توقعت "وكالة ماكنزي الأميركية أن تصل قيمة الأرباح المالية التي تجنيها الصين من أفريقيا بحلول عام 2025 إلى 440 مليار دولار، أي بزيادة قدرها 144 في المئة.
رقم هائل يعكس وفق جل المتابعين والمحللين مدى إحكام السيطرة "الناعمة" لدولة الصين الشعبية على القارة الأفريقية في ظل العقود الأخيرة، بفضل حجم استثماراتها الكبيرة وحجم قروضها الممنوحة لعدد متنامٍ من الدول الأفريقية التي يغلب على أغلبها طابع الفقر.
ولئن بسطت دول أوروبية، بخاصة فرنسا وبريطانيا، نفوذها على دول أفريقية كثيرة بقوة السلاح خلال القرن الـ19، غير أن الصين وفي ظرف زمني وجيز أحكمت سيطرتها الاقتصادية في الأساس وبطريقة يصفها باحثون بأنها "ناعمة" وتمكنت من التغلغل في اقتصاديات الدول الأفريقية جنوب الصحراء والاستفادة من مواردها الطبيعية.
رؤية استراتيجية واضحة
ويقول رئيس مجلس الأعمال التونسي الأفريقي، أنيس الجزيري، إن "الصين تعمل على القارة السمراء منذ عقود عدة ولها رؤية واستراتيجية واضحتان رسمتهما من أجل التوغل في أفريقيا لتصبح المستثمر الأول في هذه القارة". وأبرز الجزيري أن بكين رسمت مشروعاً رائداً تم الإعلان عنه منذ بضع سنوات وهو طريق الحرير، ورصدت له أموالاً طائلة لتفعيله على أرض الوقع من خلال تفعيل الجوانب اللوجيستية والاستثمارات العملاقة.
كما تمكنت في ظرف بضع سنوات من تشييد موانئ كبيرة من أجل تسخيرها لنقل بضائعها وسلعها إلى الدول الأفريقية مقابل نقل المواد الأولية التي تزخر بها القارة السمراء إلى مصانع الصين.
وأكد الجزيري الذي بحكم خبرته وتنقلاته في أفريقيا ولقاءاته بعدد من كبار المسؤولين الأفارقة، أن "القارة الأفريقية تُعد من أولى القارات في العالم التي تزخر بالمواد الأولية على غرار الحديد والزنك والكوبالت والنحاس وكذلك الذهب، كلها عوامل تدفع العملاق الاقتصادي الصين إلى التخطيط لنيل نصيبه من هذه الثروات الطبيعية لتزويد مصانعه بها"، مشيراً إلى أن "الصين تُعد الآن مصنع العالم، ما يجعلها بحاجة إلى المواد الأولية".
حرب باردة جديدة
ولفت رئيس مجلس الأعمال التونسي - الأفريقي إلى أن "الصين أضحت من أولى الدول التي تمنح قروضاً للدول الأفريقية إلى درجة إغراق بعضها بالديون، ما يعطي بكين هامشاً مهماً في التفاوض بشأن الصفقات الكبرى ويمنحها الأفضلية في الفوز بهذه المشاريع العملاقة على غرار مناجم الحديد والمواد الأولية الأخرى".
كما نبه أنيس الجزيري إلى مسألة اعتبرها غاية في الأهمية وتتمثل في "نشوب حرب باردة بين الصين من جهة والولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية من جهة أخرى، على الزعامة الاقتصادية والسياسية في أفريقيا". وفسر في هذا الصدد أن الدول الأوروبية وتحديداً فرنسا، تساند أفريقيا في السنوات الأخيرة في حربها على الإرهاب من منطلق العلاقات التاريخية والاستعمارية بينها وبين عدد من الدول الأفريقية على أن يتم التفاوض في ذات الوقت على الصفقات الاقتصادية، بينما تركز الصين على الجانب الاقتصادي إلى درجة أنها أصبحت المستثمر الأول في أفريقيا، وبخاصة دول جنوب الصحراء من خلال إنشائها مشاريع مجانية مثل بناء المدارس والمستشفيات والطرقات".
