عند بدايات السينما الغنائية المصرية حاز الفنان محمد عبد الوهاب شهرة واسعة، وحقق نجاحات هائلة عبر مجموعة من أفلام حققها محمد كريم الذي كان من رواد هذا النوع. ومن المؤكد أن الفيلم الأشهر في تلك المجموعة كان "رصاصة في القلب" الذي عرض في عام 1944، وتميز بأمرين بالغي الأهمية: من ناحية احتوائه على عدد من أجمل أغاني عبد الوهاب بما فيها "حكيم عيون" التي اعتبرت ولا تزال واحدة من أجمل الأغاني المؤداة بصوتين معاً، و"إنسى الدنيا" و"حقولك إيه" وغيرها، ولكن بخاصة أغنية "لست أدري" التي تعرف من خلالها الجمهور السينمائي العريض على شعر اللبناني المهجري إيليا أبي ماضي في واحدة من أجمل قصائده وأقربها إلى الفكر الوجودي الذي كان "على الموضة" في ذلك الحين. غير أن أبي ماضي لم يكن الاسم الأدبي الكبير الوحيد الذي شارك بقلمه في "رصاصة في القلب"، وإن كان اسمه يقودنا إلى الأمر الثاني فائق الأهمية المتعلق بالفيلم، وهو أن الفيلم أتى مقتبساً من مسرحية لتوفيق الحكيم الذي كان لا يخفي منذ زمن كبير توقه إلى الانخراط بشكل أو بآخر في العمل السينمائي هو الذي كان غائصاً في الكتابة المسرحية حين اكتشف تعلقه بالفن الجديد.
قيمة إضافية
والحقيقة أن اسمي إيليا أبي ماضي وتوفيق الحكيم شكلا قيمة إضافية لهذا الفيلم، تماماً كما أن إقدام الممثل النجم صلاح ذو الفقار بعد ذلك بعقدين من الزمن على تقديم المسرحية نفسها على الخشبة القاهرية لم يمر دون أن يُلحظ بقوة. ولعل في إمكاننا أن نقول هنا إن كل هذه الأسماء، إذ اجتمعت في المناسبتين من حول نص الحكيم، جعلت لـ"رصاصة في القلب" مكانة مميزة. لكن هذا شيء، وشيء آخر أن يأتي في أيامنا هذه "جهابذة" النشر الإلكتروني ليروجوا لقرصنتهم للمسرحية، إذ ينشرونها بالقول إنها "أعظم فيلم" و"أروع مسرحية" و"أهم كتب توفيق الحكيم"، وما إلى ذلك من عبارات وخزغبلات انحطت بالفن والإعلام إلى أدنى المستويات، لتجعل الناس يتساءلون عن أين صار الفن والنقد في أيامنا على أيدي هؤلاء "الإعلاميين الجدد".
اجتذاب كبار المثقفين
بالتأكيد يمكننا اعتبار فيلم "رصاصة في القلب" فيلماً طريفاً ومسلياً، كما ستكون حال المسرحية التي حققها صلاح ذو الفقار. وبالتأكيد يمكننا أن نحمد للفيلم الذي أولاه محمد عبد الوهاب عناية خاصة، كونه عبر عن تداخل بين مبدعين مثقفين كبار وفن كان من المعروف حتى ذلك الحين أن كبار المثقفين ضئيلو الاهتمام به، بمعنى أن كثراً منهم بدلوا مواقفهم بعد "رصاصة في القلب" وراحوا ينظرون إلى الفن السابع نظرة أقل عدائية، إن لم تكن أكثر تعاطفاً. ونعرف أن السينما غاصت منذ ذلك الحين في النهل من الأدب الكبير حتى ولئن كانت دائماً أكثر نجاحاً في استلهام النتاجات الأكثر سهولة للمبدعين الكبار من أفلمتها أعمالهم الكبرى. وينطبق هذا بالتأكيد على توفيق الحكيم الذي أُفلمت له نصوص "خفيفة" مثل "الخروج من الجنة" أو "الرباط المقدس"، فيما لم تجرؤ السينما على الدنو من أعمال كبيرة له مثل "أهل الكهف" أو "عودة الروح" ثم حين دنت من عمل كبير له على يد توفيق صالح، الذي كان يعتبر المخرج الأعمق ثقافة بين السينمائيين المصريين في "يوميات نائب في الأرياف" كان إعراض المتفرجين عن الفيلم لافتاً ومحزناً.
