على مدار عقد من الزمن، تلا سقوط نظام الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، خاض الليبيون في كل أنواع الأزمات والنزاعات السياسية والعسكرية، قبل أن يتهادنوا و يقرروا الجلوس إلى طاولات التفاوض، بحثاً عن مخرج وحل ذو صيغة توافقية ينهي خلافاتهم الكثيرة، وها هم بعد هذه الرحلة الشاقة يعودون إلى نقطة البداية، ويستقبلون الذكرى الجديدة لثورتهم، وهم يقفون على أبواب صدام جديد وفصلٍ دامٍ آخر من الصراع على السلطة.
محطات كثيرة عرفتها المرحلة الانتقالية الصعبة التي دخلت فيها البلاد منذ عام 2011، دون أن يهتدي الليبيون إلى المخرج الأخير ونقطة النهاية للنفق المظلم، التي ستنقلهم إلى مرحلة الاستقرار، مع أنها بدأت بدايةً مبشّرة، قبل أن تتعقد الأمور عاماً بعد آخر، على الرغم من كثرة المبادرات الدولية والمحلية وخرائط الطريق المتنوعة الأسماء والمضامين، التي اقترب بعضها من الحل المفقود، قبل أن تتعثر في المراحل الأخيرة.
نهاية الدكتاتورية وبداية الفوضى
أولى محطات المرحلة الانتقالية الطويلة في ليبيا بدأت بنهاية الرجل الذي حكم البلاد لأربعة عقود كاملة، معمر القذافي، ومقتله على يد الثائرين على حكمه، في العشرين من أكتوبر (تشرين الأول) 2011، حينها قال نائب رئيس المجلس الانتقالي، عبد الحميد غوقة، جملته الشهيرة "أعلن للعالم أن القذافي قُتل على أيدي الثوار، هذه نهاية الاستبداد والديكتاتورية في ليبيا"، والتي اتضح بعد وقت قصير، أنها بداية لواحدة من أكثر الأزمات تعقيداً في التاريخ السياسي الحديث للبلاد والمنطقة برمتها.
أدار المجلس الانتقالي الليبي المؤقت البلاد بعد سقوط النظام، وأصدر وثيقة دستورية مؤقتة لإدارتها، مؤلّفة من 37 مادة، تحت اسم "الإعلان الدستوري". ونصّت أهم بنودها على انتخاب برلمان مؤقت للبلاد في فترة لا تزيد عن عام واحد، وأوكل إليه مهمتَين مفصليتَين، تشكيل حكومة جديدة وانتخاب هيئة صياغة الدستور الدائم، على أن تتكوّن من 60 شخصاً يمثلون كل الأقاليم التاريخية لليبيا وكل المكونات الثقافية فيها.
بداية مبشرة
أنجز "المجلس الانتقالي الليبي"، الذي كان يقوده الرجل الذي مثّل القيادة السياسية للثورة، مصطفى عبد الجليل، ما تعهد به في الإعلان الدستوري وبيان "انتصار الثورة"، ونجح في إقامة انتخابات تشريعية في 7 يوليو (تموز) 2012، ليتشكل بموجبها أول برلمان منتخب في تاريخ ليبيا منذ خمسينيات القرن الماضي، ويتألف من 200 عضو. وتمت عملية الانتقال السياسي بين "المجلس الانتقالي" و"المؤتمر الوطني"، البرلمان الجديد، بطريقة سلسة وديمقراطية، نالت الثناء من داخل البلاد وخارجها.
ووصف الصحافي الليبي محمد حركة، بداية العهد السياسي للثورة في تلك المرحلة قائلاً، "كانت الخطوة الأولى لليبيا الثورة ناجحة أكثر مما توقع الجميع، وبدا أنها وضعت اللبنة الأولى لتجربة ديمقراطية جيدة، على الرغم من الهواجس الكثيرة حيال السلاح المنتشر، الذي قُدِّر بملايين القطع التي تبعثرت في أيدي الناس بالشوارع".
