على مدى أسبوع سيظل العالم مترقباً لمفاوضات مكثفة بين روسيا من جانب، وأميركا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) وغرب أوروبا من جانب آخر، في محاولة أخيرة لدرء غزو آخر لأوكرانيا مع استمرار حشد 100 ألف جندي روسي قرب الحدود الأوكرانية، لكن الهوة لا تزال شاسعة بين المطالب الروسية والمواقف الأميركية والأوروبية بشأن أوكرانيا وأمن أوروبا ودور الناتو تجاهها، فلماذا تبدو الخلافات كبيرة؟ وهل يمكن جسر الهوة بين الطرفين وإبعاد شبح الغزو عن أوكرانيا؟
أسبوع الحسم
مع انطلاق سلسلة من الاجتماعات الماراثونية على مدى نحو أسبوع بين المفاوضين الروس ونظرائهم الأميركيين والأوروبيين في جنيف وبروكسل وفيينا، يحبس المراقبون أنفاسهم عما إذا كانت هذه المفاوضات الدبلوماسية ستتمكن من نزع فتيل الأزمة بين الغرب وموسكو حول أوكرانيا والأمن الأوروبي، في واحدة من أكثر اللحظات خطورة في أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة، نظراً إلى التباينات الواسعة في المواقف وحدّة اللغة التي يستخدمها كل طرف تجاه الآخر، فقد قدمت روسيا للولايات المتحدة قائمة مطالب قالت إنها ضرورية لتفادي احتمال نشوب صراع عسكري واسع النطاق في أوكرانيا، فيما هددت الولايات المتحدة بعقوبات اقتصادية غير مسبوقة واتخاذ مواقف تصعيدية سياسية وعسكرية من شأنها أن تعيد أجواء الحرب الباردة مرة أخرى.
وكان من الواضح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستخدم سياسة "حافة الهاوية" وكأن له اليد العليا في هذه المواجهة، بعدما حشد نحو 100 ألف جندي روسي وأسلحة ثقيلة على الحدود الأوكرانية، وأعطى الأوامر للحكومة الروسية لتسليم مسودة معاهدة إلى دبلوماسي أميركي في موسكو، طالبت فيها موسكو بضمانات أمنية متشددة تشمل وقفاً رسمياً لتوسيع الناتو شرقاً، وتجميداً دائماً للتوسع الإضافي في البنية التحتية العسكرية للتحالف من قواعد وأنظمة أسلحة وغيرها داخل الأراضي السوفياتية السابقة، وإنهاءً للمساعدة العسكرية الغربية لأوكرانيا، والتعهد بعدم انضمام كييف للناتو، وفرض حظر على الصواريخ متوسطة المدى في أوروبا. وانعكس التصميم الروسي في تقديم مسودتين منفصلتَين، واحدة إلى الولايات المتحدة والأخرى إلى الناتو، استخدمت فيهما لهجةً حادة، ومنحت موسكو في سياقهما الغرب شهراً واحداً فقط للرد، ثم نشر المسؤولون الروس المسودتين بعد تسليمهما مباشرة، في خطوة غير معتادة دبلوماسياً.
ويشعر الدبلوماسيون الأميركيون بالقلق من أنه بعد انتهاء أسبوع المفاوضات الجاري، قد يعلن الروس أن مخاوفهم الأمنية لم تتم تلبيتها من قبل الولايات المتحدة والغرب، ويستخدمون فشل المحادثات كمبرر لعمل عسكري خاطف ضد أوكرانيا، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بالقول إنه "لا ينبغي لأحد أن يتفاجأ إذا قامت روسيا بالتحريض على استفزاز أو وقوع حادث، ثم استخدمته لتبرير التدخل العسكري، على أمل أنه بحلول الوقت الذي يدرك فيه العالم هذه الحيلة، سيكون الأوان قد فات"، مشيراً إلى أن "روسيا ستواجه عواقب وخيمة إن فعلت ذلك".
