظة على استقرار العلاقات الاجتماعية المختلفة، لا سيما علاقات العمل منها". ويعتقد أن سلوك الطريق الجزائية مباشرة، مع كل ما يستتبع ذلك من علانية وتوقيف وعقوبة مقيّدة للحرية، قد يغيّب عملياً أي فرضية للمحافظة على بيئة اجتماعية أو بيئة عمل سليمة أو حتى استمرارية العمل بحدّ ذاتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ماذا عن التحرش المعنوي؟
ويلاحظ المحامي كريم غياب الأحكام الخاصة بالتصدي للتحرش المعنوي، لا سيما في إطار علاقات العمل، موضحاً "أن هناك جوانب لا تحصى من التحرش المعنوي من شأنها أن تؤثر مباشرة في التدريب المهني أو في الاستمرارية في الوظيفة أو في الترقّي فيها أو في الأجر أو أن تحدث بيئة عمل تخويفية أو عدائية أو ضاغطة أو مذلة".
ويعتقد أن هناك ضرورة لإدراج مثل هذه الأحكام في التشريعات الجديدة "من أجل التصدي لمختلف أنواع التعسف والترهيب والتسلط التي يعاني منها عدد هائل من الأجراء اليوم في لبنان، وهم غالباً ما يخضعون لها بسبب حالة التبعية المهنية والمالية الملاصقة لعلاقات العمل في اقتصادنا النيوليبرالي".
التحرش "جريمة إلى أجل"
وعلى الرغم من إقرار مجلس النواب التشريع الجديد، إلا أن تنفيذه يبقى مشروطاً بصدوره في الجريدة الرسمية. ويتخوّف نمور من أن يكون مصيره مشابهاً لقوانين أخرى مثل قانون تحرير الإيجارات القديمة المعقودة قبل سنة 1992، وقانون حماية أفراد الأسرة من العنف الأسري، وقانون مكافحة جرائم الإتجار بالبشر، التي هدفت إلى إيجاد حلول قانونية لإشكاليات اجتماعية، لكن سرعان ما يُستمهل وضع هذه الحلول قيد التنفيذ من خلال الإحالة إلى قرارات أو مراسيم تنظيمية أو تطبيقية لاحقة، غالباً ما لا تصدر أو تستغرق سنوات للصدور، فتوجد بالمقابل فراغات قانونية تشكّل عوائق في وجه تنفيذ أهداف القانون الأساسي بشكل متكامل وشامل.
المجتمع المدني متحفظ
وقد استقبل المجتمع المدني قانون "تجريم التحرش الجنسي وتأهيل ضحاياه" بـ"فتور". وتعتقد الناشطة عليا عواضة المسؤولة في جمعية Female أن هذا القانون يحمل وجهين، فهو من ناحية "يشكّل انتصاراً لاعتبارات عدة، لأن لبنان من البلدان القليلة في العالم العربي التي أقرت قانوناً يجرم التحرش، وهو خطوة إيجابية".
كما تعتبر عواضة أن مجرد إقراره يمثّل خطوة إلى الأمام، مذكّرةً أنه "منذ سنتين، وعندما اقترح النائب غسان مخيبر تجريم التحرش، استقبل باقي النواب هذا الطرح بالسخرية، وتم سحبه من التداول آنذاك". كما أن هذا القانون قد يلعب دوراً في تخفيف "الفجوة الجندرية" ويسهّل الوصول إلى "خفض التمييز ضد النساء".
وترفض عواضة وضعه في خانة الإنجاز للبرلمان الحالي، لأنهم "أقرّوه تحت وطأة الضغط والحاجة لتقديم إنجاز أمام المجتمع الدولي".
كما تتحفظ الناشطة في مشروع "شريكة ولكن"، على عدم تعاون واضعي القانون مع الجماعات الفاعلة في المجتمع المدني، وتعترض على شرط "التكرار في تكوين الجريمة"، لأن "التحرش قد يكون من أول حادثة ولا يتطلب التكرار لإثبات حصوله". كما تلقي عواضة الضوء على "عدم الإشارة إلى آليات التطبيق والموكلين بها، لذلك يجب معرفة الأرضية والوضعية اللتين سينفّذ بموجبهما القانون".
وفي المحصلة، يشكّل إقرار هذا القانون في لبنان خطوة نحو الأمام في تحقيق المساواة في المجتمع، إلا أنه يحمل في طيّاته بذور تعطيله من خلال اعتماد معايير أخلاقية في "تكوين الجريمة"، وما يستتبعه هذا الأمر من دور تلعبه البنى الثقافية والقيم الاجتماعية.