وتابع حركة، "ما أدركه الجميع في وقت متأخر بعد ذلك، أن العجلة التي تم بها الترتيب لانتخابات المؤتمر الوطني، قبل ترتيب البيت السياسي ووضع قانون للأحزاب، والأخطاء الفادحة التي ارتُكبت في صياغة قانون هذه الانتخابات، كانت البداية الحقيقية التي جرت البلاد إلى سنوات من الفوضى العارمة، لم تخرج منها حتى يومنا هذا".
كارثة العزل السياسي
يحمّل كثيرون "المؤتمر الوطني الليبي" وفترة ولايته التي امتدت لعامين مسؤولية زرع بذور الانقسام السياسي في البلاد، خلال السنوات التالية، والتي بدأت باعتماد "قانون العزل السياسي"، الذي نصّ على استبعاد كل مَن عمل مع النظام السابق من تولي المناصب الرسمية لمدة 10 سنوات كاملة، خصوصاً مع فرض هذا القانون بالإكراه، بعدما هددت ميليشيات، أعضاء المؤتمر، بالقتل إذا لم يصوتوا بالموافقة على القانون.
وأقدمت هذه الميليشيات على فعل غير مسبوق لترهيب أعضاء البرلمان أثناء جلسة مناقشة القانون، حيث وضعت 200 تابوت (على عدد أعضاء المؤتمر الوطني) على أبواب القاعة التي اجتمعوا فيها، في العاصمة طرابلس، في خطوة ترمز إلى عدم خروجهم أحياء إذا لم يمر "قانون العزل السياسي".
ثورة التصحيح
وكان الاحتقان الشعبي قد بلغ مداه من "المؤتمر الوطني العام" بسبب الحروب التي تسبب بها وفشله في انجاز الاستحقاقات التي كُلِّف بها، وعلى رأسها كتابة دستور دائم للبلاد تُجرى على أساسه انتخابات شاملة، ورغبته في التمديد لنفسه بسبب هذا التأخير، فخرجت جموع من المتظاهرين في بنغازي وطرابلس في تظاهرات رفعت شعار "لا للتمديد"، ونجحت في دفع المؤتمر إلى إجراء انتخابات برلمانية في يوليو (تموز) 2014. وأنتجت تلك الانتخابات البرلمان الحالي الذي باشر عمله في طبرق قرب الحدود المصرية، في وقت كانت فيه مدينة بنغازي، المقر الدستوري له، تعيش فترةً مظلمة، بعد سيطرة "تنظيم داعش" على أكثر من نصفها، وتنفيذه لعمليات اغتيال يومية لضباط في الجيش والشرطة وقضاة وإعلاميين وناشطين. وبرز في هذه الفترة رئيس الأركان السابق في عهد القذافي، خليفة حفتر، الذي التف حوله عدد من ضباط الجيش لمواجهة "داعش"، وبدأت في ذات الفترة حرب بنغازي التي استمرت لثلاث سنوات.
اتفاق الصخيرات
ورفضت أطراف عدة في الغرب الليبي الاعتراف بنتائج الانتخابات التي أفرزت برلمان طبرق، خصوصاً بعد تعيينه حفتر، قائداً عاماً للجيش، وعلى رأسها تيار الإسلام السياسي. وصدرت أحكام قضائية في طرابلس ببطلان هذه الانتخابات. وعرفت ليبيا وقتها لأول مرة، انقساماً تاماً للحكومة والمؤسسات السيادية، ممثلةً في المصرف المركزي ومؤسسة النفط، بين بنغازي وطرابلس.
وشهدت تلك الفترة أيضاً، إغلاق الحقول والموانئ النفطية لسنوات عاشت خلالها ليبيا واحدة من أسوأ أزماتها الاقتصادية منذ الاستقلال في عام 1951، ما تسبب بنشوب معارك عسكرية متكررة بين قوات من الشرق وأخرى من الغرب لأول مرة، من أجل السيطرة على موانئ التصدير في راس لانوف والبريقة والسدرة وسط ليبيا.
