يوماً ما، قد يسجّل المؤرخون المستقبليون للولايات المتحدة الحقبة الحالية باعتبارها تُقسّم إلى ما قبل دونالد ترمب وما بعده. وسيرى البعض في ترمب شذوذاً، وشخصية مثيرة للاضطراب اقتحمت مسار التردّي البطيء، إنما الأكيد، لقوة عظمى، من دون أن تقدر على قلب اتجاه ذلك التيار.
وبالنسبة إلى البعض الآخر، قد يعدّ أقرب إلى "المصحح العظيم" great corrector الذي حاول وضع حدٍّ لسبعين عاماً من التدخل غير النموذجي في الخارج، واستئناف العمل في سياسة الولايات المتحدة أثناء مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية.
لكن هذا النقاش العظيم لن يُفتح في الوقت الحالي، وربما لعقود آتية من الزمن. لأنه في المستقبل المنظور، لن يكون المفصل التاريخي هو ولايته الرئاسية بعينها، بل يوم 6 يناير (كانون الثاني) 2021. وسيُنظر إلى رئاسته حصرياً عبر تلك العدسة- المشوهة.
واستطراداً، لقد ترسّخت سمعته السيئة باعتباره خائناً "حرّض" على انتهاك حرمة الديمقراطية الأميركية المقدسة كي يصبح بعدها الرئيس الأميركي الوحيد الذي يتعرّض للعزل مرّتين. وتأكيداً على ذلك، من الأرجح أن يتمثّل الآتي في محاكمة في مجلس الشيوخ، مع أن ولاية ترمب ستكون قد انتهت حينها.
والرسالة واضحة. تماشياً مع شعار أحد ملصقات السيارات المفضلة لدى الأميركيين "لا تعبثوا مع تكساس"، فلا يمكنكم العبث بمؤسسات السلطة الأميركية. وإن أقدمتم على ذلك، وخسرتم، لن تُرحموا.
إذ إن التاريخ، كحاله دائماً، يكتبه المنتصرون، والولايات المتحدة مكان لا يرحم المنبوذين. قد تتيح بلاد الفرص، وفق ما يسمونها، فرصة انطلاقة جديدة للجميع. في المقابل، ثمة استثناءات، ومن الأرجح أن تشمل حتى سيّد التغيير وإعادة الابتكار.
وفي ذلك الصدد، لقد غيّر اقتحام الكابيتول مستقبل جماعة ترمب ربما بأكثر حتى من أسوأ تصوراتهم. وبالنسبة إلى ترمب نفسه، فإن إقصاءه عن وسائل التواصل الاجتماعي، بما فيها "تويتر" المفضل لديه، يشكّل أقل الشرور، على الرغم من كل الأسئلة التي قد يثيرها ذلك الحظر بشأن حرية التعبير والتفويض الانتخابي ونفوذ أقطاب الإعلام الجديد.
واستطراداً، لقد أصبح أي احتمال للتقاعد الهادئ في ملاعب الغولف التي يملكها، موضع شك. وتفيد تقارير بأنّه وعائلته أصبحوا منبوذين من جهات كثيرة داخل دوائرهم الاجتماعية. وقد تبخّرت كل فكرة عن عودته إلى السياسة، بل حتى ترشحه للرئاسة مرة جديدة. ومن غير المؤكد أن يستطيع الآن تأسيس وسيلته الإعلامية الخاصة، حتى لو رغب في ذلك. ولن يكون منجم الكسب السهل الذي تمثّله سلسلة المحاضرات واللقاءات المخصصة للرؤساء السابقين، متاحاً له.
ليس من الأكيد أيضاً أنه سيبقى قادراً على الوفاء بالتزاماته المالية. ويُضاف إلى مسألة الضرائب التي ظهرت خلال ولايته، ولا شك أنها ستُلاحقه الآن أكثر، ابتعاد المصارف والمتعاقدين التجاريين عنه، خوفاً من تشويه سمعتهم بسبب صلتهم به. وبات الموظفون الذين منعهم ولاؤهم الشديد له أو عدم رغبتهم في المخاطرة من الفرار من سفينة ترمب الغارقة في الوقت المناسب، يخشون عدم تمكّنهم من العثور على فرص عمل (أخرى). وبحسب رأيي، يمكن للولايات المتحدة أن تكون مكاناً لا يرحم.
