لدى العلماء نظرية جديدة حول تطور الإنسان. يشير تحليل جديد رائد لمجموعة من البيانات إلى أن تغيرات تطورية إحيائية رئيسة شهدتها عصور ما قبل التاريخ كانت مدفوعة بتغيرات دورية في المناخ الاستوائي.
في الماضي، ظفرت العصور الجليدية في النصف الشمالي من الكرة الأرضية بمعظم الاهتمام العلمي على اعتبار أنها أحد القوى الدافعة لتطور البشر، ولكن يشير عدد من العلماء الآن إلى أن دورات متغيرة للظاهرتين المناخيتين "إل نينو"El Niño و"لا نينيا" La Niña، في إحدى المناطق حول خط الاستواء، كانت أيضاً من العوامل المساهمة الرئيسة في تطور الإنسان على مدى الثلاثة ملايين سنة ونصف السنة الماضية.
العصور الجليدية ودورات المناخ الاستوائي كلتاهما ناجمة عن محرك غير مناخي شائع - تغيرات دورية في المدار الشمسي للأرض، وفي الطريقة التي يدور بها كوكبنا عبر الفضاء.
بغية تبيان العلاقة بين تطورات نشوئية بشرية رئيسة من جهة، وتغيرات مناخية استوائية من جهة أخرى، ينكب العلماء على تحليل غير مسبوق لبيانات مناخية مستمدة من "عينات أسطوانية" مأخوذة من رواسب بحيرات وقيعان البحار، من أفريقيا ومن البحار والمحيطات المحيطة بها.
حتى الآن، تفحص باحثون من ألمانيا والمملكة المتحدة وهولندا والولايات المتحدة الأميركية وإثيوبيا بيانات متصلة برواسب بحيرات في كينيا وملاوي وإثيوبيا وغانا، ورواسب قيعان البحار مأخوذة من سواحل تنزانيا وناميبيا والكونغو وموريتانيا وليبيا ومصر.
تحليل تلك "العينات الاسطوانية"، تحت إشراف عالمة المناخ القديم (دراسة التغيرات المناخية على مستوى تاريخ الأرض بالكامل)، الدكتورة ستيفاني كابوث-بار من "جامعة بوتسدام" الألمانية، سمح للعلماء بأن يتبينوا وجود علاقة بين التطور البشري وتغيرات مناخية استوائية طوال الـ600 ألف سنة الماضية.
الآن، يعتزم العلماء استخراج مزيد من العينات من أجل التوصل إلى معارف إضافية في شأن ثلاثة ملايين سنة ماضية أخرى من سجل المناخ الأفريقي.
نظراً إلى أن التغيرات المدارية والدورانية للأرض خلال تلك الفترة معروفة أصلاً، يدرك العلماء نظرياً ما الذي ربما تكشفه "العينات الأسطوانية".
توضح ورقتهم العلمية، التي نشرت أخيراً في المجلة العلمية الأميركية "سجلات الأكاديمية الوطنية للعلوم" (المعروفة باسمها المختصر "بناس" PNAS)، وجود علاقة متبادلة بين التغير الكبير في المناخ الاستوائي من جهة، وظهور أجدادنا (الإنسان العاقل القديم) منذ نحو 300 ألف عام، من جهة أخرى.
ولكن من شبه المؤكد أن تغيرات كبيرة أخرى في المناخ الأفريقي الاستوائي قد طرأت منذ نحو 2.4 مليون سنة، ومليوني سنة، و800 ألف سنة خلت، وكل من تلك التغيرات المحتملة ترتبط بفصول رئيسة في قصة تطور البشرية.
من المعتقد أن كلاً من تلك التغيرات المناخية الاستوائية أدت إلى حدوث انقلابات مفاجئة في الأحوال المناخية، من ثم كانت أجزاء من أفريقيا إما أكثر ملائمة للعيش فيها أو لم تكن صالحة للسكنى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفق البحث المستمر، في بعض الفترات كان غرب أفريقيا جافاً برمته، فيما كان شرق أفريقيا خصباً ورطباً، ولكن في أوقات أخرى، حدث العكس تماماً، فكان غرب أفريقيا خصباً، بينما عم الجفاف الجزء الغربي منها.