واستبعدت روسيا الأحد تقديم "أي تنازل" خلال المحادثات مع الولايات المتحدة في جنيف حول أوكرانيا والأمن في أوروبا، معربةً عن "خيبة أمل" من "الإشارات" الصادرة من واشنطن.
وقال نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف الذي يشارك في المفاوضات، في تصريحات لوكالات الأنباء الروسية "لن نقبل بأي تنازل. هذا أمر مستبعد تماماً"، مؤكداً "خاب ظننا بالإشارات الصادرة في الأيام الأخيرة من واشنطن وبروكسل أيضاً".
وقال ريابكوف "من المحتمل جداً أن نواجه تردّد زملائنا الأميركيين وحلف شمال الأطلسي في رؤية ما نحتاج إليه فعلاً".
وتابع "على رغم التهديدات التي تُوجَّه إلينا بشكل دائم، لن نقوم بأي تنازل"، مشيراً إلى أن ذلك يعود "إلى العمل ضد مصالحنا، وضد مصالح أمننا".
إشارة نادرة
لكن في خطوة نادرة، كشفت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن عن الخطوات التي ستتخذها أميركا والغرب بشكل استباقي مع اقتراب المفاوضات، وبعدما أصبح مصير حدود أوروبا ما بعد الحرب الباردة، ووجود الناتو العسكري في القارة على المحك، حيث نقلت صحيفة "نيويورك تايمز" عن مستشاري بايدن قولهم إنهم يحاولون إرسال إشارة إلى بوتين بما سيواجه بالضبط، في الداخل والخارج، على أمل التأثير في قراراته في الأسابيع المقبلة.
وتشمل الخطط التي ناقشتها الولايات المتحدة مع الحلفاء في الأيام الأخيرة، عزل المؤسسات المالية الروسية الكبرى عن المعاملات العالمية، وحظر استخدام التكنولوجيا الأميركية الصنع أو المصمَمة في أميركا لخدمة الصناعات الدفاعية والاستهلاكية الروسية، وتسليح المتمردين في أوكرانيا الذين يُتوقع أن يشتبكوا في حرب عصابات ضد احتلال عسكري روسي لبلادهم.
وتستهدف العقوبات التكنولوجية بعض الصناعات المفضلة لدى بوتين لا سيما صناعة الطيران والأسلحة، والتي تجني الكثير من الإيرادات للحكومة الروسية، وسيكون التركيز على الطائرات المقاتلة الروسية الصنع والأنظمة المضادة للطائرات والأنظمة المضادة للأقمار الاصطناعية وأنظمة الفضاء والتقنيات الجديدة الناشئة حيث تأمل روسيا في تحقيق مكاسب، مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية المعروفة باسم "نظام كوانتم"، فضلاً عن خيارات أخرى قيد الدراسة تتجاوز مجرد حظر بيع رقائق الكمبيوتر، حيث يمكن لوزارة التجارة الأميركية حظر تصدير أي سلع استهلاكية إلى روسيا، من الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر المحمولة إلى الثلاجات والغسالات وكافة الإلكترونيات التي تحتوي على مواد أميركية الصنع أو أميركية التصميم، ويشمل ذلك المصنّعين الأميركيين والشركات المصنّعة الأوروبية والكورية الجنوبية والأجنبية الأخرى التي تستخدم رقائق أو برامج أميركية.
حروب بالوكالة
وبينما تعمل وزارتا التجارة والخزانة في واشنطن على فرض عقوبات على روسيا، فإن البنتاغون يطوّر خططاً مماثلة لطريقة الحروب بالوكالة التي كانت شائعة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بهدف إحداث أكبر ألم محتمل للرئيس بوتين، حيث تحدث رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، الجنرال مارك ميلي، مع نظيره الروسي قبل أسبوعين وألقى رسالة صارخة مفادها أنه يمكن لروسيا غزو أوكرانيا نظراً لأنها تمتلك قوة أكبر بكثير وأفضل تسليحاً، لكن النصر السريع سيتبعه تمرد دموي شبيه بالذي أدى إلى انسحاب السوفيات من أفغانستان قبل أكثر من ثلاثة عقود، وهو ما يجعل ابتلاع أوكرانيا صعباً على الروس.
