مجدداً يعود استخدام سلاح العقوبات في إدارة العلاقات المتدهورة بين واشنطن وبكين، على وقع زيادة احتمالات الصدام بينهما، وذلك بعد ما ردت الصين، الجمعة 23 يوليو (تموز)، بفرض عقوبات على عدد من الأفراد والمؤسسات الأميركية، من بينهم وزير التجارة السابق ويلبور روس، بعد عقوبات أخيرة كانت فرضتها الولايات المتحدة على مسؤولين صينيين في هونغ كونغ، "لدورهم في عمليات القمع الأمني" التي شهدها الإقليم المتمتع بالحكم الذاتي.
وعلى وقع اتساع هوة الخلافات بين البلدين، وقبل أيام من زيارة مرتقبة لويندي شيرمان نائبة وزير الخارجية الأميركي كأكبر مسؤولة في إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن، تزور العاصمة الصينية، لبحث العلاقات المتدهورة بين الدولتين، يتخوف المراقبون من تصاعد تدهور العلاقات التي تشهد خلافات هي الأسوأ منذ سنوات، وزيادة احتمالات تصاعد الحرب الباردة بين الدولتين النافذتين في المجتمع الدولي.
أحدث العقوبات المتبادلة
ووفق ما أعلنته الخارجية الصينية، الجمعة، فقد فرضت عقوبات طالت سبعة من الأفراد والمؤسسات الأميركية، من بينهم ويلبور روس، وزير التجارة الأميركي في إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، وصوفي ريتشاردسون، رئيس قسم الشأن الصيني لدى منظمة "هيومن رايتس ووتش"، وكارولين بارثولوميو، رئيسة لجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية الأميركية الصينية، وآدم كينغ، رئيس المعهد الجمهوري الدولي، وذلك رداً على "العقوبات الأميركية الأخيرة التي استهدفت تشويه بيئة الأعمال في هونغ كونغ من دون الاستناد إلى أسس تبرر ذلك، علاوة على أنها تنتهك القانون الدولي والمعايير الأساسية للعلاقات الدولية"، على حد وصفها.
وقالت تقارير صينية، إن أفراداً أميركيين ممن شملتهم العقوبات الصينية، كانوا وراء التوسع في قائمة الشركات الصينية التي يحظر تعاملها مع شركات أميركية من دون الحصول على ترخيص مسبق، والتي من بينها عملاقتا تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات الصينيتان "هواوي" و"زد تي".
في المقابل، اعتبرت جين ساكي، مديرة المركز الصحافي في البيت الأبيض، في بيان أدلت به لوسائل إعلام، أن الولايات المتحدة "لم يزعجها" التصعيد الصيني، موضحة أن "هذه العقوبات تُعد من أحدث الأمثلة على معاقبة بكين للمواطنين، والشركات الخاصة، ومنظمات المجتمع المدني، من أجل إرسال إشارات سياسية".
ويرى المسؤولون الأميركيون في استخدام العقوبات ضد الصين، رسالة واضحة للحزب الشيوعي الحاكم، بأنه لا يمكن التهاون مع المصالح الأميركية والتأكيد على مواجهة أي إجراء ضد واشنطن.
ويُعد وزير التجارة الأميركي السابق روس هو ثاني مسؤول من إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب يتعرض لعقوبات صينية، إذ أعلنت بكين في يناير (كانون الثاني) الماضي فرض عقوبات على مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي السابق، و27 آخرين من مسؤولي إدارة ترمب، وهو الأمر الذي وصفه البيت الأبيض حينها بأنه "بلا طائل ومثير للسخرية".
