مضى عقدان تقريباً على رحيل الكاتب المغربي الأشهر محمد شكري، ومضت خمسة عقود على تأليف "الخبز الحافي" السيرة الروائية التي كشف فيها شكري أسراره وكشف فيها أيضاً طنجة مدينته الأثيرة، التي أصبح اسمه يُذكر مقروناً بها، وأصبحت هي رديفةً لاسمه.
عاش محمد شكري عازباً طوال حياته، وحين كان يُسأل عن الزواج يردّ: "لقد تزوجتُ طنجة". ومن يقرأ كتابات شكري الروائية والقصصية، ويقرأ معها حواراته العديدة، يدرك حجم الارتباط والوفاء في هذا الزواج. أما الذين جالسوه، وتقاسموا معه أطراف البهجة والقلق، فهم بالضرورة يعرفون ذلك أكثر.
بلغ عشق شكري لطنجة الحدّ الذي كان يَغار فيه من كلّ من يكتب عنها، حتّى لو كان ضمن نخبة الكتّاب العالميين الذين عاشوا في هذه المدينة أو عبروا منها. لقد كانوا بالنسبة إليه يكتبون "بطاقات بريدية" على حدّ وصفه. يعبّر عن ذلك بلغة حادة في كتابه "بول بولز وعزلة طنجة" إذ يقول: "ما أكثر الذين تكلموا أو كتبوا عن طنجة فقط من خلال أهوائهم وملذاتهم، أو نزواتهم واستجمامهم، أو حاولوا نسيان شقائهم فيها. إذن فطنجة هي لبعضهم ماخور أو شاطئ جميل أو مستوصف مريح".
ضدّ الكتابة المسطّحة عن طنجة
انتقد شكري الذين يتحسرون على زمن "طنجة الدولية" بنوع من "الحنين السائب"، وينظرون إليها بعيون لا تخلو من نزعة كولونيالية. وانتقد أيضاً الذين يدّعون المعرفة العميقة بأسرار المدينة، في حين أن علاقتهم بها كانت سطحية، وعبورهم لم يكن ليخوّل لهم إمكانية كتابة نصوص قادرة على استغوار بواطن هذه المدينة الأسطورة. يتهم شكري هؤلاء الكتّاب المتعجّلين بأنهم "يهرّجون الكتابة ويسطّحونها، بحثاً عن شهرة مجانية فقاعية"، ويستغرب من أولئك الذين قدموا من بلدان بعيدة وكتبوا عن المدينة بلغات مختلفة من دون أن يعيشوا حياة طنجة بلياليها ونهاراتها، ويصغوا إلى إيقاع دروبها وأسوارها، ويتقاسموا تفاصيل العيش مع البسطاء من أهلها. إنه يسمي هذا الصنف من المؤلفين "كتّاب محطات السفر"، لأنهم غالباً ما ينظرون إلى المدينة بعين لا تختلف كثيراً عن عين أي سائح قادم من مكان آخر ومن ثقافة أخرى، مثقلاً بتمثلات مسبقة عن فانتازيا عربية وفلكلور وامتدادات لقراءات تراثية نمطية.
كان شكري يختلف مع بول بولز الذي عاش طويلاً في طنجة، ومردّ هذا الاختلاف إلى النظرة النوستالجية لصاحب "السماء الواقية" إلى ماضي طنجة. فالكاتب الأميركي الذي يعتبر أكثر الكتّاب الأجانب اهتماماً بطنجة في كتاباته "كان يريد أن يبقى المغرب كما عرفه في الثلاثينيات والأربعينيات"، وهذه الفكرة تبدو لشكري "استعمارية محضة". في إحدى رسائله يكتب بولز لصديقه أليك فرانس يخبره فور وصوله إلى طنجة أنه وجه المدينة التي تشبه تخيلاته، وكلّ شيء يمكن فعله، و"كل شيء يمكن الحصول عليه، ما دام يُستطاع أداء ثمنه". وهذا ما رأى فيه صاحب "الخبز الحافي" إساءة للمدينة وتقزيماً لقيمتها التاريخية والثقافية.
لم يتوقف انتقاد شكري عند كتابات بولز عن طنجة ونظرته إليها، بل انتقد أيضاً ما كتبه عن المدينة كل من خوان غويتسولو ووليام بوراوز ودانييل روندو، وصنّف أعمالهم ضمن خانة الكتابة السياحية التي لم تنفذ إلى أعماق طنجة. لم يرتح شكري أيضاً لما كتبه جون هايكنز واعتبر عمله السردي "ذباب طنجة" بمثابة "رواية لا قيمة لها أدبياً". كان صاحب "الخبز الحافي" يعتب على الكتّاب الأجانب، الذين عاشوا في طنجة أو زاروها، ضعفَ انخراطهم في الحياة الشعبية للمدينة، مما سيجعل كتاباتهم بالضرورة خالية من ذلك العمق المتوقع لدى من سبر تفاصيل الحياة في الأحياء الشعبية والخطرة، مع وجوه تنتمي إلى الهامش الاجتماعي. قال مرةً عن الكاتب الأميركي ترومان كابوتي: "كان يرفض الذهاب إلى المدينة القديمة، أو القصبة. كان يخاف".