في مفصل متصل، لقد تمسّك أميركيون كثيرون بعبارة "لسنا هكذا"، أثناء متابعتهم الفوضى العارمة التي دارت في الكابيتول عشية "عيد الغطاس". وبشكل فوري، وُصمَ كل من شارك فيها بأي شكل من الأشكال بأنه "غير أميركي"، وتلك من أكبر الجرائم في شريعة الولايات المتحدة، وأقبحها بالنسبة إلى أي رئيس. وبذا، حُشر دونالد ترمب الآن مع ذلك الفاسق ريتشارد نيكسون، الذي حفظ خلافاً لترمب بعضاً من كرامته حين تقبَّل مصيره.
واستكمالاً لتلك الصورة، لم يتعرّض مستقبل ترمب وحده للتشويه بسبب حوادث الكابيتول، بل ماضيه كرئيس أيضاً. وبات من المسلّم به الآن أنه "حرّض" حشداً غوغائياً وحثّ على "عصيان" وقع، مثلما يشير بعض الناس، على شكل "انقلاب ضد نفسه" self-coup.
ولقد دقّقتُ في كل ما تفوّه به ترمب ولا يمكنني أن أجد أي دليل على أي من هذه الأمور. لكنها الرواية المعتمدة الآن، ومن غير المرجح أن تخضع للتشكيك إلى أن يظهر، أو في حال ظهر مؤرّخ يعيد قراءة التاريخ بعين المُراجع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا يهم فوز ترمب بأكثر من 70 مليون صوت في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وهي ثاني أعلى حصيلة أصوات في تاريخ الولايات المتحدة. وكذلك لا يهم أن نصف الأميركيين الذين اختاروا أن ينتخبوا تقريباً، اختاروا أن ينتخبوه بالتحديد. سينظر إلى ولايته الرئاسية إلى الأبد في ظل الضوء الساطع لمبنى الكابيتول المُنتهك ورفضه الاعتراف بالهزيمة. ثمة نسخة وحيدة عن رئاسة ترمب الآن.
في نفس مشابه، يصرّ كثيرون في الدوائر السياسية والإعلامية الآن، ممّن كانوا إلى جانبه لأي سبب من الأسباب، أنهم لم يكونوا متوهمين، بل علموا بعيوبه، وهو أمر ربما صحيح أو غير صحيح. في المقابل، يتمثّل الصحيح في أنه لو لم تقع حوادث ذلك اليوم ولم تترسّخ اتهامات التحريض على العنف، ربما ظهر تصوّر مختلف الآن عن ترمب ورئاسته. وكذلك اختلف نص ورقة نعيه السياسي مع خروجه، وإن غير الأنيق، من منصبه.
من تلك النقطة، حتى عبر وجهة النظر هذه، كانت كفة الميزان لتميل نحو الخسارة إجمالاً، جزئياً لأن كثيرين من أعداء ترمب في السياسة والإعلام سيحرصون على ذلك، وكذلك بسبب الدلائل التي ظهرت عن الإدارة الفوضوية في البيت الأبيض وتقلبات السياسات المستمرة وانعدام الكفاءة في التعاطي مع جائحة كوفيد- 19 وسلوك ترمب الذي قلّل من كرامة واحترام المنصب الرئاسي أحياناً.
وتبتعد كل هذه الملاحظات عن السياسة إجمالاً. لكن من بعض النواحي، ليست رئاسة ترمب الفشل الذريع الذي يصوّر لنا غالباً. فقد أتاح انتخابه، بوصفه شخصاً جاء من خارج مؤسسة الحكم في واشنطن، لنسبة كبيرة من الأميركيين من المناطق الأقل ثراء وانفتاحاً على العالم، بأن يشعروا أن صوتهم مسموع.
وعلى نحو مشابه، عالج ترمب مسألة اختلال التوازن التجاري وتدنّي الأجور وخسائر الوظائف التي أفرزها "اتفاق التجارة الحرة لأميركا الشمالية" ("نافتا") عبر إعادة التفاوض على شروطها. وربما لم يشيّد "جداره" على امتداد الحدود مع المكسيك، لكنه اتخذ إجراءات للحدّ من الهجرة، أيّدت المحكمة العليا بعضها.
