رغم أنف كورونا، ومن دون النظر بعين الاعتبار أو الاحترام إلى القانون، واعتبار ما مضى من عقود المواجهة والمحاصرة والمكافحة هي والعدم سواء، نسقت مجموعة من الأهالي في مدينة فرشوط بمحافظة قنا (جنوب مصر) "حفل" ختان جماعي لبناتهم اللاتي تراوحت أعمارهن بين ثمانية أعوام و14 عاماً، ولولا وحدة حماية الطفل في المدينة التي "أفسدت" فرحة الأهل، لأحيت مجموعة البنات "اليوم العالمي لعدم التسامح مطلقاً إزاء تشويه الأعضاء التناسلية للإناث" بأعضاء تناسلية كاملة التشوه.
تشويه الأعضاء التناسلية الذي طال 200 مليون أنثى حول العالم ما زال يقاوم المنع، ويتحدى التجريم، ويمسك بتلابيب العادات والتقاليد مرة، والدين مرات ومرات. عدد المرات التي توجهت فيها سناء عبد المطلب (30 عاماً) بابنتها إلى مجمع العيادات الخيري القريب من بيتها لتتفق مع طبيب، أو حتى ممرض، أملاً في تشويه أعضاء ابنتها التناسلية، لا يعد أو يحصى. تقول ضاحكة "مرة أتفق مع الممرض فيرفض الطبيب، ومرة أتفق مع الطبيب فيؤجل خوفاً من الحكومة، ومرة أتفق مع الاثنين فتمرض ابنتي لدرجة أنني اتهمتها بأنها نحس"، ثم تعبس قليلاً وتقول بكل جدية "الله ينتقم ممن يجرمون الشرع والدين".
شرع الله، الذي تبذل الدول الموبوءة بفيروس تشويه الأعضاء التناسلية للإناث أو الختان جهوداً عاتية من أجل تبرئة ساحته من هذه المجزرة، لا يشير من قريب أو بعيد إلى وجوب تشويه أعضاء الإناث! وردت دار الإفتاء المصرية مراراً وتكراراً على الفتاوى التي أطلقها غير المتخصصين على مدار عقود، والتي تقول بوجوب ختان الإناث، وتدعو إليه. وقالت الدار إن ختان الإناث ليس قضية دينية تعبدية في أصلها، بل هي عادات وتقاليد وموروثات شعبية. وذهبت الدار إلى تحريم الختان والاتفاق على ذلك من دون تفرقة للكلمة واختلاف لا مبرر له. وأضافت الدار أن النبي، صلى الله عليه وسلم، نفسه لم يختن بناته، مؤكدة أن حديث "أم عطية" الذي يستند إليه البعض في ختان الإناث "ضعيف جداً"، ولم يرد به سند صحيح في السنة النبوية.
المفاجأة هي أن هناك جمعية مشهرة اسمها "منظمة أم عطية الأنصارية" مسجلة طبقاً لأحكام وزارة الشؤون الإنسانية ومفوضة العون الإنساني في السودان كـ"منظمة طوعية دعوية علمية للارتقاء بالأسرة المسلمة والعناية بشؤونها". وبحسب الجمعية فإن أبرز لوائحها هي: توضيح الأدلة الشرعية الخاصة بحكم الختان الشرعي للإناث، والموضع التشريحي، وتوضيح الفوائد الصحية للختان، ونشر ثقافة ختان الإناث الشرعي، والعمل على إدخال طريقة الختان الشرعي للإناث في المناهج التعليمية، وتوفير الحماية القانونية لممارسة ختان الإناث وإنشاء عيادات متخصصة لإجرائه!
تطبيب الختان
إجراء الختان على يد طبيب يظنه البعض الطريقة المثلى لتشويه أعضاء بناته التناسلية. تقول سناء عبد المطلب، صاحبة محاولات ختان ابنتها المتعددة "وهل هناك طريقة أفضل من طبيب يطاهر البنات؟!".
الطبيب المتخصص الذي يجري عمليات تشويه أعضاء الإناث التناسلية يلقبه البعض بـ"طبيب متدين الله يبارك له"، وينعته الآخر بـ"المجرم"، أو "من يبيع ضميره مقابل بضعة جنيهات". الطبيب والكاتب خالد منتصر كتب مقالاً قبل عام عنوانه "ندى ضحية ختان العقل" عن طفلة فقدت حياتها أثناء عملية ختان على يد طبيب جراح. وجاء فيه أن "الطفلة ندى ماتت في عيادة مجرم يحمل صفة طبيب، ومن أجل بضعة جنيهات يبيع ضميره ويجرى جراحة غير موجودة أصلاً في المراجع الطبية".
