في الوقت الذي طالب فيه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أمام الكونغرس الأميركي بتوسيع الدعم العسكري لبلاده، وتنازله عن فكرة الانضمام إلى حلف الناتو، كان فريقه المفاوض مع الروس يناقش وضعاً محايداً لأوكرانيا يمكن أن ينهي الحرب الدائرة الآن، الأمر الذي يثير تخمينات عدة حول مغزى الحياد، وما شروط قبول الطرفين به، وما إذا كان يعني تخلي الروس عن مطالبهم السابقة، بعدما بات واضحاً عدم إمكانية تحقيق أهدافهم بالوسائل العسكرية.
على الرغم من استمرار نزيف الحرب في أوكرانيا للأسبوع الرابع على التوالي، بدا الروس والأوكرانيون على استعداد لمناقشة فكرة "حياد أوكرانيا" كطريق لإنهاء الحرب، وهو ما أكده المسؤولون في موسكو وكييف. ومع أن ملامح هذا الحياد وشروطه غير واضحة بعد، إلا إنه يؤكد تحولاً في مواقف الأطراف المتصارعة فرضته الأوضاع على الأرض.
سبب التحول
بالنسبة إلى الكرملين، فإن المتحدث باسمه دميتري بيسكوف يرى أن الحياد يمكن أن يُنظَر إليه على أنه نوع معين من التسوية التي تحقق أهداف موسكو منذ البداية، أما بالنسبة لأوكرانيا فقد كانت مستعدة لمناقشة وضع عسكري محايد، بعدما أقر زيلينسكي بأوضح العبارات أمام القادة الأوروبيين المجتمعين في لندن 15 مارس (آذار) الحالي، بأنه من غير المرجح أن تحقق أوكرانيا هدفها المتمثل في الانضمام إلى حلف الناتو، ما جلب بصيص أمل كوسيلة ممكنة للخروج من الأزمة الدموية في أوكرانيا.
لكن بالنسبة إلى الغرب، فيشير الاقتراح الجديد الذي تقدم به الكرملين، إلى أن موسكو ربما تخضع للواقع وقد تقبل بتقليص مطالبها المتشددة في السابق، لأنها تريد البحث عن مخرج سريع للحرب، نتيجة المقاومة الأوكرانية الشرسة، والمعارضة العالمية للحرب والعقوبات الغربية.
ويرى ديفيد فيليبس من "برنامج بناء السلام" في جامعة كولومبيا الأميركية، أن "الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أراد إخضاع أوكرانيا، لكنه الآن لا يستطيع الفوز بالحرب أو الحصول على كل ما يريد، لذا يتجه إلى إجراءات تحفظ ماء وجهه"، بينما يعتبر إيان كيلي، السفير الأميركي السابق لدى "منظمة الأمن والتعاون في أوروبا"، أن "الصفقة المحتملة حول الحياد، هي علامة أكيدة على أن روسيا تتطلع إلى قبول حل وسط بعدما كان بوتين يطالب بإزالة ما سماه النازية من الحكومة الأوكرانية، والتي تعني التخلص من زيلينسكي وتنصيب نظام موال لموسكو، ونزع السلاح من أوكرانيا، بما يشمل ذلك من عدم وجود الناتو أو جيش أوكراني يعارض روسيا".
ويوافق بن رودس، نائب مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، على أن "أي وقف لإطلاق النار يستند إلى أن أوكرانيا ستصبح دولة محايدة، سيكون بمثابة تراجع روسي هائل عن تغيير النظام في كييف أو هيمنة روسيا على أوكرانيا"، ومع ذلك يظل السؤال هو: ما الذي يعنيه الحياد، وكيف يفسره كل طرف؟
ماذا يعني الحياد؟
الحياد بمعناه المجرد هو الابتعاد عن التحالفات العسكرية الملزمة، ومحاولة البقاء بعيداً عن الصراعات. وظهر مفهوم الحياد كطريقة لإحلال السلام في المواقف التي تجازف بإثارة الصراع بين القوى العظمى، تماماً مثل تلك الموجودة في أوكرانيا اليوم، حيث استخدمت دول أوروبية أخرى الحياد من أجل تجنب ابتلاعها من جار أكبر، حيث مُنحت سويسرا وبلجيكا وضع الحياد بعد الحروب النابليونية لمنع التوسع العسكري الفرنسي المتجدد، كما أصبحت النمسا وفنلندا محايدتين، خوفاً من ابتلاعهما أو تقسيمهما على يد الاتحاد السوفياتي، بعد الحرب العالمية الثانية. وتشترك الدول الأربع في موقعها الحيوي من الناحية الاستراتيجية، والذي يعتبر ذا قيمة كبيرة للغاية للأطراف المتصارعة حولها.