وأمام تعقد الأزمة الليبية وانفجار الأوضاع في البلاد بشكل هدد استقرار المنطقة برمتها، خصوصاً مع استغلال التنظيمات المتطرفة مثل "داعش" و"القاعدة"، هشاشة الحالة الأمنية والسياسية للتمدد في أراضيها، مع توافر كل عناصر الجذب لعناصرها وخلاياها أبرزها توافر السلاح بكافة أنواعه، كل هذا دفع المجتمع الدولي إلى التحرك بالوساطة بين فرقاء ليبيا عبر المفاوضات التي قادتها بعثة الأمم المتحدة، والتي أثمرت "اتفاق الصخيرات" في المغرب في عام 2015 والذي ولِدت من رحمه حكومة الوفاق بقيادة فايز السراج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
زيادة في الانقسام
بشكل مفاجئ عقّد "اتفاق الصخيرات" الأزمة الليبية أكثر مما ساهم في حلها، إثر رفض السراج الذهاب إلى طبرق لنيل الثقة من مجلس النواب، الذي رفض الاعتراف بحكومته لهذا السبب، فاستمرت الحكومة المؤقتة بقيادة عبد الله الثني في إدارة الجزء الشرقي من البلاد، بينما باشر السراج مهماته في طرابلس. وكان العامين التاليين، 2016 و2017، آخر أيام سطوة "داعش" في ليبيا، بعد هزيمته في أكبر معاقله، على يد "الجيش الوطني" بقيادة حفتر في بنغازي ودرنة شرقاً، وعلى يد "قوات حكومة الوفاق" في سرت غرباً، قبل أن يسيطر حفتر على أكثر من نصف مساحة البلاد بتمدد قواته إلى سبها في الجنوب الغربي.
في الأثناء، لم تتوقف المؤتمرات الدولية الباحِثة عن حل للأزمة الليبية التي وصلت أثارها إلى أوروبا، بعد زيادة تدفق المهاجرين من ليبيا إليها، إلى مستويات غير مسبوقة، وعُقدت أبرز هذه المؤتمرات في تلك الفترة في روما وباريس وأبوظبي دون تحقيق نتائج تذكر.
حرب طرابلس
عرفت أزمة ليبية أخطر مراحلها بعد بدء قائد الجيش في بنغازي خليفة حفتر عملية عسكرية للسيطرة على طرابلس، التي استمرت لعامين، ومعها تطورت التدخلات الأجنبية إلى التدخل العسكري المباشر، بعد أن عقد رئيس حكومة الوفاق اتفاقاً أمنياً واقتصادياً مثيراً للجدل مع تركيا، التي دفعت بقوات كبيرة لمساندة قواته في هذه الحرب، براً وبحراًوجواً، بينما تدخلت روسيا إلى جانب حفتر وجيشه الآتي من الشرق.
انتهت حرب طرابلس رسمياً في منتصف عام 2020، بعد تراجع قوات الجيش الذي يقوده حفتر إلى سرت وسط البلاد، مع تقدم "قوات الوفاق" نحوها بمؤازرة عسكرية من تركيا، قبل أن تتدخل مصر وتحذر من تقدم هذه القوات نحو الشرق، ما يمثل تهديداً لأمنها القومي.
وأعاد التدخل المصري التوازن إلى المشهد الليبي، خصوصاً بعد إعلان القاهرة الذي وضع قواعد اتفاق وقف إطلاق النار في جنيف، الذي مهّد للاتفاق السياسي الذي رسم خريطة طريق تنتهي بإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2021، وشُكِّلت بموجبه أول حكومة موحدة للبلاد بقيادة عبد الحميد الدبيبة.
فشل الانتخابات وعودة التعقيد
حفلت الأشهر القليلة التي سبقت الانتخابية الرئاسية التي كان يُفترض إجراؤها نهاية العام الماضي، بخلافات كثيرة حول القوانين الانتخابية، وحملت مفاجأة كبيرة بترشح نجل الرئيس الليبي السابق، سيف الإسلام القذافي، الأمر الذي لعب دوراً بارزاً في تعثرها بعد رفض أطراف كثيرة، محلية ودولية، هذا الترشح، إضافة إلى مرشحين آخرين مثل حفتر والدبيبة.
تقف ليبيا حالياً في مواجهة أزمة جديدة، بعد قرار البرلمان وضع خريطة طريق جديدة للمرحلة الانتقالية، تبدأ بتشكيل حكومة جديدة برئاسة فتحي باشاغا، وهو ما رفضه الدبيبة، ما خلق من جديد مشهداً مشحوناً ومتوتراً عل المستويَين السياسي والعسكري في البلاد.