لم تكن ساحة التواصل الاجتماعي هادئة ولا مستقرة قبل أن تأتي صفقة شراء رجل الأعمال الأميركي إيلون ماسك لشركة "تويتر" بما يقرب من 44 مليار دولار لتضيف لحالة اللبس والتعقيد التي تعاني منها هذه الساحة، بل إن هذا التطور قد يكون خطوة جديدة في طريق مزيد من اختلاط الأوراق أو التصعيد الذي قد يفتح الباب لعلاج جذري، وإن كان هذا الخيار لا يبدو مطروحاً على الإطلاق في المرحلة الراهنة.
تفاصيل المشهد
تتردد أنباء الصفقة منذ بعض الوقت حتى نضجت، وأعلنت بعض تفاصيلها وسط ضجيج اعتاده ماسك أغنى أغنياء العالم الذي تجاوزت ثروته 200 مليار دولار، والذي تركز الجانب الأكبر من نشاطه سابقاً على تكنولوجيات صناعات الفضاء والسيارة الكهربائية "تيسلا"، وقد جاءت هذه الصفقة في ظل نقاش يتردد بين الحين والآخر حول المادة 230 من قانون التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة، ونمو تيار متصاعد من الحزبين الديمقراطي والجمهوري لإلغاء هذه المادة التي تعفي الشركات المنشغلة بالتواصل الاجتماعي من المسؤولية عن أي شيء يتم نشره بواسطة طرف ثالث، ويتيح لها في الوقت نفسه إزالة المحتوى المزعج بحسن نية.
كما جاءت الصفقة في أعقاب جدل طويل نتج من قيام شركة "تويتر" بحجب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بعد اتهامه بنشر خطاب الكراهية منذ ما قبل نتائج الانتخابات الرئاسية التي خسرها، واقتحام أنصاره للمباني الرئاسية وغيرها، لإصراره على رفض نتائج الانتخابات في مشهد ربما لن تنساه الديمقراطية الأميركية والغربية.
وقد أدى حظر ترمب إلى إثارة تساؤلات عميقة حول فلسفة هذه المنصات وقواعد عملها، وبصرف النظر عما إذا كان الحظر يعد مستحقاً لما ارتكبه الرئيس ترمب وأنصاره، فالقضية هي من يملك حق اتخاذ هذا القرار؟ كما أن رد فعل ترمب من إعلان إنشاء منصته الإلكترونية، التي بدأت أخيراً بالفعل تحت اسم "تروث سوشيال" أو الحقيقة الاجتماعية، هي في قلب النقاش حول هذه القضية وتأكيد لما طرحناه بشأن خلل هذه المنظومة.
وبالعودة لصفقة "تويتر"، يلاحظ كثير من التناقضات، فقد استقبلها أنصار ترمب بالترحيب الذي يتجاوز مجرد رد الفعل الانتقامى مما اتخذ بحقهم من إجراءات عقابية، وهو ترحيب على الرغم من سخرية ماسك من منصة ترمب الجديدة التي وصفها "بالبوق"، ويتسق مع هذا الفتور وعدم الارتياح الواضحين لدى إدارة جو بايدن والحزب الديمقراطي إزاء الصفقة، فتصريحات ماسك بشأنها فضلاً عن نمط تفاعلات الرجل في "تويتر" من قبل، أثارت قلقاً لدى هذه الأوساط، فالرجل تحدث عن إعادة برمجه تتضمن شفافية تشغيل لوغاريتمات "تويتر"، بخاصة في ما يتعلق بتنظيم النشر، والمعنى الذي فهمته الأطراف المختلفة أن الحريات التي يقصدها ستتضمن حريات إيذاء عنصري وتحرش وغيره وتركها حرة من دون منع أوعقاب، ولهذا كان رد فعل الصحافة الليبرالية اليسارية في الولايات المتحدة والغرب ومعها مؤسسات دولية كالاتحاد الأوروبى، وإعلامية كـ "بي بي سي"، هو التحفظ تجاه الصفقة والتركيز على أنها غير ملائمة أن تكون في يد شخص واحد.
فى الخلفية أيضاً مهم التعرف على نمط علاقة رجل الأعمال محترف الضجيج في كل من التيارات السياسية الرئيسة في بلاده، أي في الحزبين الديمقراطي والجمهوري، فقد كان أقرب إلى ترمب، ولكنه اختلف معه بعد انتقاده لسياساته الخاصة بالهجرة، واستقال من المجالس الرئاسية الاستشارية على خلفية انسحاب ترمب من اتفاق باريس للتغير المناخي، وفي الواقع أن هذا البعد هو مصدر لبس وتساؤل، فالبعض يعتبر أن الحزب الديمقراطي يقصر ويتجاهل ماسك وإنجازاته العلمية على الرغم من دفاعه وحماسته لسياسات حماية البيئة والمناخ، بحيث بدا وكأنه يحبذ المنافسين الأجانب عليه، بمعنى آخر أن مشاركته للحزب الديمقراطي في سياسات المناخ وحماية البيئة لم تشفع له ولم تكسبه ثقة التيارات الليبرالية الأميركية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المعضلة وترسيخ الخلل المزمن
ركزت رئيسة منظمة "فري برس" غير الحكومية الأميركية جيسكا غونزاليس على أن تحرير الإشراف على المحتوى قد يؤدي إلى جعل المنصة أكثر إيذاء، وتستند المخاوف أيضاً إلى سجل ماسك نفسه من استخدام حسابه الخاص الذي كان يتابعه أكثر من مليون متابع للسخرية مما يخالفه الرأي، وتوقع أن يتحول هذا المنبر إلى صوت الشريحة البيضاء الغنية التي ترفض الأقليات، وهذا بالفعل محور مخاوف التيارات الليبرالية، فالأمر الوحيد الذي يخفف من انتماء ماسك للتيار اليميني الأميركي المحافظ هو قضية التغير المناخي، ولكنها في الحقيقة لا تكفي لبعث الطمأنينة لدى التيارات الليبرالية الغربية وليس فقط الأميركية، وعموماً فقد حسم ماسك مخاوف الديمقراطيين بقراره إنهاء حظر ترمب في منصة "تويتر".