وعلى مدار الأشهر والسنوات الأخيرة، تبادل البلدان فرض العقوبات على الأفراد والمؤسسات، كان أبرزها في يوليو (تموز) من العام الماضي، عندما فرضت بكين حظر سفر على عضوي الكونغرس ماركو روبيو وتيد كروس، والنائب الجمهوري كريس سميث، إضافة إلى سفير الحريات الدينية في الخارجية الأميركية سام براونباك، على خلفية عقوبات مماثلة فرضتها واشنطن ضد مسؤولين صينيين ذوي صلة بالانتهاكات التي ترتكب ضد مسلمي أقلية الإيغور في إقليم شينجيانغ (تركستان الشرقية)، وذلك بعد ما زادت حدة الاحتقان السياسي بين الولايات المتحدة والصين، عقب تطبيق الأخيرة قانوناً جديداً للأمن منذ العام الماضي، يرى فيه منتقدون تهديداً لاستقلالية هونغ كونغ. ويجرم هذا القانون المطالبة بالانفصال في هونغ كونغ وأعمال التخريب والتواطؤ مع القوى الأجنبية، ويفرض عقوبات تصل إلى السجن مدى الحياة في حال الإدانة بأي من تلك الاتهامات.
نقاط الخلاف الأميركي - الصيني
ومع الزيادة في استخدام سلاح العقوبات في إدارة الملفات الخلافية بين البلدين، يتخوف البعض من أن تشهد العلاقات، التي دخلت "أسوأ مراحلها" خلال السنوات الأخيرة، مزيداً من التدهور والمواجهة، والوصول إلى "مرحلة الحرب الباردة"، التي وسمت النصف الثاني من القرن الماضي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي سابقاً.
وما يعزز من احتمالات الصدام تصريحات بعض كبار المسؤولين، ففي أواخر العام الماضي، كتب جاك سوليفان، قبل أن يتم تعيينه مستشاراً للأمن القومي في البيت الأبيض في عهد الرئيس الحالي جو بايدن، في مجلة "فورين أفيرز"، قائلاً إن "حقبة التواصل مع الصين وصلت لنهايتها"، كذلك نصت وثيقة استراتيجية السياسات الخارجية المؤقتة لإدارة بايدن على أن "صيناً أكبر نفوذاً وأكثر إثباتاً لوجودها هي المنافسة الوحيدة التي لديها القدرة على حشد قدراتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتقنية لتحدي النظام العالمي المستقر والمنفتح بشكل دائم".
في المقابل، تتخذ الصين من ناحيتها موقفاً مشابهاً، إذ تتحرك نحو إعلاء مصالحها الخاصة، ولا تدع أي فرصة تمر من دون أن تؤكد مثالب النظام الأميركي، والتأكيد أن نموذجها الاجتماعي والاقتصادي هو "المتفوق".
وعليه يعتبر المراقبون أن الملفات الخلافية بين البلدين، والتي تشهد تنافساً محموماً وعلى رأسها السياسات التجارية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فضلاً عن التقنيات الحيوية التي تسير مجتمعاتنا الآن وفي المستقبل، كالذكاء الاصطناعي وتقنية 5 جي، جعلت من الصين أقوى منافس تواجهه الولايات المتحدة منذ القرن الـ19 في العديد من المجالات، لذا فإن العلاقة بين البلدين يجب أن تدار بحكمة وربما لعقود عدة مقبلة.
ومن بين الملفات الخلافية التي تشهدها علاقات البلدين، ملف التجارة، إذ ترى واشنطن أن بكين، تحظى بميزات تجارية غير عادلة على حساب الولايات المتحدة، متهماً إياها بعدم التحرك حيال "سرقة الملكية الفكرية"، وعليه شهدت سنوات حكم الرئيس الأميركي السابق (2016-2020)، ذروة "الحرب التجارية" بين البلدين، والتي سعت خلالها واشنطن لإنهاء ما اعتبره ترمب حينها صفقات تُعرض بلاده "للسرقة" من جانب الصين، وصعَّد حرب الرسوم الجمركية التي انتهت بفرض رسوم بقيمة مئات مليارات الدولارات على السلع المستوردة بينهما.
وعلى الرغم من اتفاق وقعته إدارة ترمب مع بكين، فإنه لم يحل الجانبان بعد نزاعاتهما التجارية بالكامل، الأمر الذي يثير المخاوف على الاقتصاد العالمي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قضية أخرى، تمثلها "هونغ كونغ"، إذ باتت واشنطن تؤمن بأن المدينة العاملة كمركز مالي عالمي لم تعد مستقلة بما فيه الكفاية عن الصين، كما اعتبرت قانون الأمن الوطني الذي أقره مجلس الشعب الصيني في 28 مايو (أيار) 2020 خطوة تسحق حريات المدينة الفردية، فيما تصر الصين على تأكيد حقها في ضمان القانون والنظام بالمدينة، ومنع التدخل الأجنبي فيها.