أبطال من هامش الحياة في المدينة
جاء محمد شكري إلى طنجة من قريته مشياً على الأقدام و"قهراً لا اختياراً" على حد تعبيره. كان طفلاً في عامه السادس، وكان الزمن زمن مجاعات وأوبئة، بالتالي فالمدينة شكّلت آنذاك خلاصاً له.
في تلك الفترة سُجن والده الجندي الهارب من جيش فرانكو وانشغلت الأم ببيع الخضار والفواكه في أسواق المدينة، بينما كان شكري الطفل يبحث عما يأكله في حاويات الأجانب النصارى المقيمين بطنجة، لأن "أزبال المغاربة المسلمين كانت فقيرة" على حدّ وصفه.
عاش شكري حياة شاسعة وعميقة في ليالي طنجة ونهاراتها، ولنقل إنه جرّب كل شيء، وعاش كلّ شيء، غير مستند إلى أية ضوابط دينية أو اجتماعية، متحرراً من كلّ القيود، وانساق خلف جنونه الفردي ونظرته إلى الحياة، نظرة طفل أُخرج من دفء العائلة إلى الشارع، عارياً من كل غطاء اجتماعي وإنساني. بالتالي فقد تكون الكتابة إليه تصفية حساب مع الحرمان، لذلك بدأها من حيث ينتهي الآخرون، إذ اختار أن يكون عمله الأدبي الأول هو سيرته الشخصية التي ضمت خلاصات تقاطعه مع الحياة وتصادمه مع جدرانها، ورغبته الدائمة والمتجددة في الانتصار عليها.
كان شكري يريد أن يكتب تاريخه الفردي في طنجة، نكاية بكل "تاريخ رسمي مأجور" على حدّ وصفه. في "الخبز الحافي" كما في "زمن الأخطاء" يضع شكري حياته على الورق غير مفرّق بين الخاص والعام، وغير مكترث لتلك الفواصل التي عادة ما يضعها كتّاب السيرة بين ما ينبغي أن يقال وما ينبغي ألا يقال. فكلّ تجربة عاشها الإنسان تستحق أن تكتب وتقرأ في نظر شكري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي "مجنون الورد" و"الخيمة" و"السوق الداخلي" نقل إلى القارئ حياة الهامش في طنجة بأدق تفاصيلها، فأبطال كتاباته هم المسحوقون والمنسيون والمقصيون داخل مجتمع لا ينتصر إلا لذوي السلطة أو المال أو الجاه أو غيرها من الدروع الاجتماعية والاقتصادية.
طنجة لي وحدي
كان شكري يعترف بأنه لو عاش في مدينة أخرى عدا طنجة لما كتب ما كتب، وفي أحد حواراته يقول: "ستظل طنجة مدينتي الأثيرة، رغم أن هناك مدناً أجمل منها". إنها مدينته الأثيرة التي ربما كان يتمنى ألا يكتب عنها أحد سواه، لأنه قد يكون الكاتب الوحيد الذي امتلك أسرارها. عاش كثير من الكتّاب العالميين والفنانين المشهورين في طنجة، منهم من قضى فيها سنوات طويلة، ومنهم من كان عبوره وامضاً، بعضهم كتب عن المدينة وبعضهم رسمها. بول بولز وجان جينيه وتينسي ويليامرز ووليام بوراوز وجاك كيرواك وألن غينسبرغ وباربارا هوتون وهنري ماتيس ورامبرانت ودولاكروا وبورخيس وروبن داريو وماجوريل وغاري كوبر ومارلين ديتريش ومارك توين وإديث هارتون وغيرهم.
لكن شكري كان يتأسف لأن طنجة لم تجد من الكتّاب الأجانب من استطاع أن يكتب عنها كما كتب كل من فوكنر وماركيز عن المكان. وربما الذين احتفوا بطنجة في محكياتهم هم رواتها الشفهيون الذين كانوا يبيعون حكاياتهم للكتّاب الأجانب. وأبرز هؤلاء الرواة هم: محمد لمرابط وأحمد اليعقوبي والعربي العياشي وعبد السلام بوالعيش.
أما الكتّاب العرب الذين قدموا إلى طنجة من المشرق فلم يتركوا أثراً يُذكر، بحسب شكري. بالتالي فلن يرتبط اسم طنجة بأي اسم أدبي آخر سوى بمحمد شكري، فهي مدينته وهو كاتبها. لذلك كان يقول: "لكلّ كاتب مدينته. كازبلانكا لمحمد زفزاف وطنجة لي وحدي".