ووصف منتصر تطبيب الختان باعتباره "أكبر جريمة، إذ لم يعد الختان يجرى بيد الداية، بل صار جريمة شيك (أنيقة) تستخدم البالطو (المعطف) الأبيض وقفازات الطبيب". وبحسب صندوق الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) فإن واحدة بين كل أربع فتيات مختتنات، أي نحو 52 مليون فتاة في العالم خضعن لذلك التشويه على أيدي موظفين صحيين بينهم أطباء.
سنة نبوية!
طبيب وأستاذ جامعي بإحدى كليات الطب الحكومية في مصر، وابن فنان مشهور ظل سنوات طويلة يدافع عن ختان الإناث "لأنه سنة نبوية"، وعرف في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي بمعارضته الشديدة لتجريمه باعتبار مثل هذه القوانين متعارضة والشرع الإسلامي! وعلى الرغم من توقف الطبيب عن التحدث علناً عن موقفه المؤيد تماماً لختان الإناث، فإن غيره يعمل ويجتهد في الختان، سواء بدافع عقدية ملتبسة أو بحثاً عن بضعة جنيهات.
بضعة الجنيهات التي كان سيسددها الأهالي في عملية الختان الجماعية المجهضة في فرشوط قبل أيام كانت ستستقر في جيب طبيب جراح والوسيط الذي يعمل في الوحدة الصحية. أطراف ختان الإناث في أي مجتمع هم: الأهل والطبيب أو الممرض أو الداية والضحايا الصغار من الإناث اللاتي لا حول لهن ولا قوة إلا قوة القانون، التي تقف في اليوم الدولي المخصص أممياً لمناهضة تشويه أعضاء الإناث التناسلية في مواجهة قوة كل من الفهم الخاطئ للدين الإسلامي والعادات والتقاليد.
كريستين (55 عاماً)، وجورجيت (57 عاماً)، سيدتان مصريتان مسيحيتان من صعيد مصر، ومختتنتان، و"هذا هو الطبيعي" كما تؤكدان. ختان الإناث في دول عدة بينها مصر ليس حكراً على المسلمات، بل يمتد إلى غيرهن من أديان ومذاهب مختلفة. وعلى الرغم من أن "هذا هو الطبيعي"، فإن بناتهما الأصغر سناً فلتن من براثن التشويه بسبب الزوجين اللذين عارضا ذلك. يشار إلى أن الرجال في الدول التي ينتشر فيها ختان الإناث أكثر معارضة لذلك التشويه من النساء أنفسهن اللاتي يسردن مبررات عدة لتأييدهن الختان.
تأييد ودفاع ومبررات
تأييد الختان والدفاع عنه وإخضاع الفتيات له يستند إلى مبررات عدة. يحدثونك عن ضمان العفة وكبت الشهوة وطهارة الأنثى وحياء المجتمع وشرف الرجل. تحدثهم عن حقوق الإنسان وآدمية المرأة، فتتواتر الردود بين "مؤامرة الغرب الحقوقية لتقويض الأمة الإسلامية" أو "هدم المجتمعات الأفريقية"، أو "التدخل فيما لا يعنيهم"، و"تفتيت ثقافة المجتمعات الإسلامية في دول آسيوية أو أوروبية أو أميركية جنوبية أو روسية".
انتهاكات دون هوادة
من أفريقيا إلى الشرق الأوسط إلى آسيا ومنها إلى أميركا الجنوبية وعدد من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، ينتهك الختان الإناث دون هوادة. تشير "يونيسيف" إلى أن انتشار ختان الإناث في دول عدة ممتدة من شاطئ الأطلسي إلى القرن الأفريقي، وفي مناطق أبرزها الشرق الأوسط مثل العراق واليمن ومصر، وفي دول آسيوية مثل إندونيسيا والمالديف. وهو القاعدة الممارسة في دول مثل الصومال وغينيا وجيبوتي، وأقل في الكاميرون وأوغندا. ويمتد ليصل إلى مشارق الكوكب ومغاربه من الهند إلى كولومبيا وماليزيا وعمان بدرجات متفاوتة. كما أنه موجود في جيوب سكانية في دول أوروبية وأستراليا وأميركا الشمالية، وهي الدول التي أصبحت وجهة للمهاجرين الذين قدموا إليها حاملين عاداتهم وتقاليدهم معهم. والأدهى من ذلك أن بعض المهاجرين في دول غربية تجرم ختان الإناث وتفعل القانون بكل صرامة يعودون إلى بلادهم للزيارة في الصيف، وبالمرة تشويه أعضاء بناتهم التناسلية قبل العودة لحياتهم الجديدة في الغرب.