لكن مفهوم الحياد يتشوه أحياناً مع تصرفات بعض الدول المشهود لها بالحياد العالمي، مثل سويسرا التي رفعت هذا الشعار ورفضت الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وعملت كوسيط بين الدول المتناحرة، ولم تنضم إلى الأمم المتحدة إلا منذ 20 عاماً، على الرغم من أنها استضافت المقر الأوروبي للمنظمة الدولية منذ عقود، ومع ذلك اصطفت سويسرا مع عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا بعد غزو أوكرانيا، كما انحرفت دول أخرى أيضاً عن الحياد بالمعنى الدقيق للكلمة، فالقوات السويدية تشارك في تدريبات الناتو التي تجري في النرويج المجاورة، كما غيرت فنلندا التي طالما عارضت الانضمام إلى الناتو توجهاتها، وتدرس الآن طلب الانضمام للحلف بسبب تصرفات موسكو في أوكرانيا.
ولا يُعرف بعد، ما تصورات روسيا وأوكرانيا لمفهوم الحياد على طاولة المفاوضات، لكن بعض الخبراء مثل ليوس مولر، أستاذ التاريخ في جامعة ستوكهولم ومؤلف كتاب "الحياد في تاريخ العالم"، يعتبرون أن النمسا التي حافظت على ابتعادها عن الناتو، قد تكون نموذجاً يمكن تصوره لأوكرانيا، فقد كانت النمسا مُتحدة مع ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وبعد الحرب احتلتها قوات الحلفاء الأربع وهي "بريطانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة، والاتحاد السوفياتي"، وفي عام 1955، قررت القوى الأربع سحب قواتها والسماح للنمسا بالاستقلال، ولكن بعدما أصرت موسكو على أن ينص البرلمان النمساوي أولاً في الدستور الجديد، على حياد البلاد.
هل يوفر الحياد مخرجاً للأزمة؟
يتفق باحثون سياسيون وعسكريون كثر على أن ترسيخ حياد أوكرانيا في أي صفقة، يمكن أن يساعد على تقليل التهديد العسكري الذي تتصوره موسكو منها، وهو سيناريو مماثل لما أدت إليه الحرب القصيرة بين روسيا وجورجيا في عام 2008، وانتهت باستبعاد منطقتين من خريطة جورجيا الوطنية، وتجميد دائم لطموحات تبليسي في الانضمام إلى الناتو في ظل شعور السلطات الروسية، بالقلق من توسعه التدريجي نحو الشرق بعد الحرب الباردة، عندما اختفى "حلف وارسو" بقيادة الاتحاد السوفياتي.
غير أن ماريا بوبوفا، أستاذة العلوم السياسية في جامعة ماكغيل الكندية، تختلف حول هذا التقييم، فهي تعتبر أن وضع أوكرانيا في الوقت الحالي، محايد بحكم الواقع لأنها ليست عضواً في الناتو، ولم تكن لتنضم، لأن الناتو لديه سياسة تمنع انضمام البلدان التي تنخرط في نزاع إقليمي أو حدود غير مستقرة من الانضمام، وهو ما يجعل أوكرانيا تندرج في هذه الفئة، بعدما ضمت روسيا القرم واحتلت أجزاء من أراضيها منذ عام 2014، ولكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أيضاً رفض منذ فترة طويلة استقلال أوكرانيا، وبرر الهجوم من خلال التركيز على التهديد المتصوَّر الذي يعتقد أن أوكرانيا ذات التوجه الغربي، تشكل خطراً على روسيا، بينما حدث آخر توسع للناتو قبل 15 عاماً، وحينها لم تتفاعل روسيا بأي مستوى جدي من العداء.