جزء من مسرح منوع
ومن هنا لا بد من القول بأن "رصاصة في القلب" فيلم خفيف ظريف مسلّ، ولربما لم يكن من شأنه أن يكون كذلك لولا موسيقى وغناء محمد عبد الوهاب، لكنه، حتى كمسرحية، لا يشغل مكانة متقدمة في كتابة توفيق الحكيم. بل إن هذا الأخير، حين نشر النص، إنما نشره ضمن إطار كتاب جماعي حمل عنان "المسرح المنوع" وضم أكثر من عشرين مسرحية متوسطة الطول أو قصيرة اهتم فيها الحكيم بالتعبير عن عدد من القضايا الاجتماعية كما عن قضية المرأة والعلاقات العائلية ناهيك بتعبيره عن نوع من الصعود الطبقي لفئات جديدة من الطبقات الوسطى كانت قد بدأت ترى النور، في الحيز المديني المصري بصورة خاصة، وجعل مسرحه ينقل صورة ذلك الصعود، ولكن من منطلق أخلاقي أكثر مما يصوره من منطلق سياسي. وحتى في هذا السياق لا تبدو مسرحية "رصاصة في القلب" الأعمق بين تلك المسرحيات، ولا كان من شأنها على أية حال أن تبقى في الذاكرة لولا انطلاقتها المشهودة كفيلم سينمائي. بالتالي لئن كان صلاح ذوالفقار قد جرب حظه مسرحياً بتقديمها، ولئن كان المخرج حسن الإمام قد أعلن مراراً وتكراراً عن رغبته في تحقيق أفلمة جديدة لها في الستينيات كذلك، فإنما كان ذلك استناداً إلى مكانتها كفيلم كوميدي غنائي لا انطلاقاً من عمقها الاجتماعي.
بعيدا من العمق الاجتماعي
ولكن أين العمق الاجتماعي، بل حتى الجمالي الذي ارتبط به فكر وإبداع توفيق الحكيم في القصة التي تروى لنا هنا؟ فالقصة تدور من حول موظف يستعير له الفيلم اسم محسن، الذي كثيراً ما استخدمه الحكيم اسماً لأبطال رواياته الكبرى، لا سيما "عودة الروح"، بدلاً من اسم نجيب الذي يحمله في المسرحية، يعيش حياة شبه بوهيمية لا يهتم إلا بالموسيقى واللهو ويعيش خالي الوفاض بالكاد يكفيه ما يكسبه للقيام باحتياجاته. وها هو في الفصل الأول من المسرحية يخبر صديقه طبيب الأسنان الناجح سامي عن التقائه فتاة رائعة الحسن في مقهى غروبي مخبراً إياه عن تعلقه بها من فوره. وفيما هو ينتظر الدكتور سامي في عيادته تصل الفتاة (قامت بالدور والغناء يومها راقية ابراهيم) غير منتبهة إليه، لكنها سرعان ما تعتقده طبيباً، ويدور بينهما حوار، يغنيان معاً خلاله في الفيلم ذلك الدويتو الشهير "حكيم عيون"، قبل أن يكتشف محسن أن الفناة إنما هي في الحقيقة خطيبة صديقه. وهكذا يسقط في يده ويغادر حزيناً، ولكن دون أن يتمكن من نسيان ذلك الشغف الذي لن يكون عابراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بين الحب والنبل
في مرحلة تالية يتمكن الحب من فؤاد صاحبنا، لكن نبله يدفعه إلى تجنب الالتقاء ثانية بالفتاة، بل إنه لن يتورع بعد حين، وإذ يجد أن صاحبه سامي ليس قادراً الآن على شراء خاتم الخطوبة ليتقدم لفتاته، يدفعه النبل، إلى تقديم خاتم ثمين كان إرثاً من والدته، لسامي دون أن يكون هذا الأخير قد عرف شيئاً عما أصاب محسن، لا سيما عن أنه رهن عفش بيته ويحتاج الآن إلى بعض مال يفك فيه الرهن كي لا يعيش في بيت عار. لكن الفتاة تعرف بأمر الرهن وبحكاية الخاتم فتبادر، وقد بدأت تعيش نوعاً من حب متبادل وصامت مع محسن، وباتت قابلة بالتخلي عن سامي في سبيله، إلى رهن الخاتم لتعيد إلى محسن عفشه. وهنا إذ يعرف سامي بما حدث، يتأثر لنبل محسن ويقدم على ما لم يكن من شأن أي شخص آخر أن يقدم عليه: يتخلى عن حبه للفتاة ويبارك ارتباطها بمحسن!
استراحة محارب!
نعم! هذا هو موضوع وحبكة هذه المسرحية التي بالكاد يمكننا أن نصدق أن توفيق الحكيم صاحب "أهل الكهف" و"براكسا أو مشكلة الحكم" و"أوديب" و"شهرزاد" و"السلطان الحائر" هو الذي كتبها في واحدة من أكثر مراحل حياته وإنتاجه خصوبة! ولكن هنا لا بد من الإشارة إلى أن هذا النوع من الكتابة الخفيفة لأعمال قد تظهر أحياناً على شكل "مزحة" أو كنوع من استراحة المحارب، وارد جداً، ولدى كبار الكتاب والمبدعين عموماً، لكن المشكلة تبدأ حين يختلط "الحابل بالنابل" كما يقول المثل، ويأتي نقد وتأريخ سطحيان ليضعا كل إنتاج أديب أو مبدع من أي صنف كان في سلة واحدة لتعامل النتاجات على قدم المساواة عن حسن نية أو عن جهل أو ربما حتى لمصالح خفية ربما لن نعرف عنها شيئاً أبداً.