يعود التشكيلي المغربي فؤاد شرودي إلى الفيزياء وإلى الميثولوجيا ليستوحي فكرته الجديدة، منتصراً بذلك للفوضى، ومنحازاً للعشوائيات الكونية، على حساب الأنظمة الثقافية والفنية التي تعمل على تنميط الذوق الإنساني.
في معرضه الجديد في المعهد الفرنسي بالرباط، تبدو الأعمال الفنية المنتقاة للفنان التشكيلي المغربي فؤاد شردودي متناغمة على نحو مذهل، لدرجة أن المتلقي يحس كما لو أنه أنجزها دفعة واحدة بالحالة الشعورية ذاتها، وأن ضربة الفرشاة كانت بالوقع ذاته على الرغم من تعدد اللوحات. فمساحات الضوء متقاربة في مجمل الأعمال، والألوان تتفرع بعضها من بعض، في اتجاه أن تشكل عالماً متبَلِّراً لا حيّز فيه للنشاز. لا يرغب الفنان المغربي بمفاجأة من يشاهد لوحته، ولا يصبو بالضرورة إلى إدهاشه، بقدر ما يريد أن يأخذه معه على بساطه السحري نحو تلك العوالم العميقة التي يتخلق منها الفن. تسمح أعمال شردودي بالسفر فيها وتدعو إليه.
يكاد اللون الرمادي عند فؤاد شردودي يشكل خلفية، لا مرئية على نحو مكشوف لمجمل أعماله، ومن هذا اللون يمكن أن تخرج كل الألوان. كأنما يومئ إلى رواد معرضه بأن الحياة بكل مباهجها يمكن أن تتولد من لحظات الانطواء.
التشكيل بمرجعية علمية وفلسفية
في الكثير من الأعمال، تتشكل اللوحة من خطوط تتخذ هيئة شباك، ولا نعرف لمن ينصب الفنان المغربي شباكه. تدرك العين أنها أمام متاهة، وليس من الضروري الوصول إلى منجى. فلوحات شردودي تحمل أسرارها، ولا تدعو محبيها إلى لعبة فك الألغاز، بل تدعوهم إلى المجاراة، وإلى الاستمتاع برحلة تشكّل الألوان، من دون الانضباط في نظام فكري أو جمالي معين. لذلك كان اختياره لعنوان معرضه الجديد "مديح السديم أو الكاووس/ ELOGE DU CHAOS" اختياراً مبنيّاً على وعي فلسفي ومعرفي خاص.
فكلمة CHAOS منتزعة من حقل الفيزياء، ذلك أن CHAOS THEORY نظرية فيزيائية ورياضية حديثة ترصد السلوكات "العشوائية" في الكون "الميكانيكا السماوية".
ثم إن كلمة "سديم" تعيدنا إلى الميثولوجيا الإغريقية، فهذه المفردة ترصد الوضع البدئي للعالم، قبل أن يعمد الإله كاوس إلى تنظيمه وترتيبه. إن معرض شردودي هو دعوة ضمنية للعودة إلى الحالة الطبيعية للإنسان الذي أنهكته تدرجات الزمان وتحولاته الرهيبة. وهذه الدعوة تحمل في طياتها هروباً من أنظمة الحياة الجديدة التي قيدت الإنسان المعاصر بالكثير من الإتيكيت والتعاقدات الاجتماعية التي تريد تنميط الذوق.
الحرية دعامة للسديم
يمكن لمن يتابع مسار شردودي أن يحس بجرعة من الجرأة في أعماله الجديدة، كما لو أنه أطلق العنان لفرشاته لتعمل في لوحاته بحرّية أكبر من ذي قبل. وهذه الحرية تعبّر عنها، على نحو بليغ، حركة الخطوط داخل اللوحة، وهي حرية تتلاءم وفكرة السديم التي أقام فؤاد شردودي معرضه الجديد من أجل مديحها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أمام لوحات شردودي، تتراجع كل خبرة بصرية تاركة مهمة الوقْع للعين. فثمة راحة يحس بها المتلقي وهو ينتقل من عمل فني إلى آخر. فالتناغم سمة تسبك أعمال الفنان المغربي، ليس في معرضه الراهن فحسب، بل في مختلف أعماله. ثم إن الحرية في لوحات شردودي تشكل تيمة قائمة بذاتها، بل طاغية على مجمل الأعمال.
ولد فؤاد شردودي عام 1978، يكتب الشعر ويمارس التشكيل منذ عقدين ونيّف، أصدر أربعة أعمال شعرية، حاز جائزة بيت الشعر في المغرب، وحاز بالمقابل الجائزة الأولى لـ"بينالي" الفنانين العرب بالكويت قبل عامين، عضو المكتب المركزي لبيت الشعر في المغرب، والأمين العام لنقابة الفن البلاستيكي. شارك في معارض فنية بالمغرب وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا وغيرها فضلاً عن مشاركاته في معظم بلدان العالم العربي. وتوجد لوحاته في كبريات المؤسسات المقتنية للأعمال التشكيلية مثل البرلمان المغربي ووزارة الثقافة ومتحف محمد السادس ومتحف بنك المغرب. كما أن عدداً من لوحاته دخل في المزادات العالمية. والأعمال الجديدة المعروضة في رواق المركز الثقافي الفرنسي بالرباط هي فاكهة تلاقح بين مرجعيتين أساسيتين عند شردودي، هما المرجعية الفنية من جهة، والثقافة الشعرية الواسعة لديه. فهو من الذين يؤمنون بغياب القطيعة بين الشعر والتشكيل. بل يستثمر هذه الخبرات في تقريب المسافة والتجسير بين شكلين إبداعيين مختلفين، بدليل أنه أقام معرضين لأعمال فنية مستوحاة من نصوص محمود درويش عام 2009 ثم عام 2018. كما أن أعماله الشعرية حافلة بالتشكيل على المستوى التقني وعلى مستوى بناء الصورة الشعرية.