تبدو سمة الانشغال بفكرة "المكان"، بحضوره الواقعي والمتخيل إحدى البنى الأسلوبية الأساسية في كتابة عزت القمحاوي، وهذا يمكن ملاحظته من تكرار كلمتين مثل "بيت" و"غرفة" في عناوين مؤلفاته، كما في روايتيه "بيت الديب"، و"غرفة ترى النيل"، ومجموعة "غرفة المسافرين"، وفي روايته الأحدث "غربة المنازل"، تحضر كلمة المنزل في الجمع. وإن كان هذا يدل على شيء فإنه يكثف الدلالات لعلاقة الكاتب مع فكرة المكان المغلق وتخيلاته عنه. هذا نجده أيضاً في روايته "البحر خلف الستائر"، في ذاك المكان المبهم والسرمدي الذي يقيم فيه البطل.
مفهوم الغرفة أو المنزل وإن اختلف تناوله في هذه الأعمال، فإنه يؤدي في جميعها إلى قطف حميمية معينة تجلت أيضاً في رواية "ما رآه سامي يعقوب"، ضمن عمل يدور معظمه داخل المنزل ضمن علاقة سامي وحبيبته، أو حتى في تخيلاته للحظة اللقاء المنتظرة مع الحبيبة، وما فيها من مباهج تقطعها لحظة التوقيف. العلاقة مع البيت في نصوص القمحاوي تستدعي رأي غاستون باشلار في كتابه "جماليات المكان" حين قال: "البيت هو ركننا في العالم، كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى... البيت جسد وروح يحمي أحلام اليقظة والحالم، ويتيح للإنسان أن يحلم بهدوء".
التحلل والتماسك
يستهل الكاتب "غربة المنازل"، مع نص افتتاحي من "ألف ليلة وليلة"، حكاية عبد الله بن صابر وأخويه ناصر ومنصور، في الليلة 982 (طبعة بولاق). أما اختيار هذه الليلة تحديداً، والتي يصف بطلها دخوله مدينة كل ما فيها حجر، فإنه يعود إلى اختيار الكاتب لتاريخ بداية السرد وهو 17 أغسطس (آب) 2020. إنها الشهور التي غرقت فيها البشرية في حجرها الصحي المعتل، بعد انتشار وباء كورونا. هذه الدلائل الافتتاحية، في نص غازل الماضي عبر "ألف ليلة"، والحاضر في وضع أبطاله جميعاً في مأزق وجودي راهن، يقلب موازين الحياة ومفاهيمها، في عالم يتواجه فيه التحلل والتماسك، وتتلاشى ثوابت قائمة، لتنتهك وجوده أخرى تزيح أي يقين فكري أو أخلاقي مقابل ضباب لا يمكن الإحاطة به.
مثل نحات صبور يصوغ القمحاوي نصه، بتكثيف، وعمل دقيق على اللغة والعبارات، وهي لغة فائقة العذوبة، نضرة وخالية من الترهل. اختار الكاتب صوت الراوي العليم، واستخدم تواريخ بعينها لتكون مفتاحاً للأحداث والشخصيات، فبدت الحركة السردية نشطة، تراوح في أماكنها بين مكان ثابت (البيت)، وآخر متخيل يحكي عنه الأبطال رمزاً هو "مدينة الغبار". تتداخل العلاقات في "غربة المنازل" عبر خيط رفيع جداً، فقد اختار الكاتب جمع أبطاله في مكان واحد، عمارة سكنية تجمعهم وتفصلهم في آن واحد، لا وشائج نفسية قوية بينهم، لا اتصالات هاتفية ولا زيارات، ليس بسبب الوباء ووجود مسافة اجتماعية يفرضها العزل فقط، بل لأسباب كثيرة أخرى تتضح عبر النص في نوعية العلاقات بينهم. والرواية مكتوبة على شكل قصص متتالية توحي للقارئ بانغلاق كل فصل على أبطاله واكتمال أحداثه، لكن الأبطال يعاودون الظهور في فصول أخرى، مع اختيار الكاتب حضور شخصية البواب سالم وزوجته طعمة في كل القصص، وكأنهما يؤلفان وحدة بين الأبطال.
مدينة الغبار
تبدو الأحداث الواقعية مجدولة بالفانتازيا، منذ المشهد الأول بين فريدة ويوسف وصعودهما في الترام، ومشاهدة فريدة لامرأة ستينية تشبهها جداً، بل تكاد تكون "هي" في مراوغة فانتازية غامضة، ثم شخصية الملحن رامي حنا وقصته مع غيداء التي تبدو من أكثر القصص جمالاً، ثم تكرار ظهور غيداء في الجزء الأخير بعد تتالي الأحداث المحبوكة بجريمة سقوط "الحاجة سمحة" من نافذتها.
هناك الطبيب، المؤرخ، العمدة، العالم، حارس المول، والشاب المهووس بنشر بوستات على صفحات التواصل الاجتماعي، وغيرهم. يبدو أبطال "غربة المنازل" مألوفين لدى القارئ، شخوص من لحم ودم، رآهم وعرفهم ذات يوم، ويحشد الكاتب تفاصيلهم الجسدية والنفسية في اتساق سلس، إنها شخصيات حيوية تعيش حياتها في زمن حرج وتبوح بخباياها.