وإضافة إلى تزويد المتمردين في أوكرانيا بأسلحة أميركية متقدمة بحال تنفيذ التهديدات الروسية، فإن أحد الخيارات التي يُرجّح أن يناقشها الناتو هذا الأسبوع، هو خطة لزيادة عدد القوات المتمركزة في دول البلطيق وجنوب شرقي أوروبا لتصل إلى عدة آلاف وهو ما حذر بلينكن من أنه سيحدث في حالة غزو الروس، الأمر الذي سيثير حنق بوتين ويحقق عكس ما كان يريده تماماً.
اختبار التأثير
غير أن ما يخشاه بعض المراقبين هو أن العقوبات الأميركية الصارمة والأكثر إيلاماً ستظل حال بدء الغزو تحت الاختبار وقد لا تفلح في تحقيق هدفها بردع الرئيس بوتين في النهاية، فمن ناحية لا يبدو أن الولايات المتحدة مستعدة لعزل روسيا عن نظام "سويفت"، الذي ينفذ معاملات مالية عالمية بين أكثر من 1100 بنك في 200 دولة، بخاصة أن معظم القوى الأوروبية الكبرى رفضت الالتزام به حتى وقت قريب، خوفاً من أن ترد روسيا بمحاولة قطع تدفق الغاز والنفط في الشتاء، ولو لفترة وجيزة.
كما أن روسيا خزّنت مئات المليارات من احتياطيات الذهب والدولار، وانضم بنك الصين إلى النسخة المحلية الروسية من نظام "سويفت"، ما يثير احتمال أن توحّد روسيا والصين، قواهما لمساعدة موسكو على التهرب من الإجراءات الغربية كجزء من شراكتهما الموسعة، وفقاً لما تقوله سينثيا روبرتس، أستاذة العلوم السياسية في كلية هانتر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي حين يبدو أن روسيا ستعاني بشدة جراء العقوبات الأميركية والأوروبية في حال غزت أوكرانيا، إلا أنه من غير المعروف ما إذا كان الشعب الروسي سيلوم بوتين أو الولايات المتحدة وحلفائها على عدم قدرتهم على شراء المنتجات والبضائع الاستهلاكية التي ستخضع للحظر، بخاصة أن بوتين لا يجد أي معارضة داخلية لأفعاله ويحظى بدعم واسع من الأجهزة الأمنية والجنرالات.
صعوبات جسر الهوة
وبينما أبدت إدارة بايدن استعدادها لمناقشة كل المخاوف الأمنية الروسية في مقابل قائمة أميركية وأوروبية طويلة تسعى للتوصل إليها، فإن مطالب موسكو ترقى إلى تفكيك الهيكل الأمني لأوروبا الذي تم بناؤه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، مع وجود قناعة لدى حلف الناتو بأن موسكو ليس لديها حق النقض (الفيتو) على قرارات الحلف، وأنه ليس لديها أساس قانوني لمطالبة الغرب بالتوقف عن إرسال أسلحة دفاعية إلى دولة مستقلة هي أوكرانيا.
وعلاوةً على ذلك، فإن إدارة بايدن قد لا تكون مستعدة للتوصل إلى اتفاق مع روسيا في وقت تتزايد الضغوط لاتخاذ مواقف أكثر صلابة في مواجهة روسيا، وستكون هناك على الأرجح معارضة واسعة لأي صفقة كبيرة في الولايات المتحدة بسبب الاستقطاب السياسي الداخلي وحقيقة أن إبرام صفقة مع بوتين يفتح أمام إدارة بايدن باب الانتقادات بأنها تخضع لإملاءات حكم مستبد، كما ستكون المعارضة قوية أيضاً في أوروبا، حيث سيشعر القادة أن تسوية تفاوضية بين واشنطن وموسكو يمكن أن تتركهم على الهامش ومن دون حماية أميركية.
