نشر ديوان "أغاني الحياة" لأبي القاسم الشابي عام 1955 بتقديم شقيقه محمد الأمين الشابي الذي اعتمد النسخة التي جمع قصائدها الشاعر نفسه، وانعطف عليها بالتنقيح والمراجعة، مستبعداً كل القصائد التي حذفها الشاعر فلم يدرجها ضمن الديوان... غير أن الطبعات اللاحقة لـ"أغاني الحياة" أضافت قصائد لم يثبتها الشاعر في النسخة الأولى، عثر عليها مدونة في مسودات الشاعر، أو مبثوثة في بعض دفاتره، أو محفوظة لدى بعض معارفه وأقاربه.
هكذا وجدنا عدد قصائد الشابي يرتفع في كل طبعة من طبعات الديوان من غير أن يكلف الناشرون أنفسهم مشقة تقويم ما أضافوا من قصائد، لم تحظ، في الأصل، بموافقة صاحبها لتكون ضمن ديوانه. فكأن اسم الشاعر وحده كفيل بإجازتها، وتزكيتها ومن ثم كفيل بضمها إلى الديوان. والحال أن الشاعر قد بذل جهداً كبيراً في اختيار قصائد "أغاني الحياة" حتى تكون منسجمة على اختلافها، متقاربة على تباعدها، كما يخبرنا بذلك كتاب "المداد الحي".
مختبر الكتابة عند الشابي
أصدرت وزارة الثقافة التونسية كتاب "المداد الحي" الذي يضم آثار أبي القاسم الشابي الشعرية والنثرية بخط يده، وذلك ضمن احتفائها بالذكرى المئوية لميلاد شاعر تونس الكبير. وقيمة هذا الكتاب تكمن، في نظرنا، في معرفة القصائد التي اختارها الشاعر لديوانه «أغاني الحياة» والقصائد التي استبعدها، كما تكمن في طرائق ترتيبها، وأساليب كتابتها. وقبل هذا تكمن قيمته في «المسودات» التي ضمها، والتي تكشف لنا عن «مختبر» الشاعر السري، ومراحل تخلق القصيدة لديه.
وإنه لمن الممتع حقاً تتبع ولادة القصائد من خلال هذه المسودات. فكل صفحة من صفحات «المداد الحي» عبارة عن «لوحة» تتداخل فيها الحروف، بالسطور، بالأرقام، بلطخات الحبر تداخل التسوية والتشابك.
فالشاعر يكتب من خلال الشطب، يضع لفظة محل أخرى يثبت بيتاً على أنقاض بيت ثان، ثم يستدرك من جديد فيعود إلى ما كتبه بالمراجعة فالشطب. كل المسودات التي اطلعنا عليها تؤكد أن القصيدة لا تكتب من خلال ما ارتضاه الشاعر وأثبته فحسب، وإنما تكتب من خلال ما محاه واستبعده أيضاً. وإذا كان الديوان المطبوع يتكتم عما ألغاه الشاعر وشطبه فإن كتاب «المداد الحي» يبوح به، ويكشف عنه فاضحاً بذلك لعبة الكتابة، معلناً عما استتر من قوانينها.
نصوص مجهولة
أما الكتاب الجديد بعنوان "ظلال النخيل" عن جمعية الشابي للتنمية الثقافية والاجتماعية، وضم عدداً من النصوص الشعرية والنثرية التي لم تنشر من قبل لأبي القاسم الشابي جمعها وحققها وقدمها الباحث علي الشابي. ولعل أول مصدر اعتمده المحقق يتمثل في الوثائق التي سلمها إليه ابن الشاعر جلال الشابي فعكف على دراستها وجمع منها ما لم ينشر من أدب الشابي شعراً ونثراً فنياً ورسائل منه وإليه. وقد انتهت به القراءة المتأنية للوثائق إلى ضبط ما لم ينشر من أدبه، ويتمثل في:
25 نصاً شعرياً أدنى ما في هذه النصوص من حيث الكم بيت واحد. وهذه النصوص "موزعة بين الوطنية والحكمة ووصف الطبيعة والغزل والرثاء وأشواق الصوفية والرومانسيين".
-7 نصوص من قبيل المقالات والخواطر.
-15 نصاً من قبيل قصائد النثر أو النثر الفني، بحسب عبارة المحقق.
أما المصدر الثاني الذي اعتمده المحقق فهو الرواية، وقد نقل معتمداً هذا المصدر قطعاً شعرية ثلاثاً.
ينبغي الإقرار أن الأسئلة التي اجترحها الشاعر في هذه النصوص هي الأسئلة عينها التي اجترحها في ديوانه، بل ربما ذهبنا إلى القول، إن بعض نصوص قصائد النثر تبدو حلاً لقصائد "أغاني الحياة" وتبدو بعض قصائد "أغاني الحياة" نظماً لبعض نصوص قصائد النثر. كل هذه النصوص تؤكد أن الكتابة، لدى الشابي تدفق حر للمشاعر تنتفي معه الإرادة، فهي إذا أخذنا بعبارات جابر عصفور، أشبه ما تكون بالنبع الذي يفيض من الداخل إلى الخارج من غير أن يكون للشاعر دور في توجيه حركة تدفقه أو الحد منها.