من الوارد أن تكون تلك الانقلابات المناخية السريعة واسعة النطاق قد حدثت ثماني مرات في أقل تقدير خلال الـ3.5 مليون سنة الماضية، ونتيجة لذلك، اضطر البشر الأوائل إلى الهجرة والتكيف بسرعة مرات عدة.
بناءً عليه، يشير العلماء الآن إلى اقتراح مفاده أن تلك الضغوط التكيفية الناجمة عن الانقلابات المناخية قادت إلى تيارات أكبر من الهجرة، وزيادة في نسبة الانسياب الجيني (هجرة الموروثات gene flow)، وتكيف بيئي أسرع، وتطور متسارع، من ثم ظهور أنواع بشرية جديدة.
من بين الأنواع البشرية القديمة الرئيسة التي ربما ظهرت إلى الوجود بشكل تام أو جزئي نتيجة انقلابات المناخ الاستوائي، هناك الذين صنعوا أدوات حجرية متطورة (ويسمى "الإنسان الماهر" أو الحاذقHomo habilis) منذ 2.4 مليون سنة، و"الإنسان المنتصب" (ذكاؤه يفوق بنسبة 80 في المئة أسلافه) منذ مليوني سنة، و"إنسان هايدلبيرغ" ("هومو هايدلبيرغينيسيس"Homo heidelbergensis) منذ 800 ألف سنة وأنواع أسلافنا المباشرة، أي الإنسان العاقل Homo sapiens القديم، منذ 300 ألف عام.
يعتقد علماء المناخ أن كل انقلاب مناخي استوائي كبير لم يبدأ في أفريقيا أو حولها، بل في المحيط الأكبر على كوكبنا، ألا وهو المحيط الهادي. وتؤدي التغيرات في مدار الأرض ودورانها إلى تغيرات في كمية الحرارة الشمسية التي تؤثر في المحيط الهادي، وبدوره يؤدي ذلك إلى تحولات دورية في الضغط الجوي في الهواء فوق المحيط.
في مرحلة لاحقة، امتدت تلك التغيرات في الغلاف الجوي إلى المحيط الهندي وأفريقيا، وأخيراً إلى المحيط الأطلسي، ما تسبب بانعكاسات مناخية استوائية في القارة الأفريقية.
"نقدم اقتراحاً يقول إن في المستطاع استخدام إطار مناخي جديد تماماً بغية البحث في علاقات مترابطة بين المناخ الاستوائي ومواد بشرية أثرية وحفرية على امتداد فترات زمنية طويلة"، قالت الدكتورة كابوث بار.
وأضافت، "تشير البيانات حتى الآن إلى أننا بحاجة إلى فهم أوفى لتغيرات المناخ الاستوائي من أجل التوصل إلى فهم أفضل للتطور البشري".
البروفسور مارك ماسلين من "جامعة كوليدج لندن"University College London، وهو باحث رئيس أيضاً في الورقة العلمية المنشورة في "بناس" ومرجعية رئيسة في العلاقة بين المناخ والتطور البشري، قال إن البحث المستمر قادر على تغيير التصور الذي رسمه العالم للآليات التي تقود التطور البشري بشكل أساسي".
يبقى أن "فهم العلاقة التي تجمع بين التغيرات المناخية السريعة التي شهدتها أفريقيا من جهة، والبيئة في تلك القارة من جهة أخرى، خطوة بالغة الأهمية نحو معرفة الأسباب الأساسية التي تعزى إليها العناصر الرئيسة للتطور البشري"، حسبما قال البروفسور ماسلين، مؤلف كتاب أساسي حديث عن التطور البشري في أفريقيا بعنوان "مهد الإنسانية" The Cradle of Humanity.
© The Independent