قرر رئيس الجمهورية التونسية، قيس سعيد، تشكيل لجنة تسند إليها مهمة إدارة الحوار الوطني. وأكد أن المشاركة مفتوحة لكل من "ساند مسار التصحيح يوم 25 يوليو (تموز) 2021". واستثنى سعيد من هذا الحوار الأحزاب المُعارِضة للمسار، والنواب الذين شاركوا في الجلسة البرلمانية، 30 مارس (آذار) 2022، وصوّتوا خلالها على قانون إنهاء الوضع الاستثنائي الذي يفرضه سعيد منذ 25 يوليو 2021 وعلى إسقاط مراسيمه الرئاسية.
ويأتي قرار سعيد على أثر مطالبة عدد من المنظمات الوطنية، على رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر منظمة نقابية في تونس)، بإجراء حوار وطني لإخراج البلاد من أزمتها، بينما ينتقد معارضو رئيس الجمهورية، مسار 25 يوليو، ويعتبرونه انقلاباً على الدستور والديمقراطية.
وقال سعيد في خطاب ألقاه بمناسبة عيد الفطر، "ستتشكل لجنة بهدف الإعداد لتأسيس جمهورية جديدة تنهي أعمالها في ظرف وجيز"، مضيفاً، "ستتشكل هيئتان داخل هذه اللجنة العليا إحداهما للحوار". فهل سيكتب لهذا الحوار الوطني أن يرى النور ويُسهم في إخراج تونس من الأزمة الراهنة التي تشمل الجوانب الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية؟ أم سيعمق الأزمة بإقصاء عدد من الأحزاب من المشاركة؟
وحده القضاء يُقصي المجرمين
حالة الانقسام التي تسود المشهد السياسي في تونس لا تسمح بإجراء حوار يفرز نتائج يجمع عليها مختلف الأفرقاء السياسيين، وتخرج البلاد من أزمتها التي شملت البعد الاقتصادي والمالي والاجتماعي والسياسي.
ويؤكد المتابعون للشأن العام في البلاد أن الحوار المثمر يجب أن يُبنى على التشاركية بين مختلف مكونات المشهد السياسي، ووحدها مؤسسة القضاء من تقصي الأحزاب التي أوصلت تونس إلى ما وصلت إليه من خراب، ما دفع باتخاذ الإجراءات الاستثنائية.
ويدعم رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، جمال مسلم، في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، هذا الطرح، داعياً إلى "تشريك الأحزاب السياسية نظراً لمكانتها في المنظومة السياسية الديمقراطية، ووحده القضاء هو من يستثني من أجرم في حق تونس من المشاركة في رسم ملامحها مستقبلاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف رئيس رابطة حقوق الإنسان، أن الرابطة "طالبت بالحوار الوطني، وهي في انتظار تأكيد النقاط التي سيركز عليها هذا الحوار وأهم مخرجاته، لإنقاذ تونس من الأزمة التي تردت فيها"، مشدداً على "أهمية الحضور الفاعل للمنظمات الوطنية في الحوار من أجل صياغة تصورات تشاركية". ويقول مسلم، "إن الرابطة تعمل حالياً على التنسيق وتقريب وجهات النظر من أجل أرضية مشتركة، لتقديم الموقف النهائي من هذا الحوار".
من جهته، وفي كلمة بمناسبة عيد الشغل، أكد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، أن الحوار يجب أن يكون "فعلياً وبمشاركة كل الأحزاب الوطنية الملتزمة بمدنية الدولة وسيادتها ورفض العودة إلى ما قبل 25 يوليو، علاوة على مشاركة واسعة وفاعلة للقوى الاجتماعية والمدنية الوطنية". وشدد الطبوبي في كلمته على ألا يكون "الحوار شكلياً ووفق نتائج مسبقة تحدد خارج الحوار الوطني".
وكان الاتحاد العام التونسي للشغل، أهم المساندين لقيس سعيد، قبل أن يغير موقفه عندما رأى أن "سعيد يتجه إلى الانفراد بالحكم، وتقرير مستقبل البلاد بصفة أحادية".
المصلحة الوطنية أولاً
في الأثناء، صرح عميد المحامين إبراهيم بودربالة، بأن "إجراء حوار وطني الحل لخروج البلاد من أزماتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية"، مشدداً على أن المشاركين في الحوار يجب أن "تتوفر فيهم شروط الاستقلالية والبحث عن المصلحة الوطنية والإرادة لتقديم مشاريع تنهي أزمة البلاد".
وأضاف، "يفترض في الحوار مناقشة مختلف وجهات النظر من أجل صياغة تصورات مشتركة، يوافق عليها كل المشاركين، لكن واقع الحال في تونس، المتسم بالانقسامات السياسية الحادة، لا يوفر شروطاً موضوعية للحوار، مما يجعل سقف المطالب منه محدوداً، وقد لا تؤدي إلى نتائج ملموسة، لأن رئيس الجمهورية سيمضي في مشروعه السياسي، مهما كان شكل الحوار ومخرجاته".
وكان رئيس الجمهورية، قيس سعيد، قد أعلن في وقت سابق أمام وفد من البرلمانيين الأوروبيين، أن "الحوار قد بدأ فعلاً"، في إشارة إلى اللقاءات التي جمعته بعدد من رؤساء المنظمات الوطنية. وسارع ممثلو المنظمات الذين التقاهم رئيس الجمهورية، إلى نفي ذلك، وأكدوا أن تلك اللقاءات لم تتناول الحوار المرتقب.
وبينما تحتاج تونس اليوم إلى حوار شامل يتم من خلاله تحميل المسؤولية لكل من أخطأ في حق البلاد ومحاسبته قضائياً، والعمل على ابتكار حلول جذرية لمختلف مظاهر الأزمة التي تعيشها البلاد، يخشى المتابعون أن يكون شكل إدارة الحوار، والمشاركون فيه، ونقاطه، ومخرجاته، محددة سلفاً، من قبل رئاسة الجمهورية، التي تريد بلورة إصلاحات سياسية ودستورية وعرضها على الاستفتاء، ما قد يصطدم بمطالب المنظمات الوطنية.
"النهضة" تدعو لـ"وحدة الصف"
في المقابل، تتمسك حركة النهضة بموقفها الرافض لمسار 25 يوليو، إذ نبهت في بيان لها إلى "مخاطر الإصرار على تكريس عزلة البلاد عبر تقويض البناء الدستوري والديمقراطي واضطراب العلاقات الخارجية لتونس بما يضر بمصالحها الحيوية الاقتصادية والتجارية والاجتماعية"، داعية إلى "وحدة الصف، وإعلاء قيمة الوحدة الوطنية وفض الخلافات بأساليب مدنية متحضرة".
وشهدت تونس عام 2013 حواراً وطنياً، على أثر أزمة اغتيال السياسيين اليساريين، شكري بلعيد، ومحمد الإبراهمي، التي أنهت حكم "الترويكا"، وهو ائتلاف حزبي بين حركة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات، أسفر عن تركيز حكومة "تكنوقراط" برئاسة مهدي جمعة في 2014.
ويختلف الحوار الوطني المنتظر في تونس، في سياقه ومضامينه وأهدافه، عن حوار 2013، ويخشى المتابعون أن يكون الحوار الجديد واجهة لتمرير مشروع سياسي غريب على التونسيين، قد لا يسهم في حل أزمات البلاد متعددة الأوجه، بل يزيدها تعقيداً.