وفي قضية الإيغور، التي وصف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، سياسات بكين تجاهها بـ"الإبادة الجماعية"، تبقي واشنطن ومعها الغرب، على سياسة فرض العقوبات على المسؤولين السياسيين الصينيين بسببها، وتواصل استنكارها لما تسميه سياسيات "الاعتقال الجماعي والتنكيل" بملايين المسلمين من الإيغور والأقليات الأخرى في مقاطعة شينجيانغ الصينية، وذلك في وقت تصر فيه بكين على رفضها التدخل في شؤونها الداخلية وما تعتبره "ترويجاً للأكاذيب".
كذلك تأتي قضية تايوان، التي تعدها الصين وعلى الرغم من تمتعها بالحكم الذاتي، جزءاً من أراضيها التي ستستعيدها ذات يوم بالقوة إذا لزم الأمر، لكن واشنطن وهي الحليف الرئيس للجزيرة، تواصل تزويدها بالأسلحة وتمضي في تواصل مع مسؤوليها من دون أن تعترف بها دبلوماسياً، وهو ما تستنكره بكين.
وفي بحر الصين الجنوبي، ذلك الممر المائي الغني بالموارد، يتواجه البلدان، وتتصاعد بين الحين والآخر احتمالات الصدام، وذلك في وقت تؤكد فيه بكين أحقيتها على معظم البحر، وبنت فيه جزراً اصطناعية لتعزيز قوتها في المنطقة. في المقابل، تواصل القطع الحربية الأميركية تمارينها ومناوراتها في المنطقة تحت مسمى "حرية الملاحة" في البحر، وتبحر بالقرب من المعالم التي تؤكد الصين أحقيتها بها.
هل تحسم خلافات البلدين؟
في الوقت الذي تعكس فيه الملفات الشائكة بين البلدين مدى الخلافات وعمقها، تتباين آراء المفكرين والمعنين بشأن مستقبل العلاقات بين البلدين، وإمكانية تحولها إما إلى "صراع محتوم" أو "تنافس مدار" يمكن من خلاله الوصول إلى تفاهمات في إطار محدد يجنب العالم خطر الصدام بين القوتين الكبيرتين.
وبحسب ما كتبه، أوود أرني ويستاد، أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة "ييل" الأميركية، في مجلة "فورين أفيرز" الأميركية، فإن الولايات المتحدة لا تستطيع بمفردها احتواء طموحات الصين في توسيع نفوذها السياسي وقوتها الاقتصادية عبر العالم، مرجعاً الأمر إلى "السياسة الخارجية الصينية المدفوعة اليوم بمزيج من القومية ومظالم الماضي والمشبعة بالصبر والواقعية"، وتابع أن "بكين دائماً ما تحاول، بفضل نموها الاقتصادي الاستثنائي، اختبار قدرة أي دولة أجنبية على الوقوف أمام مصالحها، كما يصوغها الحزب الشيوعي الصيني الحاكم".
وتابع ويستاد، قيام الولايات المتحدة بالتصدي للمارد الصيني بمفردها يتجاوز قدراتها أكثر مما كان عليه الحال حينما واجهت الاتحاد السوفياتي في فترة الحرب الباردة. ففي ذلك الحين، كانت تحتكر واشنطن بمفردها نحو 50 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وكانت مع ذلك تحتاج إلى دعم الحلفاء، واليوم تسجل حصتها أقل من نصف تلك النسبة، وقد تنخفض أكثر إن لم يتم تنشيط الاقتصاد الأميركي.