إن الشعر سليل الحياة، هذا ما تقوله قصائد الشابي، وكون الشعر سليل الحياة، فهذا يعني أن الشعر يسهم في تحرير هذه الحياة، وفي نقلها من مجال الضرورة إلى مجال الحرية. والواقع أن الكتابة، في سياق الحركة الرومنطيقية تعني، في المقام الأول، نقل المشاعر من وجودها الداخلي الغامض في النفس إلى وجودها الخارجي في القصيدة. فالشعر إذا اقتبسنا، عبارة محمود عباس العقاد اللافتة، هو "صناعة توليد العواطف بواسطة الكلام"، غايته الأولى اكتشاف مجهول النفس "هذه الأرض التي لم نعرفها ولن نعرفها" وهذا "الوطن السحري والأرض القصية التي ما رأتها عين من قبل".
هذه المعاني نفسها نجدها مبثوثة في هذه النصوص الشعرية والنثرية. فالكتابة لدى الشابي، تعبير عن الانفعالات والمشاعر، أو إذا أردنا الدقة قلنا إنه "ترجمة" يتم بمقتضاها نقل الأحاسيس من وجود داخلي مشوش إلى وجود خارجي واضح جلي يتحكم فيه نظام دقيق هو نظام اللغة. وعبارة الترجمة تشير، في هذا السياق، إلى أن الشعر هو، في المقام الأول، انتقال من لغة إلى أخرى، اللغة الأولى هي لغة المشاعر والأحاسيس، أما اللغة الثانية فهي لغة الكلام والإيقاع. ويترتب على ذلك أن الشعر ليس الانفعال فحسب، وإنما هو طريقة مخصوصة في التعبير عن ذلك الانفعال. ولما كان الانفعال حالة ذاتية وجب أن تكون طريقة التعبير عنه طريقة ذاتية أيضاً، أي يجب أن يكون الشعر قادراً على الإعلان عن تفرده وتميزه واختلافه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الشعر خلق مستمر للغة
وبسبب من هذا رفض الشابي، في كتابه "الخيال الشعري عند العرب"، أن يكون الشعر استرجاعاً لنماذج مركوزة في الطباع والعقول، ودعا إلى البحث عن أشكال جديدة قادرة على الإفصاح عن جوهر التجربة الحديثة. فالكتابة مثل الحياة لا تتجلى في هيئة واحدة مرتين، كل تجل يأتي بشكل جديد ويذهب بشكل قديم.
هكذا كان شعر الشابي اكتشافاً للزمن في تغيره، بعد أن كان الماضي في الشعر التونسي هو الحاضر المتدفق دائماً يعم كل الأزمنة، ويستغرقها. أي أن شعر الشابي كان خروجاً على منطق الدهر والجواهر الثابتة وانتساباً إلى منطق التاريخ والأعراض المتحولة. والشابي كان أحد الشعراء الذين لجموا الماضي وحدوا من اندفاعه وأتاحوا للحاضر أن يكون.كل هذا يدل على أن الشعر بات شكلاً من أشكال الوعي بالذات، شكلاً من أشكال الحضور في العالم، وأكثر من هذا بات كشفاً للوجود، وتبديداً لغموضه، أي بات غزواً واقتحاماً واستشرافاً.
كان الإحساس بالخلل ينتاب كل شيء إيقاعاً متواتراً في قصائد الشابي لهذا تحولت الكتابة، عنده، إلى طريقة نقد للحياة ومحاولة لتقويم ما اختل من أمرها. ومن كل هذا نستنتج أن هذه النصوص لن تضيف جديداً إلى مدونة الشابي فهي رجع صدى لأعماله السابقة، تستعيدها بطرائق شتى، وربما لهذا السبب استبعدها الشاعر فلم يثبتها في كتبه المعروفة. ثم إن العنوان الذي وضعه المحقق بدا باهتاً غير موفق، لهذا ندعو إلى تعويضه بعنوان آخر يفصح عن تجربة الشابي ويوحي ببعض ملامحها.
لقد ظل الشابي رغم إقامته القصيرة في هذه الأرض من أكثر الشعراء العرب الرومنطيقيين حضوراً في الوجدان الجماعي، وظلت قصائده من أكثر القصائد العربية الحديثة جرياً على الألسن. فهو من سلالة الشعراء الكبار الذين لم يدركهم الموت ولم يعترِ ذكراهم الذبول، فكلما خلناه توارى وطواه النسيان عاد إلينا أكثر إشراقاً وتوهجاً.
لعل آخر المناسبات التي شهدت عودة الشابي إلى الحياة وخروجه من مطاوي النسيان انتفاضات الربيع العربي حيث تحولت أبياته المشحونة بالغضب إلى شعارات تهتف بها حناجر المحتجين في كثير من الأقطار العربية. هذه الأبيات التي تتغنى بالإرادة بوصفها قرينة الحياة، وبالحرية بوصفها جوهر الوجود لم تفقد يوماً قوتها وحضورها.