كتاب "مذكرات مالتا لاوريدس بريجا" (دار الرافدين)، للشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه ترجمته الأكاديمية العراقية نجاة عيسى عن الألمانية، وهو أقرب إلى السيرة "شبه الذاتية" لمؤلفه الذي طالما ركّز في شعره ونثره على صعوبة التواصل الإنساني في زمنه الذي اعتبره "عصر قلق عميق"، ما جعل منجزه همزة وصل أو فصل بين الشعر التقليدي وشعر الحداثة. وكان الأكاديمي الفلسطيني إبراهيم أبو هشهش ترجمه سابقاً من الألمانية وصدر العام 2017 عن دار الشروق الأردنية. وهذا يعني أن ثمة صيغتين مختلفتين متاحتين أمام القراء العرب. ومن أشهر أعمال ريلكه الشعرية "مرثيات دوينو". أما أشهر أعماله النثرية، فتشمل كتابيه "رسائل إلى شاعر شاب" و"مذكرات مالتا لاوريدس بريجا"، علماً أنه كتب أكثر من 400 قصيدة بالفرنسية، في حب موطنه الذي اختاره في كانتون فاليز في سويسرا.
وريلكه يسمّونه "الشاعر الذي قتلته وردة"! ففي أحد صباحات أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1926، خرج إلى حديقة مقره السويسري لكي يقطف، كعادته، بعض ورودها. لم يكترث عندما جرحت يده شوكة، ولم يخَف حين ظهرت لديه في المرحلة ذاتها بوادر مرض اللوكيميا الذي سرعان ما أسلمه إلى الموت.
وجاء في مقدمة المترجِمة أنه بين عامي 1902 و1903 أقام راينر ماريا ريلكه (1875 – 1926) في باريس، فقرر كتابة انطباعاته عن إقامته تلك بهيئة رسائل يومية تحت عنوان "مذكرات مالتا لاوريدس بريجا"، يسردها على لسان الشخصية الوارد اسمها في العنوان. يبدأ الشاب الدنماركي مالتا البالغ من العمر 28 سنة مذكراته في 11 سبتمبر (أيلول) في شارع تولير في باريس التي ذهب إليها بعد تفكك عائلته الأرستقراطية، ويتحفنا - بتعبير الدكتورة نجاة عيسى - بتقارير يومية عن تجاربه الباريسية والانطباعات الصادمة التي عاشها هناك، إذ إنه يصادف باستمرار المصابين بالجذام والمقعدين ويشم أسوأ الروائح التي تطارده في جولاته، حيث المرض والموت منتشران في كل مكان، الأمر الذي يشكل تناقضاً صارخاً مع طفولته في عالم ريفي محميّ جيداً.
حساسية مفرطة
وبحس ب المتداول بشأن سيرة هذا الشاعر الفذ، المولود في براغ التشيكية، فإنه عُرف منذ صباه المبكر بحساسيته المفرطة إزاء العالم المحيط به، وميله الشديد إلى العزلة والانقطاع إلى التأمل. وبعدما تأكد من عدم قدرته على الانضمام إلى حياة الجماعة، قرر أن يحيا حياة بوهيمية متفردة عمادها الشعر والفن والترحال. وتناول ريلكه في شعره ونثره مواضيع مختلفة، غنية في تفاصيلها تستند بدرجة رئيسة إلى وقائع حياته المضطربة.
ووفقاً للدكتورة نجاة عيسى، فإن ريلكه يقص في كتابه "مذكرات مالتا لاوريدس بريجا"، أحداثاً وقعت له، إضافة إلى تأملات في كتب كان قد قرأها عن الحب والموت والخوف من المنبوذ وعن العلاقة مع الرب أيضاً. وكواحد من رواد الحداثة الأدبية، يستخدم ريلكه في مذكراته تلك التي نشرت عام 1910 تقنيات "التجميع السردي" كي يقدم للقارئ، وليمة لغوية تشترط وجود قراء يتمتعون بصبر نادر عند قراءة عمل صعب، كهذا العمل الذي لا يُعدّ قصة أو رواية بالمفهوم التقليدي، بل قفزات فكرية وتأملات وتخيلات تنبثق من شظايا ذاكرة.
تستند تلك الشظايا كما تقول المترجمة إلى "قصاصات تخيّلية" يملؤها بطل الرواية بصوره الخاصة، ويجول في دوائر مخيلته بين تخيّلات يبدو بعضها سخيفاً، وبعضها الآخر آسراً بطريقة ما. ومهما كانت تلك التخيّلات- تضيف نجاة عيسى - فإنها تشترط أن يكون القارئ يقظاً، يتتبع زخم الأحداث السردية المتنوعة التي تنتقل فجأة، من بيئة إلى أخرى ومن شخص إلى آخر من دون مقدمات، وتترك مهمة ربط تسلسل الأحداث وإرجاعها إلى شخوصها للقارئ اليقظ.