وعلى الرغم من أن ماسك يتحدث عن إعادة توزيع عملية التمويل وطرح أسهم للشركة والاعتماد على الاشتراكات وتضييق الإعلانات التي تشكل المصدر الرئيس للأرباح حالياً، فإن الانتقادات الليبرالية تتركز على أن لا تكون هذه المؤسسة العملاقة في يد فرد، وكأنها لم تكن كذلك قبل صفقة البيع بما يطرح المعضلة التي سبق لنا طرحها، وهي من له الحق في إدارة والسيطرة على هذه الشبكة الإلكترونية الحافلة بالفوضى والانتقائية والسيطرة لكيانات وأفراد.
والجدير بالذكر أن القلق الذي طرحناه سابقاً بمناسبة حجب "تويتر" لترمب، وبممارسات فيسبوك و"تويتر" تجاه حجب ردود الفعل المختلفة المؤيدة للفلسطينيين العام الماضى عند اندلاع أزمة حي الشيخ جراح بالقدس، كلها تطرح نفسها بقوة الآن أكثر من ذي قبل، ويتماشي مع هذا إعلان نية وزارة الأمن الوطنى الأميركية إنشاء هيئة حوكمة لمكافحة التضليل المعلوماتي.
وقد طرحنا في العام الماضى إشكالية أن "فيسبوك" تمارس عملية الرقابة من خلال لجنة، وهذه اللجنة فضحها موظفون كبار سابقون من أنها لجنة منحازة، ولا تعبأ بكثير من الممارسات غير السوية من تمييز عنصري ومخاطر تجاه الأطفال والنساء، وذكّرنا آنذاك بالتساؤل عمن الذي أعطى هذه الشركات سلطات تتجاوز الدول والمؤسسات السياسية والدينية والعلمية وتمارس انتقائية قد تتجاوز جرائم المعايير المزدوجة للحكومات الغربية. وأنه مع التقدير لاستحقاقية حظر رئيس سابق وهو ترمب لتجاوزاته، فكيف تعطى هذه السلطة لمجموعة من الأفراد لم يتم انتخابهم حتى في بلادهم، لم يصدر بتعيينهم أي قرار رئاسي من دولة ما فتتم محاسبة من اتخذ القرار، هذا إذا قبلنا سلطة هذه الدولة أي الولايات المتحدة كسلطة فوقية تحجب حكومات العالم وتديره كيف تشاء، بخاصة أن الأمور تتضمن كثيراً من اللبس والسيولة.
الجانب الآخر المتبقي في المخاوف من صفقة "تويتر" يكاد يأخذني إلى عالم وخيالات السينما الأميركية وهو أمر صعب على من ارتبط مثلي بنهج الممارسات العملية والتحليل العلمي الرشيد أن يذكره، ولكن ما نراه أمامنا يكاد يكون نموذجاً لا تتوقف السينما والرواية الغربية عن إبرازه، وهو تحول أفراد ورجال أعمال بارزين بنوا مؤسساتهم على العلم والتقنية العالية إلى توظيف هذه المؤسسات لخدمة تصوراتهم السياسية أو النفسية، والواضح أن ماسك يشكل بضجيجه وأفكاره الاستثنائية من وقت لآخر نموذجاً لن تجد هذه الخيالات أفضل منه، فبعد أن بنى إمبراطوريته الاقتصادية والتقنية والعلمية يعزز هذا بإمبراطورية إعلامية تمكنه من تشكيل أو إضافة مزيد من الاضطراب للوعي البشري، أظن أن هذا هو مصدر المخاوف الحقيقية لدى قطاعات من الليبرالية الغربية والأميركية، ولكنها في الحقيقة النتيجة الطبيعية لهذه الفوضى (غير الخلاقة) في فضاء التواصل الاجتماعي. وبالنهاية سواء هذه الصفقة أو منصة ترمب الجديدة، فكل هذا ليس إلا حلقة جديدة من مسلسل الفوضى في فضاء عالم التواصل الاجتماعي، وتهدد بتطورات أكثر، على الأرجح لن تقف عند حد إلا بتطوير آلية دولية للإشراف على هذه المنصات، وهو ما يراه البعض خيالاً، ولكن ما قد يحدث في أرض الواقع قد يفوق خيال الجميع ويجعل من فكرة إنشاء هذه الآلية أكثر الحلول واقعية وعملية.