لا مفر لمن يجد بين يديه كتاب الشاعر الفرنسي لوي أراغون، المعنون "مجنون إلسا"، من أن تذهب ذاكرته فوراً إلى تلك الحكاية العربية القديمة "مجنون ليلى"، وحتى من قبل قراءة تلك القصيدة الأراغونية الطويلة والمعتبرة عادة واحدة من أجمل قصائد الحب التي كتبت في القرن العشرين. ثم بعد ذلك، حين يقرأ حامل الكتاب القصيدة لن يدهشه أن يجد الإشارات العربية ماثلة فيها، بدءاً من "المجنون قيس" وفاتنته ليلى التي احتفت آداب كثيرة بحكايتها والإفتنان بها، إلى ابن رشد الأندلسي، فموسى بن ميمون مع إطلالات على شعر فديريكو غارسيا لوركا تستخلص ما هو أندلسي فيه دون أن ننسى الجانب العربي من حكاية دون كيخوتي، بيد أن هذا كله ليس سوى جزء يسير من الحضور العربي المشرقي – المغربي في قصيدة أراغون، ما يدفع الباحثين دائماً إلى الإشارة إلى أن أراغون إنما كتب تلك القصيدة عند نهاية سنوات الخمسين ضمن إطار انشغاله بأفكاره المعادية للكولونيالية والمناصرة للجزائريين في ثورتهم الاستقلالية. ومن هنا نراه، على عادته، يربط النضال السياسي بالحب والجمال وعبق التاريخ الأندلسي من خلال حكاية ذلك المجنون المعاصر وهيامه بليلاه الخاصة، أي تحديداً إلسا التي دائماً ما كتب لها أراغون قصائده جاعلاً منها مفتاحه لولوج العيش والخلود.
الأندلس التي لا تموت
في هذا الإطار، وانطلاقاً من "أندلسيته" الغامرة، وجد أراغون في العلاقة بين الثقافتين العربية والأوروبية المسيحية، وسيلة للتعبير عن أفكاره المطبوعة بحرب الجزائر من ناحية وبغرامه الذي لاينتهي بإلسا. أما الإطار العام للنص فتاريخي تعمد الشاعر أن يعطيه بعداً مسرحياً من خلال بعد درامي، يصل أحياناً إلى حدود التراجيديا، ويتمحور خاصة من حول سقوط غرناطة الأندلسية ومن ثم الأندلس جميعها بين عامي 1490 – 1492 المتزامنين مع اكتشاف أميركا وولادة العالم الجديد الذي لن يجمعه بالقديم إلا الحب، ولا شيء غير الحب. عالم لا يفوت أراغون أن يصور فيه فيما يصور العقلانية الإسلامية – اليهودية التي سادت الفكر والحياة الأندلسيين حينها لتوءد تحت ربقة محاكم التفتيش الكنسية وتقلب العالم رأساً على عقب، مبقية للمؤرخين وللشعراء كما للمؤرخين – الشعراء مهمة التذكير بتلك العصور الذهبية.
حرب الجزائر
وكان ذلك على أي حال أمراً أخذه أراغون على عاتقه في شعره وكتابتاته كلها، ولكن خاصة في "مجنون إلسا" التي أعلن فيها دون مواربة أنه إذا كان للعالم الجديد، عالم ما بعد سقوط الأندلس في التاريخ البعيد، وعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية في التاريخ الأقرب، أن يولد فإنما سيولد من الحب، من حرية الشعوب، وقد رمز إليها بالنضال الجزائري، وبشكل أخص من الدور الذي ستلعبه المرأة في مستقبل الرجل، حيث نراه يكتب (في الصفحة 196 من الطبعة الفرنسية الأولى) "المرأة مستقبل الرجل/ هي لون روحه/ هي همهمته وصخبه..."، وهي الكلمات الرائعة التي موسقها وغناها ذات يوم الشاعر الفرنسي التروبادور جان فيرا الذي كان واحداً من أبرز منشدي أشعار أراغون، ولسوف يحاكيه كثر في ذلك الإبداع الذي حول قصائد أراغون إلى أغانٍ، بل حول "مجنون إلسا نفسها" إلى مسرحية قدمت ذات صيف في معبد بعلبك في الشرق اللبناني في حضور أراغون نفسه.
من "الدادائية" والسوريالية إلى الشيوعية
ولد أراغون في باريس في أواخر عام 1897، وبدأ حياته الفنية تحت لواء الحركة "الدادائية"، ثم الحركة السوريالية، فكتب بعض أعماله الأولى الجيدة مثل "نار الحبور" (1920)، و"آنيسي" (1921)، و"فلاح باريس" (1926)، وكتابه "دراسة حول الأسلوب" الذي كان ثورياً في شكله ومضمونه. وفي عام 1930 أصبح أراغون شيوعياً وتخلى نهائياً عن "الأدب الخالص"... لينصرف بعض الوقت إلى العمل الصحافي النضالي. وفي تلك الأثناء كتب قصيدته "الجبهة الحمراء" التي أكسبته فترة من السجن، وأدت إلى حدوث القطيعة النهائية بينه وبين حلفائه السورياليين.