رؤية فلسفية وبراعة تصويرية
وما يتميز به أسلوب ريلكه عموماً هو ليس فقط استعراضه للوقائع الحياتية وتجاربه الذاتية، إنما الكيفية التي عالج بها المواضيع الإنسانية الجوهرية، وذلك عبر رؤية فلسفية عميقة غير قابلة للاندثار، ومنها مواضيع الحب والطفولة والحنين والأمل والكراهية والبؤس والعزلة والصداقة والموت. ولقد طغت مفردات الحنين والموت والعزلة على شعره ونثره مبكراً، إثر تجارب قاسية خاضها في طفولته وصباه.
وتلك المعاناة وجدت، نثرياً، ذروتها القصوى في "مذكرات مالتا لاوريدس بريجا"، وهذا بالتحديد ما أضفى عليها، بحسب بعض ما تناولها من نقد، طابع المعاصرة وجعلها بعيدة تماماً ممّا هو قومي ألماني محض. وثمة ميزة أخرى تتسم بها أعمال ريلكه المبكرة المعروفة بأجوائها السوداوية المفرطة في اليأس والرعب، وهي أنها يمكن أن تتخذ منحى ساخراً أحياناً مثلما تشهد قصصه بشكل خاص.
ورأت الدكتورة نجاة عيسى أن ريلكه لجأ في تلك السيرة أيضاً إلى أسلوب فيه صور مجازية وشعرية تستدعي من القارئ، لا لأن يقوم بقراءتها لمجرد القراءة فقط، بل ليتأملها ويتعرف إلى ما تنطوي عليه من وصف للأحداث والحقائق التي يعنيها المؤلف.
أفكار كونية
وتعود القدرة التصويرية البارعة التي تتسم بها أعمال ريلكه عموماً إلى انشغاله بالفن المعماري وولعه بالفنون التشكيلية، لا سيما النحت. وهكذا كان يوصف بأنه "شاعر نحّات"، بما أنه أراد أن يحوّل جمادات العالم الخارجي إلى رموز نفسية وفكرية، أي أنه أراد محاكاة العالم المستقل عن الذات بصفته مجموعة من الصور الحيّة وذلك عبر عملية التشيّؤ الشعري Dinggedicht القائمة على رصد التحوّل في المناخ النفسي من خلال الإسقاط الذاتي على الشيء المستقل نفسه، أي تحويل الجمادات إلى رموز شعرية. فالشجرة في السياق النقدي ذاته، لا تعني لريلكه شجرة حتى إن كتبها على هذا النحو، إنما الأمل أو الحب أو الحياة برمتها، وكذلك مع الألوان وتحولات الفصول وغيرها من رموز الطبيعة. لكن هذه الكتابات غالباً ما تحاكي الأعمال النحتية، مهتمة بالتفاصيل وما هو هامشي لتبعث فيه الحرارة والحياة. وقد فعل ريلكه ذلك كله تيمّناً بالنحاتين الكبيرين الإيطالي مايكل أنجلو والفرنسي أوغست رودان، الذي اشتغل ريلكه سكرتيراً له بضعة أشهر في باريس.
ولكي ينحت ريلكه شعره ونثره، على حد سواء، بحسب رؤية نقدية تناولت منجزه الأدبي، فإنه يحاول انتزاع الأشياء من طابعها السكوني السلبي وتحويلها إلى وحدات إيقاعية وجودية وحسّية، تعبّر عن الذات المحمولة خارجاً، أي أنه يقوم بعملية تطهّر ذاتية مطّردة بغية تخليص الذات من الأزمات النفسية والتراكمات الفكرية على نحو فني. فيمنح ذلك الشيء المستقل الحرية التامة، لكي يعبّر عن نفسه بأكبر قدر ممكن من الاستقلالية، ولكي يمنح كذلك الحرية التامة لنفسه، باعتباره شاعراً، لإعادة صياغة هذه القراءة الحسية صياغة موضوعية وفنية بدرجة خاصة.
وريلكه الموصوف كذلك بأنه شاعر الوجودية والظمأ إلى الكمال، كانت كتابته تتّسم برؤى فلسفية عميقة، خلال تناولها مواضيع إنسانية مثل الدين والسياسة والثورة الاشتراكية والتغيير الاجتماعي، بجانب تجاربه الذاتية، ما جعله خالداً في وجدان محبي الأدب حتى اليوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الحقيقة - تقول نجاة عيسى في ختام مقدمتها - لا يجد القارئ في "مذكرات مالتا لاوريدس بريجا" كلمات مبهجة مزخرفة منمّقة، كما هي الحال مع بعض الكتّاب العظام، كما أنه لا يجد إفراطاً بالتعابير الزائدة عند وصف الأحداث، بل على العكس من ذلك، يواجه هنا كوناً كاملاً من الأفكار بكلمات موجزة تخطف كثافة نثرها الأنفاس. وهذا يقودنا - تضيف المترجمة - إلى ما يميز هذه المذكرات على وجه الدقة، ألا وهو اللغة الحساسة للغاية والفلسفية العميقة التي لا مثيل لها في النثر الألماني. باختصار إنها سلسلة مذكرات تم سردها بمهارة تعبيرية كي تكتسب بحق التوصيف، الذي أطلقه كاتبها ريلكه عليها، بأنها ليست رواية بل كتاباً نثرياً كتبه تحت انطباع إقامته في باريس، ثالث أكبر مدينة في العالم آنذاك.