وفي منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، قالت إدارة تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية في تقرير لها، إن السلطات الصينية تسعى إلى مراجعة النظام العالمي "خدمة لأهدافها الاستبدادية وطموحاتها في الهيمنة"، وعليه اعتبر ويستاد، أن واشنطن لا تملك أمام هذا التحدي، سوى سبيل استراتيجي واحد للوقوف أمام طموحات بكين، واستغلال التناقضات بين الهدفين الرئيسين للحزب الشيوعي الصيني، وهما الحفاظ على القوة الاقتصادية، وتنفيذ سياسة خارجية توسعية.
واعتبر ويستاد، أنه يتوجب على إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن، فعل أكثر مما قامت به كل من إدارتي الرئيسين باراك أوباما ودونالد ترمب لمساعدة الدول الآسيوية التي تريد مقاومة الضغط الصيني، وأن تزيد وجودها العسكري في المحيطين الهندي والهادي، وأن تضع سياسات في مجالات التجارة والاستثمار والتكنولوجيا تكافئ الصين إن هي امتثلت للاتفاقيات الثنائية ومتعددة الأطراف، وتعاقبها إن هي حادت عنها.
من جانبها، وفي تقرير مطول عن معالم التنافس الأميركي الصيني، ذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، أن "الصراع بين البلدين هو المحدد الأبرز لمعالم القرن الـ21"، بعد أن أصبح البلدان داخل واحدة من أقوى الحروب الباردة في التاريخ. مشيرة إلى أن الخلافات بين واشنطن وبكين صارخة وأساسية، وقد يكون بالكاد التفاوض على حلها، ولكن لا يمكن أبداً تهدئتها.
واعتبرت "فورين بوليسي" أن واشنطن ترى في بكين، التهديد الأكبر، بقدرتها الفائقة كقوة تكنولوجية صاعدة، ربما تتخطى الولايات المتحدة في أنظمة المعارك الرقمية، وأكبر بكثير من موسكو، مشيرة إلى أن الحزبين الجمهوري والديمقراطي تعاونا بشكل نادر على قضية الصين ومحاولة تحجيمها، وبالتالي شهدت الولايات المتحدة تأييداً داخلياً واستقراراً بشأن ما يرونه بـ"الخصم الأبرز".
في السياق ذاته، كتب كيفين رود، رئيس وزراء أستراليا الأسبق ورئيس منتدى "مجتمع آسيا" في نيويورك، بمجلة "فورين أفيرز" الأميركية، قائلاً إن الصراع بين الولايات المتحدة والصين سيدخل خلال العشرية المقبلة "مرحلة مصيرية"، إذ ستشهد حدة التوترات بين البلدين ارتفاعاً ملحوظاً، كما سيدخلان في منافسة شديدة بغض النظر عن الاستراتيجيات التي ستتبعها كل دولة على حِدة. معتبراً أن المصير الصدامي بين الدولتين "مآل لا مفر منه"، لكن تطور الأمور لحرب مفتوحة يمكن تفاديه.
ووفق رود، يستطيع البلدان إرساء "حواجز حماية" لمنع انزلاق الأوضاع إلى شفا الكارثة، من خلال وضع إطار عمل يمكن أن يصطلح عليه بإطار "المنافسة الاستراتيجية المدارة"، للتقليل من خطر تصاعد المنافسة بين البلدين إلى صراع مفتوح، معتبراً أنه في هذا السياق يتوجب على واشنطن تقرير وبسرعة كيف يجب عليها أن تتعاطى مع أجندة بكين "الواثقة" سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً، وإذا كانت ستختار مسار الانفصال الاقتصادي والمواجهة، فإن ذلك يعني أن كل دول العالم ستضطر إلى الانحياز إلى أحد الجانبين، ما سيزيد خطر وحدة التصعيد.
واعتبر أن البلدين بحاجة إلى التفكير في شيء يشبه الإجراءات والآليات، التي وضعتها الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي لتنظيم علاقاتهما بعد "أزمة الصواريخ الكوبية" أكتوبر (تشرين الأول) 1962 مع تجنب الاقتراب من حافة الهاوية والانزلاق لحرب مدمرة. وأقر رود بأنه وعلى الرغم من صعوبة بناء سياق تفاهم من هذا النوع، فإن التوصل إلى ذلك يبقى ممكناً، لا سيما أن السيناريوهات البديلة تبقى "كارثية".