يتجاذب عملية تشكّل الوعي التاريخي على المستوى السياسي والحضاري والثقافي والديني في الجزائر، كما في البلدان المغاربية الأخرى، مركزان أساسيان هما باريس وإسطنبول، بما يمثلانه من حضور رمزي، جرَح الوعي الفردي والجماعي في الماضي (منذ بداية القرن السادس عشر وحتى ما بعد منتصف القرن العشرين، أي من 1516 إلى 1962)، ولا يزال ينحت له اليوم تصورات معينة لمستقبله، وهذان المركزان هما اللذان يحددان التصور الجزائري للمسائل الأساسية التالية: الوطنية، والحكامة، والهوية، والعلاقة بالدين: (التدين) السياسي والعباداتي.
في الجزائر الجديدة، والتي هي في طور "السِّبَاكة" السياسية والاجتماعية والجمالية، تجلّى هذا التعلق والرفض، الولاء والمعارضة، القبول والنفور، لهذين المركزين في كثير من الشعارات و"الكاريكاتورات" التي رفعها المتظاهرون في الحراك الجزائري، في جُمْعاته كلها، منذ 22 فبراير (شباط)، وظهر أيضا في المساجلات والمناقشات والخصومات بين الجزائريين على وسائل التواصل الاجتماعي.
مركز باريس: بمجرد ذكر اسم "باريس" تتجلى صورتان مختلفتان، بل متعارضتان، إزاء هذا الفضاء ما بين المشرق والبلدان المغاربية. واحدة شكّلها المخيال المشرقي، حيث لا يزال العربيّ، وبمجرد المجيء على ذكر باريس، إلا ويُخرج عبارة طه حسين الشهيرة، والتي تحمل ثقافة الاحتفاء والإعجاب بالمدينة "باريس بلاد الجِنّ والملائكة"، ويتذكر العربيّ هذا المركز أيضا، وبكثير من الرومانسية، من خلال رواية "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، و"الحي اللاتيني" لسهيل إدريس، أذكر هذين العنوانين فقط بوصفهما الأكثر رمزية والأكثر تأثيرا في صناعة الوعي التاريخي لأجيال متلاحقة عن طريق الأدب السردي، وهي صورة مشحونة بـ"النوسطاجيا" بعيدا عن كل أصباغ "العنف الكولونيالي" الذي وضعته الثقافة والسياسة الجزائرية بخاصة، والمغاربية إلى حد ما، على وجه باريس.
بغرض نقد التبعيّة لباريس، يردّد بعض الجزائريين العبارة التالية "حين تُمطر في باريس يرفع الجزائريون مظلاتهم في شوارع الجزائر العاصمة"، و هي عبارة تدلّ على الارتباط والانفصام في الوقت نفسه حيال باريس من قبل المجتمع الجزائري، ولها دلالتها الكبيرة في رسم صورة للتاريخ المتوتر والدموي والثقافي بين الجزائر وفرنسا.
إن تاريخ علاقة الجزائري بباريس تميزها حالة من الصراع المستمر، من التوتر السيكولوجي المُعقّد، والذي لم يستطع الجيل الجديد، الذي لم يعش الحرب، ولم يعشها حتى آباؤه، دفن هذا الصراع. لم يستطع إقامة وليمة عزاء للماضي، ولا حتى قلب ورقة هذا الماضي والبدء في كتابة صفحة جديدة، فالعلاقة مع باريس، والتي تشكّل عصب الوعي الفردي والجماعي الجزائريَين، تتميز بالكراهية والحب، بالقدح والغزل، بالنفور والعناق، كل هذه الحالة السيكو- ثقافية أنتجها رأسمال العنف الاستعماري من جهة، ورأسمال "الوطنياتية الشعاراتية" في مرحلة الاستقلال لمدة خمسين سنة لتبرير الإخفاقات السياسية والاقتصادية. الجزائري يكره باريس ولكنه يفكر في الهجرة إليها في أول فرصة للهروب من جحيم الوطن. الجزائري يكره اللغة الفرنسية ويحرص على تعليمها لأبنائه، (جميع الطبقات الاجتماعية دون استثناء). الجزائري يرفع العلم الوطني وهو يقف فجرا في طابور لا ينتهي طلبا لتأشيرة الهجرة إلى باريس. الجزائري يُطرد أو يُلاحق من قبل سلطة بلده، معارضاً إسلامياً كان أو يسارياً، فيذهب إلى باريس ليسبها ويسب نظام بلده على المستوى نفسه. يمرض الجزائري فيسافر للعلاج في مستشفيات باريس، وفي الوقت نفسه يؤمن بالمداواة بالسحر وبالرُقية وبالدجل في بلده، ويستميت في الدفاع عن ذلك بخطاب دينيّ ضد علمانية باريس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثم إن بين الجزائر وباريس شراكة ديموغرافية كبيرة، وحتى هذا الرأسمال الديموغرافي يحمل جروحا كثيرة، وتناقضات عجيبة، ففيه نسبة من "الحركي" وأبنائهم وأحفادهم، وهم الفئة الجزائرية التي اختارت جهة فرنسا أيام الثورة التحريرية، وهناك فئات أخرى من المهاجرين، ومن المعارضين للنظام الجزائري على مدى أزيد من نصف قرن من الاستقلال، إذ يعيش نحو ثلاثة ملايين جزائري بفرنسا (الرقم غير رسمي)، فلا توجد عائلة جزائرية واحدة لا تملك قريبا يعيش في فرنسا (أب، أخ، أخت، خال، خالة، عم، عمة، صهر، نسيبة، جار، جارة). فهي "الأنا" الغريب "في الذاكرة".