ويتفق أوريل براون، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة تورنتو وزميل مركز ديفيس في جامعة هارفارد، على أن "إبرام أوكرانيا صفقة مع روسيا، باعتبارها محايدة عسكرياً لن يكون كافياً بالنسبة لروسيا، لأن فلاديمير بوتين يريد رحيل حكومة زيلينسكي التي يعتبرها حكومة نازية. كما يريد بوتين أن تكون أوكرانيا منزوعة السلاح، أي دولة عاجزة ويائسة، وإذا قررت روسيا انتهاك اتفاقية الحياد، فستصل قواتها إلى كييف في غضون 24 ساعة أو أقل".
هل الحياد الأوكراني يضمن السلامة؟
يرى البعض أن روسيا فقدت مصداقية تقديم ضمانات في الوقت الحالي، وأن الحياد الأوكراني لن ينهي الحرب بالضرورة، بل قد يجعل أوكرانيا أكثر عرضة لتجاوزات روسيا لأن الروس ظلوا يقولون حتى اللحظة الأخيرة إنه لا نية لديهم لأي خطط اجتياح على الإطلاق، ومع ذلك، تعتقد بوبوفا أن "الغرب يمكن أن يقدم نوعاً من الضمان من خلال طريقة مبتكرة تعطي إشارة إلى روسيا بأن أوكرانيا أصبحت على طريق العضوية للاتحاد الأوروبي، وبالتالي إذا وجهت روسيا تهديدات لأوكرانيا مرة أخرى، فإنها ستهدد الاتحاد الأوروبي بأكمله".
وبينما يقول ميخايلو بودولاك مستشار الرئيس الأوكراني، إن "النموذج الوحيد الذي يمكن أن تقبله أوكرانيا كضمان هو إبرام اتفاق صارم مع عدد من الدول الضامنة التي تتعهد بالتزامات قانونية واضحة لمنع الهجمات بشكل فعّال على أوكرانيا"، يقول براون، إن "أوكرانيا ليس لديها خيار سوى التفاوض لأنها بحاجة إلى إبداء المرونة وتعليق الأمل على حل تفاوضي محتمل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شروط أوكرانيا
لكن ويس ميتشل، المساعد السابق لوزير الخارجية الأميركي لشؤون أوروبا وأوراسيا، اعتبر في مقال نشرته "فورين آفيرز"، أن "أوكرانيا ستحتاج إلى ثلاثة شروط حتى ينجح الحياد، الأول هو بعض الضمان لاستمرار الاتفاق بمجرد قبوله، حيث يمكن أن يتخذ الضمان شكل معاهدة إطارية يلتزم فيها جيران أوكرانيا، إلى جانب الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى، بالدفاع عنها إذا تم غزوها. ولتكريس حق أوكرانيا في الدفاع عن نفسها، فإن ذلك يستلزم ضمان وجود جيش كبير ودعم تطويره عسكرياً بالمساعدات الأجنبية وشراء الأسلحة، بعدما أثبتت تجربة أوكرانيا السابقة مع مذكرة بودابست التي وقعت في منتصف التسعينيات، أن ضمان السيادة الأوكرانية مقابل تخلي كييف عن الأسلحة النووية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، قد تم انتهاكها بسهولة من قبل روسيا التي وقعت عليها وتعهدت بعدم غزو أوكرانيا.