أهم شريك تجاري لأفريقيا
وأظهر التقرير السنوي للعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين وأفريقيا الصادر، السبت 25 سبتمبر (أيلول) 2021، أن قيمة التجارة الثنائية بلغت 187 مليار دولار في عام 2020، على الرغم من الصعوبات التي فرضتها جائحة فيروس كورونا، لتحافظ بالتالي الصين على ريادتها كأفضل شريك تجاري لأفريقيا، وذلك على امتداد 12 سنة متتالية. وكشف ذات التقرير أن حجم التجارة البينية، بين الصين وأفريقيا سجل نمواً قوياً في الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي بنسبة 40.5 في المئة ليصل إلى 139 مليار دولار. كما عرف الاستثمار الصيني في أفريقيا توسعاً مهماً، على الرغم من المنحى التنازلي في التجارة والاقتصاد العالميتين، الناتج عن آثار فيروس كورونا بحسب ذات التقرير، إذ بلغ الاستثمار الصيني في القارة السمراء 2.9 مليار دولار سنة 2020 بزيادة قدرها 9.5 في المئة.
وأشار التقرير إلى أن الاستثمار الصيني تركز في الأساس على قطاعات الخدمات، مع تسجيل ارتفاع في الاستثمار في قطاعات جديدة على غرار البحث العلمي والتكنولوجيا والنقل والتخزين بواقع الضعفين.
وبلغ الاستثمار الصيني المباشر حتى نهاية يوليو (تموز) الماضي، ما قيمته 2 مليار دولار، أي أفضل من المستوى المسجّل في عام 2019 أي قبل الجائحة.
وذكر التقرير أنه تم بناء 25 منطقة صينية للتعاون الاقتصادي والتجاري في 16 دولة أفريقية وجذبت هذه المناطق 623 شركة باستثمارات إجمالية بقيمة 7.3 مليار دولار، ووفرت أكثر من 46 ألف فرصة عمل للدول الأفريقية.
مرحلة جديدة من التعاون والنمو
ويقول وانغ ليشنغ، رئيس مجلس الأعمال الصيني - الأفريقي، إن "الصين والدول الأفريقية يتعاونان في مجالات عدة على الرغم من تفشي فيروس كورونا"، مشيراً إلى أن "التعاون الثنائي سيدخل مرحلة جديدة من النمو، سيتم خلاله تعزيز التعاون الصناعي في مجالات عدة، مثل التصنيع بين الصين وأفريقيا وتدشين المجمعات الصناعية للمساهمة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية". وأضاف أن "التعاون الصيني - الأفريقي، حصل على قوة دفع بفضل منتدى التعاون الصيني الأفريقي (FOCAC) الذي تأسس عام 2000، حيث اتخذت العلاقات المشتركة بعداً جديداً تمثل في التعاون الجماعي الأفريقي مع الصين". وأشار ليشنغ إلى أن "الشركات الصينية أسهمت في التصنيع وتحسين سبل العيش من خلال استثماراتها في أفريقيا، ما جعلها إحدى القوى الدافعة للنمو الاقتصادي الشامل لأفريقيا، الأمر الذي يمكن أن ينعكس على تعزيز التصنيع وخلق فرص العمل وتحسين بناء البنية التحتية".
دفع سياسي قوي
الوجود القوي للصين في أفريقيا لم يكن لينجح لولا الدفع السياسي القوي واللافت من الرئيس الصيني شي جينبينغ الذي سخر كل الإمكانيات المالية من أجل مزيد بسط نفوذ بلاده الاقتصادي على تلك القارة، التي يعتبرها باحثون "الفضاء الطبيعي" الجديد للصين بغرض التوسع الاقتصادي والتجاري وبخاصة إحكام السيطرة على الموارد الطبيعية التي تزخر بها.
وخلال قمة مع قادة أفريقيا في بكين، وعد الرئيس الصيني في 3 سبتمبر (أيلول) 2018 بتقديم عشرات مليارات دولار في السنوات الثلاث المقبلة، للمساهمة في تنمية القارة.
وتعهد شي جينبينغ بتقديم نحو 60 مليار دولار لتمويل مشاريع تنمية في أفريقيا في السنوات الثلاث المقبلة. وسيشمل التمويل 15 ملياراً "كمساعدة مجانية وقروض من دون فوائد" وخطوط قروض واستثمارات شركات صينية، في وقت تواجه الصين فيه اتهامات بإغراق شركائها الأفارقة في ديون هائلة.