"كوفيد-19" والختان
وفي الغرب والشرق وما بينهما احتفاء بـ"اليوم الدولي لعدم التسامح مطلقاً إزاء تشويه الأعضاء التناسلية للإناث"، اليوم 6 فبراير (شباط) عام 2021 توجه كل من المديرة التنفيذية لصندوق الأمم المتحدة للسكان، ناتالياً كانيم، والمديرة التنفيذية لـ"يونيسيف"، هنريتا فور، رسالة تناسب أجواء هذا العام الوبائية. فالعقد المقبل يتوقع أن يشهد مليوني حالة إضافية غير المتوقع أصلاً لختان الإناث بسبب تفشي فيروس كورونا الذي تسبب في إغلاق المدارس وتعطيل برامج المساعدة في حماية الفتيات من هذه الممارسة، لذلك تدور المطالبة هذا العام بالتحرك الفوري للحيلولة دون وقوع المزيد من الضحايا.
وتشير الرسائل إلى الالتزام الذي سبق انتشار الوباء بإنهاء ختان الإناث مع حلول عام 2030، بحسب ما ورد في أهداف التنمية المستدامة. وعلى الرغم من تعقد الأوضاع وصعوبتها بشكل واضح بسبب الوباء، فإن "كانيم" و"فور" تؤكدان الالتزام بحماية أربعة ملايين أنثى معرضة للختان كل عام. وتطالبان باتحاد الجهود والتعاون على مستويات عدة منها العالمي والإقليمي والوطني والمحلي والمجتمع المدني، بدءاً من المنظمات الشعبية الصغيرة وجماعات حقوق المرأة، وصولاً إلى المنظمات غير الحكومية الدولية وعناصر التغيير، ويشمل المعلمين والعاملين الصحيين والقيادات الدينية ورجال ونساء الدين المحليين، بالإضافة إلى الدور البارز الموكل إلى موظفي إنفاذ القانون والموظفين القضائيين. كما أن الرجال والفتيان يلعبون دوراً حاسماً، ومعهم النساء والفتيات المختتنات اللاتي يمكن أن يلعبن دوراً بالغ الأهمية في التوعية.
اتحاد وتمويل
ومع التزام الاتحاد يأتي الالتزام بالتمويل، ويبدو أنه الأصعب. وتقدر تكلفة تحقيق الهدف العالمي المتمثل في القضاء على الختان بقدوم عام 2030 نحو 2.4 مليار دولار أميركي، وهو ما يعادل نحو 100 دولار لكل فتاة معرضة للخطر. وتتضمن الرسالة مطالبة بالعمل السريع والحاسم لضمان حصول الفتيات على التعليم والرعاية الصحية بما في ذلك خدمات الصحة الجنسية والإنجابية وسبل العيش، والتأكيد أنهن محميات بموجب القوانين والسياسات والأعراف الاجتماعية الجديدة التي تحمي الجميع من كل أشكال العنف. فالمساواة في الحق بالحماية من جميع أشكال العنف تأتي ضمن حزمة أكبر وأشمل، وهي تحقيق المساواة بين الجنسين، فإذا تحققت لن يكون هناك تشويه للأعضاء التناسلية للإناث.
ووفقاً لدراسة أجراها صندوق الأمم المتحدة للسكان، فإن 30 دولة تنتشر فيها ممارسات الختان تشهد نمواً سكانياً سريعاً، ما يعني مزيداً من ضحايا التشويه، الذي يعني مزيداً من التكلفة الاقتصادية. وتخبرنا منظمة الصحة العالمية عبر الأداة المعلوماتية التفاعلية التي دشتنها العام الماضي أن التكلفة الاقتصادية الحالية والمستقبلية لمد الإناث اللاتي يعانين آثار الختان بالخدمات الصحية للمشكلات الناجمة عن ذلك تقدر بنحو 1.4 مليار دولار أميركي سنوياً. وهذا يعني أنه في حال تم نبذ ختان الإناث فوراً، فإن هذا يوفر نحو 60 في المئة من التكلفة الصحية لمشكلات الختان مع قدوم عام 2050.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تكلفة نفسية منسية
على الرغم من أهمية التكلفة الاقتصادية لتشويه أعضاء الإناث التناسلية، فإن التكلفة النفسية أعمق وأعتى وأقسى. فبين إهدار للآدمية، والتعامل مع الأنثى بمباركة المجتمعات باعتبارها أداة لممارسة الجنس وقتما يشاء آخرون، ومن ثم التحكم فيها وفي أعضائها التناسلية لتفي بالغرض، لا أن تتمتع هي أيضاً بالغرض، والمشكلات النفسية والعصبية التي يغفلها تماماً المؤمنون والمؤمنات بالختان، والمشاعر التي تعتري المختتنة، التي تتطابق مع مشاعر من تعرضت للاغتصاب، ناهيك باختزال شرف الرجل في عضو المرأة التناسلي، وهو ما يساعد على أمراض المجتمع كله نفسياً يمضي الختان قدماً ومعه تمضي جهود إنهائه بين تعثر وتعسر حيناً، ونجاح وأمل أحياناً.