ويتمثل الشرط الثاني في ضمان أن تنسحب روسيا من الأراضي التي احتلتها خلال الحرب لأنه من الضروري احتفاظ أوكرانيا بالجزء الأكبر من أراضيها في أي تسوية تفاوضية، وهذا يعني أن مكاسب روسيا يجب أن تقتصر إلى حد كبير على الأراضي التي كانت تسيطر عليها قبل الحرب أي شبه جزيرة القرم والأراضي الشرقية الانفصالية في لوغانسك ودونيتسك، وهو أمر أشار زيلينسكي به إلى الانفتاح على الاعتراف بشبه جزيرة القرم كأراضٍ روسية والقبول بفكرة منح الحكم الذاتي لإقليمَي لوغانسك ودونيتسك، شرط إجراء استفتاء تديره الأمم المتحدة من شأنه التأكد من رغبات السكان المحليين وتوفير الحماية للأوكرانيين الذين يعيشون في هذه الأراضي.
أما الشرط الأخير، فهو أن الحياد القوي يتطلب أن يكون هناك مساعدات اقتصادية مستدامة من الغرب فضلاً عن تعويضات روسية لأوكرانيا والتي يمكن توفيرها بشكل غير مباشر من الأصول الروسية المصادَرة في الغرب، نظراً لأن التعويضات الرسمية غير مرجَحة، بالنظر إلى توقع أن يبقى بوتين راسخاً في السلطة على رأس اقتصاد منهك.
وللحصول على أي أمل في إعادة بناء أوكرانيا اقتصادياً، ستحتاج البلاد إلى مساعدات إعادة إعمار طويلة الأجل، والتي يمكنها بالتوازي مع عوامل أخرى، ضمان أن تكون الدولة قوية بما يكفي للدفاع ضد أي تدخل روسي محتمل في المستقبل، ولهذا يجب أن يلعب الاتحاد الأوروبي دوراً رائداً في إعادة بناء أوكرانيا، بمساعدة الولايات المتحدة واليابان وبالتوازي مع تطوير مسار قابل للتطبيق لعضوية أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي، بحيث تعترف المعاهدة الإطارية بحق أوكرانيا في متابعة العضوية في المنظمات السياسية والاقتصادية للاتحاد، ما يمنح الأوكرانيين آفاقاً جيدة للمستقبل ويساعد في منعهم من الاستسلام والخضوع للنفوذ الروسي في المستقبل مثل بيلاروس.
عقبات وآمال
وعلى الرغم من أن التوصل إلى اتفاق قابل للتطبيق بشأن الحياد الأوكراني لن يكون سهلاً، فإن هناك سبباً وجيهاً للاعتقاد بأنه قد يصبح ممكناً بعدما أجبرت الانتكاسات الروسية بوتين على تقليص مطالبه، بما في ذلك التخلي عن إصراره على نزع سلاح أوكرانيا وعزل زيلينسكي من منصبه، ولهذا فإن تسليح أوكرانيا، وفرض عقوبات مؤلمة على روسيا يظل أمراً بالغ الأهمية حتى عندما يكون الهدف النهائي هو الحياد، وما لم يتحسن أداء جيشه السيئ حتى الآن بشكل كبير، فمن المرجح أن يصبح بوتين أكثر استعداداً لتسوية تفاوضية.
وفي حين يمكن أن ينتهك بوتين أي وقف لإطلاق النار خلال التسوية، كما فعل في مرات سابقة، لكن الخسائر المستمرة للحرب ومخاطر التصعيد تعطي سبباً وجيهاً للمحاولة، لأنه لن يكون أمام بوتين في النهاية خيار سوى التحرك نحو قبول الحياد المحصن لأوكرانيا، لسبب بسيط هو أن جيوشه غير قادرة على إخضاع البلاد بالوسائل العسكرية، وحتى إذا حاول بوتين مرة أخرى في المستقبل إخضاع أوكرانيا، التي تعد أكثر أهمية من الناحية الجغرافية والتاريخية بالنسبة لروسيا من فنلندا والنمسا خلال الحرب الباردة، فمن الأهمية بمكان ألا يقبل الأوكرانيون، أي نسخة من الحياد تحرم بلادهم من الحق الذي اكتسبته، بتضحيات كبيرة، في الحفاظ على جيش كبير يزوده الغرب بالسلاح ليكون قادراً على الردع مثلما نجح حتى الآن بوجه القوة الروسية الضخمة.