فباريس من خلال هذه العلاقة المعقدة التي يتقاطع فيها التاريخي والسياسي والثقافي والديني والخرافي، هي المركز الذي صنع في مخيال الجزائري صورة عن "الآخر"، وعبره ومن خلاله صاغ موقفا شموليا حيال "الآخر"، الذي هو الغرب، و كل ما يصنع الجزائري من صورة تجاه الغرب بما فيها من افتنان أو كُره يمر عبر الموقف من فرنسا، فالغرب هو أولا فرنسا، الغرب هو أولا الاستعمار.
إسطنبول: على الرغم من أن الاستعمار العثماني التركي قد عمّر ثلاثة قرون وعشرين سنة (1516-1830) في الجزائر، إلا أن العلاقة مع ورثة الخلافة العثمانية المعاصرين (الأتراك) ليست متوترة كما هي مع باريس، بل على العكس من ذلك، ففيها كثير من التسامح، وقد استطاع الجزائريون أن ينسوا مآسي هذا الاستعمار وما عانوه من ظلم واضطهاد وضرائب ومصادرة الأملاك وسبي النساء والأطفال طيلة ثلاثة قرون، تسلل هذا التعاطف والنسيان إلى قلب وذاكرة الجزائري من بوابة "الديني"ّ، فالجزائري كائن دينيّ بامتياز، فعلى الرغم من أن ثلاثة قرون من الاستعمار العثماني التركي كانت قفرا من الثقافة والعلم والعمران، ولم تنتج المرحلة عالما كبيرا أو أديبا متميزا، إلا أنه وباعتبار الخلافة العثمانية تدين بالإسلام، فقد مسح لها ذلك كل ذنوبها. لذا فهذه المصالحة جعلت الجزائري يتعامل مع تركيا اليوم بكثير من الاطمئنان، وبعيدا عن جرح الماضي الذي استطاع أن يدفنه ويقيم له العزاء، وقد استطاع التيار السياسي الإخواني، الذي تشكل على مدى أربعين سنة في المدرسة الجزائرية، أن يحتفل بتركيا النظام بوصفها دولة يقودها حزب إخواني، فلهم في الجزائر أتباع ومعجبون كثر، وأحزاب سياسية إسلامية كلها تعرّف نفسها على أنها من التيار الإخواني، بل ويتسابقون في الولاء لحزب "العدالة و التنمية"، الذي يرأسه طيب أردوغان، بوصفه الحزب الإخواني الوحيد الذي وصل إلى السلطة مذ تأسيس أول حزب للإخوان بمصر العام 1928.
لكن الغريب في "عقل" النخب الجزائرية، الإسلامية منها و الوطنية المحافظة، هو أنها تتعاطى بولاء وعشق مع النظام السياسي التركي الإخواني الذي يعتمد العلمانية، ولكنها في الوقت نفسه تكره العلمانية وتدينها، وتعتبرها "فرنسية" واستعمارية وتخريبا للدين، وزندقة، وهو ما يبين حالة الانفصام في النخب السياسية الجزائرية.
وهذه العلاقة المتداخلة والغريبة، علاقة زواج المتعة أو زواج المسفار، ما بين النخب الإخوانية الإسلامية في الجزائر ومثيلتها في نخب تركيا "العدالة والتنمية"، جعلت الجزائري يُقبل على الثقافة الاستهلاكية الدينية الإخوانية والفنية بسهولة ويسر، فاللباس الإخواني النسائي التركي غزا واجهات المحلات التجارية، وباتت النساء العموميات من مذيعات تلفزيون وممثلات ومغنيات يلبسن هذا اللباس على حساب اللباس المحلي الجزائري، كما أن استهلاك المسلسلات التركية المترجمة زاد من انتشار هذه الثقافة الاستهلاكية، كما أن هذه العلاقة غيّرت حتى من أسماء الجزائريين من الجيل الجديد، فظهرت بعض أسماء الذكور والإناث التي لم تكن تذكر في الحالة المدنية الجزائرية، وهي من تأثير أسماء نجوم المسلسلات التركية.
فالتركي في عين الجزائري هو الآخر، وفي الوقت نفسه هو ليس الآخر، فالنخب الإخوانية في الجزائر وأطياف أخرى لا يمكنها أن تبلع فكرة أن حزب الإخوان المسلمين المسمى "العدالة والتنمية" الطبعة التركية والمعجبة به، والتي تربطها به رابطة الولاء، يقيم علاقة دبلوماسية مع إسرائيل، حيث أن القضية الفلسطينية بالنسبة إلى الوعي الجزائري هي قضية دينية أساسا، وهي مرتبطة في ذهنه بالمقدس أكثر مما هي بقضية تحرر من استعمار.
لذا فالنخب الإخوانية وأتباعها في الجزائر، من خلال علاقتها بإسطنبول، تعيش حالة من الارتباك والانفصام أيضا، كلما طرحت فكرة تبني العلمانية من قبل حليفها حزب الإخوان "العدالة والتنمية"، ويحاول الخطاب الإخواني عدم التعرض إلى ذلك مطلقا، لأنه يدرك أن الحديث عن هذا الموضوع قد يحدث نفورا وفتنة داخل قطيع المنتسبين إليه، والنخب الإسلامية الإخوانية الجزائرية تريد أن يظل ارتباط "العلمانية" بفرنسا فقط، لذا فحين يتعلق الأمر بالعلمانية في فرنسا تدينها، وحين يتعلق الأمر بالعلمانية في تركيا الإخوانية تسكت عنها، وتلك حالة الشيزوفرينيا التي تعيشها النخب الجزائرية حيال المركزين الأساسيين (باريس وإسطنبول) اللذين يصنعان شقاء رحلة الوعي التاريخية والدينية والسياسية في الجزائر الجديدة، التي تخرج في حراك شعبي منذ 22 فبراير (شباط) 2019.