المؤرخ بديع العطار رجل سبعيني منعزل عن المجتمع من قبل أن يفرض الوباء عزلته، فيه جانب طفولي يحب حكايات الصين العجيبة، ويرى أن الخوف أكثر أذى للإنسان من الحروب والمجاعات والأوبئة، لأنه يحول البشر إلى ضباع. يقول: "لا وباء دون شَدَّة الجندي وحاوية التاجر. وها هي الحروب على مرمى حجر من مدينة الغبار التي لا تملك من أمرها شيئاً، والصين مصنع العالم في السلم والحرب... لماذا لا يكون هذا الكوفيد إحدى مزحات الخيال؟" لكنه في لحظات سريالية يرد على تساؤلاته حول الوباء الذي يغزو كل الأمكنة رداً فلسفياً من حكمة الزن يقول: "لكن الموجود في كل مكان ليس موجوداً في أي مكان".
أما الطبيب فريد عبد المحيط، الذي تقبل حياته بعد ظهور الوباء، فهو رجل تجاوز السابعة والستين، يحاول استيعاب العالم المتغير من حوله، ليس بسبب انتشار المرض فقط، بل أيضاً بسبب عبوس المدينة في وجه أبنائها. يواجه مخاوفه متسائلاً: "من كان يتوقع أن يركع العالم في مواجهة فيروس تافه في عصر انتصار العلم؟".
فكرة الحواس
يشتغل القمحاوي في كتابته عموماً، على فكرة الحواس التي تحضر بقوة وتُشكل لبنة أساسية في بناء شخصيات أبطاله. وهذا الارتباط بالحواس يستمد جذوره من العلاقة مع الجسد أيضاً، الجسد بيت الروح، ولذا تبدو العلاقة مع الجسد أليفة أيضاً. يرتبط أبطاله بالروائح والطعوم والنكهات، وتتشكل ذاكرتهم من الروائح في هواء المدينة، أو من عيون كحيلة، أو لرؤية الجمال في ابتسامة عذبة.
أبطال "غربة المنازل" محاصرون في زمن الوباء، مصابون به أو خائفون من الإصابة، يبدون متشابهين في مخاوفهم، تلك التشابهات الإنسانية الحتمية. يبحثون عن ألفة لا تُنسى، تلاشت في غربة الزمن واختلال سرعته. وهذه الألفة يبدو محورها البيت، فأبطاله إما يغادرون البيت إلى الشارع بحثاً عن أماكن أليفة تشبههم، أو يمضون ساعات تحتضنهم جدران تحنو على وحدتهم، مختبئين خلفها من قباحة العالم وابتذاله، فالحياة كما يرى أحد الأبطال "مباراة شطرنج تكفي نقلة واحدة موفقة للفوز فيها، شرط أن يكون القدر قد أنجز نقلتين أو ثلاث متعاطفات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يحضر العبث الذي لا يمكن تخيله بعد انتشار كوفيد 19، في وجوه عدة، حيث يتداخل الجانب الواقعي والفانتازي، كما في ظاهرة النساء اللاتي يتساقطن من البلكونات في شتى أنحاء البلاد، وتصير مثل هذه الحوادث عادية جداً بل تتداخل مع أرقام وفيات الوباء.
هناك أيضاً لجوء البشر القسري إلى عالم الإنترنت بكل ما فيه من إشاعات وحقائق، والحديث عن لوعة غياب أجساد تنتهي في عتمة العزل. اختار القمحاوي أن يُنهي النص في حوار يدور بين البواب وزوجته، وقد بدت نهاية متشائمة في احتلالهما المشهد النهائي من حياة مجموع الأبطال، نهاية مُربكة للمتلقي.
ثمة انزياح عاطفي يجده القارئ في "غربة المنازل"، يتجلى في اختيار الأبطال وطء مسافة بعيدة عن المجتمع، ليس في الإحساس بفردانية رؤية الحقائق الواقعية فقط، بل في حضور حنو نراه في مواقف الأبطال نحو العجائز والمرضى وفقراء العالم. إنها لفتات إنسانية نجدها مبثوثة في كل القصص، في تعاطف المرأة العجوز مع يوسف وفريدة في المتوالية الأولى، وفي جملة الملحن رامي حنا في المتوالية الثانية "ماذا يفعل الفقير حين يمرض؟" لكن لا يغفل الكاتب الحاذق أن يقدم بالتوازي مع هذا الحنو، تناقضات النفس الإنسانية البالغة القدم، الأنانية الهلع، التناقض، الخوف، الجشع.
يترك هذا النص مساماته مفتوحة على العالم، يتحرك بحرية من مساحة إلى أخرى في تداخل تلقائي، وتحتمل أحداثه تأويلات متعددة، بحيث يبدو كل ما رُوي حاملاً وجهاً آخر أيضاً.