أحياناً ينتفض القانون لحماية النساء والفتيات، وأحياناً أخرى يواجه هذا الانتفاض بجهود إخماد مجتمعية وشعبية. إنها المواجهة المميتة بين القانون وقوة إنفاذه من جهة والعادات والثقافة وعناد التمسك بها من جهة أخرى. وقبل أيام قليلة، قوبل تعديل المادة 242 مكرر في القانون المصري بعاصفة متضاربة من ردود الفعل. احتفاء رسمي وحقوقي صاخب من جهة، وتنديد شعبي وديني غير رسمي كامن من جهة أخرى. التعديل الجديد ينص على أنه "يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات كل من أجرى ختاناً لأنثى بإزالة جزء من أعضائها التناسلية أو سوى أو عدل أو شوه أو ألحق إصابات بتلك الأعضاء". ويحوي التعديل تغليظاً للعقوبات تصل إلى سجن مشدد لا يقل عن سبع سنوات لمن يتسبب لها في عاهة مستديمة. أما إذا تسبب في وفاة فتكون العقوبة سجناً مشدداً لمدة لا تقل عن عشر سنوات.
ويضيق التعديل الجديد الخناق على الطواقم الطبية التي تصر على ممارسة الختان، فنص التعديل على أن "تكون العقوبة السجن المشدد إذا كان من أجرى الختان طبيباً أو مزاولاً لمهنة التمريض، فإذا نشأ عن جريمته عاهة مستديمة تكون العقوبة السجن المشدد لمدة لا تقل عن 10 سنوات، أما إذا أفضى الفعل إلى الموت تكون العقوبة السجن المشدد، لمدة لا تقل عن 15 سنة، ولا تزيد على 20 سنة". وشمل التعديل الأهل ومن يدفع بالأنثى إلى الختان، فنصت على أن "يعاقب بالسجن كل من طلب ختان أنثى وتم ختانها بناءً على طلبه، كما يعاقب بالحبس كل من روج، أو شجع، أو دعا لارتكاب جريمة ختان أنثى، ولو لم يترتب على فعله أثر".
قياس الأثر
أثر القانون لا يقاس إلا بالالتزام والتطبيق، لكنها تظل خطوة جيدة متزامنة واليوم الدولي لمناهضة الختان. وفي اليوم نفسه، يناقش "البنك الدولي" في ورشة افتراضية فيلم "فتاة من مقديشو" الذي يعرض قصة الفتاة الصومالية أفراح أحمد مع الختان، ويناقش ما تتكبده ملايين النساء والفتيات حول العالم بسبب هذا العنف الجسدي والنفسي تحت شعار "لا وقت للتقاعس الدولي: توحدوا ومولوا واتخذوا خطوات فعلية لإنهاء تشويه أعضاء الإناث التناسلية".
وقبل أيام، وصل عدد حالات الإصابة بـ"كوفيد-19" مئة مليون حالة في العالم وتجاوزت الوفيات مليوني شخص، لكن يبدو أن هذه ليست وحدها الأرقام التي تسير في اتجاه غير مرغوب فيه. فـ"كوفيد-19" لا يهدد سكان الأرض فحسب، بل يبالغ في تهديد الإناث بالمجتمعات التي تنتهج تشويه أعضائهن التناسلية. انشغال الطواقم الطبية والخدمات الصحية بمواجهة الوباء، وغرق حكومات العالم في اتباع إجراءات واحترازات لتطويق الفيروس، وتوقف غالبية المدارس، تعني أن الفرصة سانحة لمن في نفسه هوى لإخضاع بناته لهذا التشويه في غفلة من الفيروس والقانون والمحاسبة.
هذا العالم، وللعام الثاني على التوالي، يدعو صندوق الأمم المتحدة للسكان في الدول العربية إلى الاستمرار في وضع خطط الاستعداد والاستجابة للتصدي لأثر وباء "كوفيد-19" على الفتيات والنساء المعرضات لخطر، والمتضررات من تشويه الأعضاء التناسلية مع ضرورة تقييم الآثار الناجمة عن "كوفيد-19"، التي تتغير من شهر لآخر على البرامج المعنية بالقضاء على الختان.