يبدو "جبرائيل"، بطل رواية "الهامستر" (دار إيبيدي، القاهرة)، للكاتب السوري يوسف الخضر معبراً بشكل رمزي عن العنوان، حيث لا يمكننا إغفال اسم الرواية اللافت، الذي يحيل مباشرةً إلى استدعاء عالم القوارض بكل ما فيه، بل إلى الجرذان تحديداً، لكن ما يميز "الهامستر" عن فصائل القوارض الأخرى، أنه حسن المظهر، لذا يقوم البعض بتربيته في المنزل.
اختار الكاتب أن يتناصّ بطله مع هذا الكائن الذي لا يستطيع الحياة فوق الأرض، يحفر الأنفاق، ويفضل العتمة على الضوء الساطع، كما أنه ليس لطيفاً مع صاحبه، ويميل للوحدة أكثر من الحياة مع شريك، ويعد من الحيوانات الضعيفة على الرغم من مزاياه القوية في ظاهرها. هذه التفاصيل لا بد من معرفتها قبل الدخول إلى عالم الرواية التي تتخذ من اسم هذا الحيوان عتبةً لها. ولا بد من أن يُذكر حيوان الهامستر هنا، ببطل "كافكا" في "نوفيلا"، "الجحر"، والذي يبدو كأنه حيوان وإنسان في وقت واحد، يحفر جُحراً ويختبئ فيه خوفاً من أي خطر خارجي.
إدانة الحرب
يمكن اعتبار هذه الرواية، أقرب إلى الـ"نوفيلا"، بحيث يتمحور عالمها حول بطل واحد وفي مرحلة زمنية محدودة، صرخة حادة وإدانة مباشرة ليس للحرب فقط، بل للامتهان الذي يواجهه البشر عقب تحطم حياتهم الآمنة، وفقدان المأوى. فمن خلال أفكار صارخة، واضحة، وقوية عبر الكاتب عن خراب العالم من حوله، خراب الأوطان، المدن، والأهم "الروح"، حين يصل اختبار المعاناة إلى أقسى نقطة في الذات بين الإحساس بالهلع والخراب وعدم الأمان. وهذا ما يضع البطل المجزوع "جبرائيل" على المحك بين البقاء أو الموت، تنتهك روحه، وتتعرض لنزف قاتل، وأذى يسحقها. فهل حدث هذا بسبب الحرب الدائرة في سوريا واضطراره للفرار منها؟ أم بسبب وصوله إلى مدينة لم ترحمه؟ أم لأحساسه بأنه فائض على الحياة بعد أن تحول من كاتب ومراسل لإحدى الصحف إلى مشرد على أرصفة الطرق في بيروت، لا يمتلك مكاناً ولا أوراقاً ثبوتية، وقد تخلى العالم كله عنه، وجعله يشعر بالتآخي مع "الهامستر"؟!
وإذا كانت الفئران بكل أنواعها يمكن اعتبارها كائنات ذكية يستعين بها العلماء في مختبراتهم لتجربة كل ما لا ينفع تجربته على الإنسان، ثم اتخاذ القرار في شأنه، فإن مفهوم " الهامستر" هنا لا يمضي بعيداً عن حقل التجربة، ليدخل بطله المختبر الإنساني الأوسع. إنها تجربة واشمة تتمثل بالحرب أولاً، ثم تجربة التشرد، ثم الوصول للقاع، مع خلاصة الامتزاجات في النفس الإنسانية، حيث العالم المتوحش لا يرى في الفقراء والمشردين وضعفاء الأرض إلا كائنات تنفع أن ينتهي مصيرها في حقل الاختبار، لتكون وقوداً لاكتشافات جديدة، سواء في الواقع، أو في الروح الإنسانية التي ينتهي مصيرها للصراع بين الوجود والتلاشي. يقول: "إذا كانت معاناتنا على شكل خنجر، فإن ما نخبره للناس ليس سوى المقبض، أما ما نكتمه ولا نبوح به، فهو النصل المغروز فينا عميقاً".
لكن، جذر الألم يتمثل في الخراب القسري، المفروض، الذي لا مفر منه، فمن يملك القدرة على مواجهة الحرائق، ورؤيتها تحيل الأجساد والبيوت إلى رماد؟ هذا الواقع يصبح جزءاً لا ينفصل عن ذاكرة البطل، ماضيه، ثم حاضره، وانتهاء المستقبل عند لحظة الكتابة، كما لو أنه يلقي برسالته للعالم أجمع، يصرخ بما حصل له، وما يمكن أن يحصل لأي أحد آخر عاش تجربة مماثلة.