ولاحتواء هذه الانتقادات، أعلن الرئيس الصيني أن بلاده "ستلغي" جزءاً من ديون الدول في القارة الأفريقية، لكن دون أن يحدد مواعيد لذلك ولا أسماء الدول المعنية.
وضمن الستين مليار دولار الموعودة، قروض بقيمة 20 مليار دولار وصندوقان مخصصان للتنمية وتمويل واردات السلع الأفريقية تناهز قيمتهما 15 مليار دولار.
كذلك، سيتم تشجيع الشركات الصينية على استثمار "عشرة مليارات دولار على الأقل" في أفريقيا خلال الأعوام الثلاثة المقبلة. لكن هذه الاستثمارات التي رحبت بها الدول الأفريقية الراغبة في التنمية الاقتصادية أدت أيضاً إلى زيادة ديونها حيال بكين بشكل كبير، كما تقول أصوات في الدول الغربية.
ما بين 1000 و2500 شركة
وتسعى الصين التي تغلغلت خلال السنوات الأخيرة في اقتصاديات الدول الأفريقية، سواء عبر تمويل مشاريع في هذه الدول أو نقل بعض التكنولوجيات الحيوية، إلى المحافظة على مكانتها، بل وتعزيزها من خلال التوقيع على عقود اقتصادية واستثمارية أخرى تشمل شتى المجالات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتشير دراسة أجرتها وكالة "ماكنزي" الأميركية إلى أن أكثر من 1000 شركة صينية تعمل حالياً في أفريقيا، فيما تتحدث مصادر أخرى عن 2500 شركة، 90 في المئة منها شركات خاصة.
وتوقعت الدراسة أن تصل قيمة الأرباح المالية التي تجنيها الصين من أفريقيا بحلول عام 2025 إلى 440 مليار دولار، أي بزيادة قدرها 144 في المئة. وتُعد جنوب أفريقيا وإثيوبيا من بين الدول التي تتصدر الطليعة في ما يتعلق بالاستثمارات الصينية، بينما تحتل زامبيا وأنغولا ذيل الترتيب.
"طرق الحرير" أو تعبيد الطريق إلى أفريقيا
وأظهرت الدراسة ذاتها في المقابل، أن ما يهم الصين حقيقة من وراء الاستثمارات المالية التي تقوم بها في أفريقيا، هو الحصول على الموارد النفطية والمعدنية التي تملكها بعض الدول الأفريقية، كنيجيريا والجزائر والكونغو وغيرها. والدليل أن 90 في المئة من صادرات الدول الأفريقية إلى الصين تشمل فقط النفط والمعادن والغاز، ما جعل الميزان التجاري يميل أكثر إلى بكين على حساب هذه الدول التي تبقى اقتصاداتها متذبذبة بسبب تذبذب أسعار النفط على المستوى العالمي. وإضافة إلى نسف ثروات أفريقيا الباطنية، ارتفعت، أخيراً، أصوات كثيرة للتنديد بالاستراتيجية الجديدة التي تسلكها الصين، والتي تكمن في شراء أراض زراعية شاسعة في دول أفريقية بهدف استثمارها لإطعام سكانها الذين سيتجاوزون 1.5 مليار شخص بحلول عام 2025.
من ناحيتها، تحاول الصين تبرئة نفسها من الانتقادات التي تطالها بالقول إنها لا تسعى إلى نسف الموارد الطبيعية بقدر ما تريد مساعدة القارة السمراء على النهوض باقتصادها. ففي عام 2013 مثلاً، بادر شي جينبينغ إلى خطة جديدة "تدعى طريق الحرير" تتمثل في جملة من الاستثمارات الصناعية والزراعية والخدماتية، إضافة إلى بناء طرق وجسور ومبان وغيرها من المرافق.
تخوف الغرب
ينظر الغرب إلى العلاقة الصينية - الأفريقية الناشئة بنوع من الخوف والحذر. فمثلاً ترى تأثير فرنسا الاقتصادي يتراجع بشكل كبير في الجزائر بعدما كانت الشريك التجاري الأول لها في منطقة شمال أفريقيا. نفس الشيء أيضاً بالنسبة للمغرب الذي بدأ يرفع من تبادلاته التجارية مع الصين.
والصورة ذاتها تقريباً تسود في الدول الأخرى، مثل نيجيريا وجنوب أفريقيا وكوت ديفوار ومالي ودول أخرى أصبحت شوارعها ومؤسساتها تعج بالصينيين.