وفي السياق، عيّن ترمب ثلاثة أشخاص في تلك المحكمة، غيّروا الموازين فيها، من دون أن يغيّروا استقلاليتها إلى الآن. واعتُبر من عيّنهم أشخاصاً كفوئين وغير مدينين لهذا الرئيس المتمرّد. من جهة أخرى، ربما شكّل استخدامه لوسائل التواصل الاجتماعي، وبشكل أساسي منصة "تويتر"، أمراً غير تقليدي، إنما تبيّن أنه فاعل للغاية، وقد أسس توجهاً جديداً. ثمة حفنة قليلة من الزعماء الوطنيين ممن لا يحاولون الآن إيصال رسائلهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بشكل أو بآخر. وكذلك لم تكن تغريداته، وفق ما كشف عنه كتاب مذكرات مستشاره السابق للأمن القومي جون بولتون، خارجة عن السيطرة كلياً، إذ راجع موظفو البيت الأبيض أعداداً كثيرة منها.
وفي الخارج، مثّل ترمب ما اعتبره كثيرون من الأميركيين (وليس مناصري ترمب وحدهم) مصلحتهم الوطنية، عبر مطالبة أعضاء حلف "ناتو" الأوروبيين بدفع مزيد من المال، وكذلك عبر إظهار أن الولايات المتحدة لديها اهتمامات أخرى، ربما أكثر إلحاحاً، من الدفاع عن أوروبا. وينطبق وصف مماثل على محاولة فرض قواعد تجارية دولية على الصين والمخاطرة بإجراء لقاء أول مع زعيم كوريا الشمالية، كان من شأنه أن يسهم في الحدّ من بعض التوترات في تلك المنطقة.
وكذلك توضح مذكرات بولتون أن ترمب بذل جهوداً جبّارة من أجل الوفاء بوعده الانتخابي في إقصاء الأميركيين عن الحروب الخارجية، على الرغم من الضغوط المستمرة التي بذلها كبار المسؤولين العسكريين وكذلك المصالح الاستخباراتية المتمثّلة في إبقاء القوات الأميركية داخل أفغانستان والشرق الأوسط.
في رأيي، يشكّل عدم التقارب مع روسيا فشلاً، لكن ذلك ليس فشل ترمب بل المسؤول عن هذا الفشل هو المؤسسة السياسية المتعنّتة العالقة في عقلية الحرب الباردة.
ومن نواحٍ كثيرة، ربما تكون نظرة التاريخ إلى ترمب، في حال تمكّن من تخطي الشهر الأخير في رئاسته، أكثر لطفاً من نظرة مؤرّخيه إليه اليوم. ويشمل ذللك تسخيره الوسائل الحديثة في إيصال رسالته، وكذلك أولوياته الخارجية، على الرغم من إحباط جهوده من قبل التقليديين في واشنطن، إضافة إلى اهتمامه بمخاوف المناطق التي تسمّى أميركا "المُغْفَلَة". وباختصار، يمكن النظر إلى ترمب على أنه رئيس دافع عن المصلحة الوطنية وفق ما تراها طبقة غير النخبة، وكذلك توقّع التغيرات العالمية الآتية.
وفي ذلك الصدد، من الصحيح أن واشنطن تصعّب حياة الدخلاء عليها. وقد شكّل ترمب، رجل الأعمال والاستعراض الذي أصبح سياسياً، شخصاً غريباً عنها ومحطّماً للقواعد أكثر من أي شخص وصل إلى البيت الأبيض. في المقابل، لم يسعَ ترمب يوماً إلى القبول، خلافاً لما فعله نيكسون. فقد استمتع بمكانته كغريب واعتبرها جزءًا من جاذبيته السياسية.
وكخلاصة، ربما مع مرور الوقت، سيحدث بعض الإصلاح في صورة دونالد ترمب بعض الشيء، وفق ما حدث مع نيكسون، فيُنظر إليه ليس على أنه أميركي سيّء السمعة فحسب، بل بوصفه شخصية تراجيدية، انتهت فترة رئاستها فعلياً بسبب خطأ جسيم. وقد يلتحق "دونالد ترمب، الرئاسة" بـ"نيكسون في الصين" في الذخيرة الأوبرالية العالمية.
في المقابل، لن تحصل أية إعادة تقييم قريباً. سيظلّ إرث ترمب في الوقت الراهن، سواء حقاً أو ظلماً، باعتباره الرئيس الذي حشد زمرة غوغائية في محاولة واهمة للبقاء في السلطة. ولن تسجّل ذاكرة التاريخ يوم انتخابه المفاجئ في 8 نوفمبر (تشرين ثاني) 2016، بل ستسجّل 6 يناير 2021، يوم اجتياح الكابيتول الأميركي.
© The Independent