ولئن كان أراغون قد ابتعد بعض الشيء مع سلوكه النشاط السياسي عن الحب والجمال فإنه أبداً لم يبتعد عن اهتمامه الشعري بالمرأة التي ظل مؤمناً بأنها "مستقبل الرجل"، قائلاً غير مازح إن على الرجل أن يأخذ هذا الكلام على سبيل الإنذار "لقد سيطر الرجل على المرأة بفعل قوته الجسدية، فحولها إلى عبدة، لكن الأمور تغيرت الآن، بيد أن التغيير لم يشمل العلاقة بين الرجل والمرأة. ولهذا لا شك أن الغد سيحمل للرجال عناءً كبيراً... وبهذا ستكون المرأة قد حققت انتقامها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مهما يكن من أمر، كانت أقوى أعمال أراغون الشعرية تلك التي كتبها أيام المقاومة - ضد الاحتلال الألماني خلال الحرب العالمية الثانية - ولقد امتزجت في تلك القصائد إلسا، بالنضال. فكان وجهها الشاحب الجميل، هو نفس وجه الوطن، ووجه النضال في سبيل هذا الوطن. هو نفس الوجه المنقذ: "لم أكن بحاجة إلى أكثر من لحظة حتى يأتيني الموت"؛
"لكن يداً عارية أتتني حينذاك.. أمسكت بیدي"،
من، إذاً، أرجع الألوان الضائعة إلى الأيام، إلى الأسابيع"، "والحقيقة إلى الصيف الفسيح للأشياء الإنسانية".
"لقد كفاني ساعدان، ليصفا لحياتي، عقداً كبيراً من الهواء...".
وخلال الحرب العالمية الثانية، كان أراغون واحداً من كبار قادة المقاومة بين الأدباء والشعراء. وفي ذلك الوقت نشر "القلب المكسور"، و"عينا إلسا"، و"متحف غريفن" الذي يسجل عودته إلى الصيغ الكلاسيكية في الحب والوطنية، ولكن دائماً تحت عباءة إلسا التي تحولت من امرأة حقيقية إلى رمز للحب والوطن والسعادة والحياة معاً.
من ليلى وجولييت إلى إلسا
إلسا... التي كتب لها، وللوطن وللنضال السياسي الواعي، أراغون كل أشعاره ورواياته منذ عرفها... "ولكن هل تعرفون ليلى التي أحبها قيس؟ إلسا أكثر منها... هل تعرفون جوليت التي أحبها روميو؟ إلسا أكثر ارتباطاً بالحب منهما"، "أجل، لأنها هي عاشت هكذا علی الدوام... كانت دائماً مستعدة لمنحي قلبها وفكرها. وأنا الآن لا أحاول أن أستمر، بل أحاول أن نستمر معاً، أنا وهي... هي التي لم تبرح ذاكرتي على الإطلاق. بالنسبة إلى ليس ثمة أي تمييز بين النثر والشعر. فالذي كتبته كان بالنسبة إليّ، وعلى الدوام، تعبيراً عما كنت أفكر به، وهذا هو المهم بالنسبة لي (وليس هذا لأنني أعتبر نفسي ملتزماً - فالالتزام كلمة لا أحبها، وإن كنت أفهم حاجة جان - بول سارتر إليها! إنما هناك في قصائدي المتعلقة بالمقاومة، مسألة النضال ضد ما كان ممنوعاً – وهذا هو تعريف الشعر عندي - لكن هذا لا يفقد الشعر قيمته. فالشعر هو على الدوام شعر المناسبات، وهذه الحقيقة اعترف بها غوته من قبلي. ومرحى بشعر المناسبات! اليوم بإمكانكم القول إنني أحببت في ماضيّ أشياء لیست جديرة بأن تحب، غير أن هذا ليس كبير الأهمية، فالأمل بالتغيير يضيء دائماً الأمور بشكل خاص". عندما زار أراغون بعلبك وراح يتجول في معبد الشمس، كان الطقس شديد الحرارة، لكن الشاعر بشعره الأبيض الطويل، وثيابه الأنيقه على الرغم من بساطتها، والقدرة الهائلة على الحب التي تلوح في عينيه، راح يبتسم بهدوء وهو يتذكر أيام المقاومة، أیام الشعر والنضال... ويغرق في ذكريات عن أصدقائه الكثيرين من الأصدقاء: إیلوار... بیكاسو... شارلي شابلن... خلافاته مع بريتون. ثم تعود صورة إلسا إلى ذهنه من جديد.
شباب حتى النهاية
في ذلك الحين بدا أراغون أكثر شباباً من أي وقت مضى. وقال إنه لهذا يحب الشباب، يتسامح معهم، يبدي الكثير من العطف عليهم: هل هذا لأنك كنت شاباً... أراغون... وعشت كل شبابك؟
"بل هذا لأنني كنت أحس بروعة شبابي الذي ظلت تخلقه إلسا، حتى ماتت". في الرواية، كما في الشعر، كانت روح أراغون وثابة على الدوام، لكن رواياته، منذ "آنيسي" عام 1921، حتى "هنري ماتيس – رواية"،، مروراً بـ"الأحياء الجميلة"... و"المسافرون"، و"أورلیان" وعشرات النصوص غيرها، لم تكن روايات، بقدر ما كانت تعبيراً خارقاً عن رؤية رائعة لكل ما هو محیط به. لكل الحب والجمال اللذين عاشهما. على الأقل حتى رحيله عام 1982.