ومن بين الأصوات المطالِبة باتخاذ مواقف صارمة ضد الرئيس بوتين، جيم تونسيند نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي السابق للسياسة الأوروبية وحلف الناتو، والذي كتب في مقال بموقع "فورين أفيرز" مطالِباً بالرد على استفزازات بوتين برد عسكري لإضعاف تأثير تكتيكاته القسرية وتقويض قدرة روسيا على الحصول على تنازلات قوية من جيرانها من خلال تعزيز قدراتها العسكرية في أوروبا وزيادة وجودها على طول محيطها، من أجل زعزعة ثقة بوتين بأن خصومه الغربيين يفتقرون إلى الوسائل والإرادة.
الاتفاق ممكن
غير أن ديمتري ترينين مدير مركز كارنيغي للسلام في موسكو يرى أن مطالب روسيا ربما تكون محاولة لفتح الباب أمام التفاوض وليست إنذاراً نهائياً كما يتصورها البعض، وأنه يمكن أن يشعر الكرملين بالرضا، إذا وافقت الحكومة الأميركية على تعليق رسمي طويل الأجل لتوسيع الناتو والتزمت بعدم نشر صواريخ متوسطة المدى في أوروبا يمكن أن تهدد موسكو خلال دقائق. ولهذا يعتبر ترينين أن التهدئة ممكنة عبر اتفاق منفصل بين روسيا وحلف الناتو لتقييد نشر القوات العسكرية والتدريبات في المناطق التي تلتقي فيها أراضيهما، من بحر البلطيق إلى البحر الأسود. ويضيف أنه "على الرغم من إصرار موسكو على معاهدة رسمية مع الولايات المتحدة، فإن الحكومة الروسية تدرك أنه بفضل الاستقطاب والجمود داخل السياسة الأميركية، فإن التصديق على أي معاهدة في مجلس الشيوخ الأميركي سيكون شبه مستحيل، لذا قد تكون الاتفاقية تنفيذية فقط، أي اتفاقية بين حكومتين لا يلزم المصادقة عليها، بالتالي لا تتمتع بوضع القانون، ولكنها ستكون بديلاً أكثر واقعية، ومن المرجح بموجب هذا الاتفاق، أن تتحمل روسيا التزامات متبادلة تعالج بعض مخاوف الولايات المتحدة لتحقيق ما يسمى بتوازن المصالح".
لكن الأمر سيتطلب شجاعة من الرئيس بايدن وقدرة على مواجهة اتهامات الجمهوريين بفشله في إدارة ملفات السياسة الخارجية، وبخاصة بعد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان العام الماضي، ومع ذلك يتفق بعض المراقبين على أن بايدن يحتاج إلى تحقيق مكاسب على صعيد الأمن الأوروبي من خلال الحصول على تنازلات وتهدئة للتصعيد الروسي الأمني المتكرر بما يضمن تركيز الجهود لمواجهة الخصم الأهم والأخطر وهي الصين، ولهذا فإن إبعاد موسكو عن بكين هو أحد أهداف الولايات المتحدة.
وحتى في أسوأ سيناريوهات الفشل، لا يتوقع مسؤولو أجهزة الاستخبارات الأميركية غزواً روسياً شاملاً لأوكرانيا يحاول فيه الروس الاستيلاء على العاصمة كييف، وإنما تحركاً عسكرياً محدوداً يهدف إلى الاستيلاء على مزيد من الأراضي في منطقة دونباس، حيث وصلت الحرب هناك إلى طريق مسدود، وهو ما قد يخفف من وطأة رد فعل غربي متحدٍ وقاسٍ ضد روسيا. وإذا تمكن بوتين من إبقاء الناتو خارج أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا، فسيعتقد أنه يستطيع إصلاح جزء من الضرر الذي لحق بأمن روسيا بعد انتهاء الحرب الباردة، ويضمن له أوراق اعتماد جيدة ستساعده عندما يعيد ترشحه للانتخابات الرئاسية الروسية المقررة بعد سنتين.