مونولوغات داخلية
يمضي صوت الراوي بين مونولوغات داخلية طويلة، ومشاهد خارجية تصف شوارع المدينة من حوله. بطل الرواية مثقف وكاتب يرى في الكتابة سلاحاً حاداً: "إنني أكتب لأنتقم، لأثبت للحياة أنها آذت كاتباً، ولم تُؤذِ شخصاً عادياً". تمثل الكتابة إذاً فعلاً وجودياً يسمح بالانتقام لمواجهة التلاشي، وتؤكد أن وجود كيان واعٍ يمتلك قدراً من الثقافة والوعي المختلف بما يدور حوله يجعل من قراءته للواقع تمضي بشكل تراتبي متسلسل، كل خطوة مفجعة تقود إلى أخرى، لا عشوائية في رؤيته للخراب، ما يدفع إلى التساؤل: إلى أين من الممكن أن يهرب "الهامستر"، كيف ستمضي حياته؟ وأين يمكنه أن يلتقط أنفاسه كي يستريح ليواصل معركته؟
تلهث الرواية في تتبع خطوات بطلها، في لغة تعمّد كاتبها البساطة والمباشرة، مع سرد سريع وراصد للعالم الخارجي، لا يخلو من العبارات الحكمية والاستنتاجية، وإصدار الأحكام أحياناً كأن يقول: "كل منّا لديه فجوة في مكان ما في أعماقه، وكل منّا يحاول سدّ تلك الفجوة بطريقته"، أو "فمهما بلغت من الأسى هنالك نقطة يلتقي فيها إحساسك بالألم مع إحساسك باللذة"، لكن هذا لا يتوقف أيضاً عند الأفكار، بل إن الكاتب يودّ أيضاً محاكمة اللغة نفسها، اللغة المكتوبة التي يحس أنها تخونه بدورها لو تجاوب معها واستخدم كلمات منمقة لا تمت للواقع بصلة، وهو يريد أن يكتب كما يتكلم كي يكون صادقاً، ومخلصاً لذاته. كأن يتساءل بطله: لماذا نستخدم كلمة "ملبدة"، "أحب أن أقول (غائمة)"، لم لا نقول "زواريب" بدلاً من "أزقّة". ولعل الميل لإصدار الأحكام والمغايرة يمكن رؤيته كجزء من النص، أو كنتاج بديهي لعلاقة البطل مع العالم المتناقض الذي وجد نفسه فيه، عالم يمكن أن يسحق الضعفاء بسهولة فادحة.
تحضر شخصية "ريا" التي تساعد البطل في كثير من الأمور الحياتية، لتجسد وجهاً من الحضور النسائي في الرواية، على الرغم من قلة مساحة حضورها وانتهاء حياتها بشكل مفجع، فإنها تمثل أحد وجوه المدينة المتعددة الأوجه، حيث هناك فئة باذخة الثراء، وأخرى تعيش على فتات ما تلقيه الفئة الأولى، والبطل هنا ينتمي للفئة الثانية، يتأمل العالم من حوله ويصل إلى نتيجة مفادها أن ثمة أموراً لا يمكن تغييرها في الحياة، إنها متلاصقة في ديمومة أبدية منذ بدء الخليقة وحتى انتهائها.
إضاءات إنسانية
يتصدّى بطل الرواية على مدار العمل لصراع داخلي بين الأنا والآخر، ليس على مستوى الواقع الذي أنتج تشرده فحسب، لأن نكبته تتخذ بعداً أعمق، بل في انكسار كيانه كمبدع، أي إن نهاية حياته الآمنة في سوريا، وفقدان أوراقه الثبوتية، ووجوده على الأرصفة، جسد الانقلاب الكامل لحياته، ولم يُنهِ شطراً من الأمان الملموس والمرئي للبطل فقط، بل هدد عالمه الداخلي الزاخم برُؤاه الفنية لذاته منذ الصغر، ثم ألقاه في أتون الشارع، بكل ما يمثله هذا من قسوة تطيح قسراً بأحلام علاقته بالكتابة، وتجبره على اجتثاث كل أفكاره السابقة، من حياة شخص آمن قبل الحرب، إلى حياة شخص مشرد.
تمثل بقية شخوص الرواية انعكاسات أخرى لمأساة البطل، سواء في لقائه معهم في إحدى أكثر المناطق بؤساً في بيروت، منطقة (صبرا)، أو في معاناتهم أيضاً من سحق الحياة لهم التي عبر عنها من خلال حوارات مكثفة ولمّاحة، إلا أن الكاتب لم يُعطِ بقية الأبطال مساحة سردية في رواية لم يتجاوز عدد صفحاتها 125 صفحة، ويبدو مبرره الرغبة في التركيز على بطله الرئيس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على الرغم من مأساوية العمل، بل وغرقه في حالة من الانقباض النفسي الشديد كانعكاس لواقع التشرد والبؤس وفقدان الهوية، فإن ثمة إضاءات إنسانية بالغة الحساسية وسط هذه الظلمة تتمثل في التواصل مع "جوليا"، البنت التي حمل لها "جبرائيل" مشاعر حب، وأيضاً العلاقة مع محمد، بائع الورد، والأهم لفتة الايمان بأن هناك تقاطعات قدرية تحدث أحياناً كي تنقذنا من ألم مُمض.
يمكن القول إن هذه الرواية أيضاً تنتمي إلى الروايات التي تعمد إلى تسجيل ما تفعله الحروب بالبشر، فـ"هامستر" يوسف خضر ليس فرداً واحداً، بل هو رمز، ونموذج لآلاف من البشر الذين وجدوا أنفسهم على قارعة الطرق بعد ليالٍ من تسلل رائحة البارود، وتهديد أصوات القذائف. وربما ما ميّز "هامستر" هذه الرواية عن غيره، هي قدرته على التعبير، لينطق بما لم يستطع الآخرون البوح به.