ما زال المنجز الروائي والقصصي للروائي المصري نجيب محفوظ (1911 – 2006)، الحاصل على نوبل للآداب عام 1988، يثير كثيراً من الأسئلة، ويستفز النقاد والباحثين والدارسين الأكاديميين، وطلبة الدراسات العليا، في العالم العربي والعالم، لإعادة النظر، وإعادة القراءة، والتحليل، والتأويل، والبحث عما أعيا النقاد والباحثين تفسيره. مئات الكتب، وآلاف الدراسات، وربما أكثر من ذلك بكثير، صدرت عن محفوظ في العربية، كما في لغات أخرى، لكن هذا السيل العرم من الكتب والأبحاث لا يبدو أنه استنفد ما ينطوي عليه النص المحفوظي، من معانٍ، وأفكار، وقيم جمالية، وإمكانات متعددة للتأويل والتأويل المضاد، فقد انطوى منجزه السردي، المتعدد، المتنوع، الذي يشتغل على أشكال وأساليب، وحقب وتطورات، وعوالم متعددة متباينة، على تجريبية واضحة، ورغبة في اختبار الأشكال والتيارات الروائية، والوقوع على معنى الوجود، كما على معنى التاريخ، وأدوار الأفراد والجماعات في هذا التاريخ، كما أنه انشغل، منذ بدايات تجربته الأدبية، والروائية، بالأسئلة الكبرى، الفلسفية، والميتافيزيقية، وعلاقة البشر بالكون، والله، والذات والآخرين. وقد كان عمله الروائي، بغض النظر عن الموضوعات والأشكال، وبؤر الاشتغال السردي، والسياقين الزماني والمكاني، مهموماً بإيجاد تصور فلسفي، ميتافيزيقي للوجود والعالم.
انطلاقاً من هذه الخلفية، ومن محاولة فهم سرد محفوظ، رواياته أولاً، وبعض مجموعاته القصصية، سعى الناقد الفلسطيني فيصل دراج، إلى قراءة عمل محفوظ في كتابه الجديد "الشر والوجود: فلسفة نجيب محفوظ الروائية" (الدار المصرية اللبنانية، 2022). وما يربط الاثنين، الروائي المصري والناقد الفلسطيني، يتمثل في دراستهما للفلسفة، الأول في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة لاحقاً) وتخرجه فيها عام 1934، والثاني في جامعة دمشق، ثم حصوله على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من إحدى الجامعات الفرنسية عام 1974، لكن الأهم من ذلك، هو رغبة دراج في أن يعثر على الخيط الناظم لكتابة محفوظ الروائية، وهو من وجهة نظره خيط فلسفي، ونظرة ميتافيزيقية إلى الوجود والعالم، تتسم بنوع من اليأس الساخر، والضحك الأسيان على الوجود الإنساني في هذا العالم.
الأفكار الفلسفية
يقيم الناقد دراسته لسرد محفوظ على عدد من الركائز الأساسية، أو إن شئنا الدقة على عدد من الأفكار الفلسفية المحورية، التي يرى دراج أنها تمثل الموتيفات المتكررة، التي تظهر في أعماله جميعاً، بدءاً من حقبته الروائية الفرعونية، وصولاً إلى "أولاد حارتنا" (1959)، و"ملحمة الحرافيش" (1977)، مروراً بأعمال أخرى على رأسها ثلاثيته الشهيرة: بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية. في القلب من هذه الأفكار، أو المفاهيم، أو المقولات: فكرة الشر التي يرى الناقد أنها تبطن عمل محفوظ السردي كله، وتشكل وسيلته لتأويل الوجود، وعلاقة الإنسان بالمتعالي، والكون، والطبيعة، والواقع المادي، والحياة والموت. وحسب دراج، فقد "وصل محفوظ إلى نتيجتين: أبدية الشر الإنساني، الذي يجسد، دنيوياً، شراً واسع الزمن والمكان ولا حدود له، دهري الأبعاد والصفات. يحايث الشر الوجود ويكون علاقة دائمة فيه. يحايث الشر الثانوي الوحود الإنساني، طالما أنه استطالة تابعة لشر – أصل متجدد في ديمومته. يلازم الشر، في شكليه، الأسى، يتحكم بإنسان ضعيف لا يستطيع حياله شيئاً. تتكشف النتيجة الثانية في تحرير الإنسان من مسؤولياته، يبرئه من تهمة الشر التي يمكن أن تصمه. فإذا كان الإنسان تابعاً للأقدار، فإن الشر الذي يقوم به تحمل وزره الأقدار" (ص: 311). فالإنسان، بهذا المعنى، وحسب تصور دراج لفكر محفوظ الفلسفي، وتصوره للوجود الإنساني، مسير لا مخير، ما يلحق الكاتب المصري بنوع من أنواع الجبرية الفلسفية التي تجرد الإنسان من قدرته الفاعلة في التاريخ، وفي تصرفاته، وسلوكه، واختياره. وعلى الرغم من أن دراج يحاول أن يوجد لمحفوظ مخرجاً من هذه الجبرية، وتقييد مصير الإنسان بالقدر، وبما يخرج عن إرادته، وفعله الحر، بقوله إن الكاتب المصري آمن، في حياته وفي أعماله الإبداعية، بضرورة الحرية والعدالة وحضه على المقاومة، فإن النتيجة التي نخلص إليها هي أن الإنسان لا يستطيع شيئاً حيال ما تمليه عليه لعبة الأقدار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يعثر دراج، للتصديق على هذا التصور، على فكرتين، أو وسيلتين إحداهما فلسفية، مأخوذة من فلسفة العلم، وهي فكرة المصادفة، والثانية بلاغية طورها الفيلسوف وعالم الجمال الألماني فردريك شليجل، وهي المفارقة. وكما يقول دراج فإن محفوظ عثر في "مفهوم الصدفة على ما يوطد تشاؤمه وسخريته معاً، إذ في الأول ما يدحض "فلسفة التقدم"، المبشرة بكون إنساني يسير إلى "الأعلى"، وفي السخرية ما يعري التاريخ من جلاله، ويصيره تراكماً زمنياً طائش الاتجاه" (ص: 52). ويكرر دراج قرب خاتمة كتابه الكلام على تلازم الصدفة والمفارقة التي هي "مواجهة الضد بالضد، والصدفة التي تبدو قانوناً وتعبث بالقانون، والمجاز الفني الذي يختصر المجموع في مفرد، ويضيء بالمفرد مجموعاً يتجاوزه" (ص: 298) ويرى الباحث، انطلاقاً من هذا التلازم، أن في إمكاننا قراءة جميع أعمال محفوظ على هذا النحو، بدءاً من "عبث الأقدار"، ثم الثلاثية، فـ"أولاد حارتنا"، مروراً إلى روايات أخرى مثل "الطريق، و"الشحاذ"، وحتى "ثرثرة فوق النيل"، حيث لا يستطيع الروائي المصري أن يحيد عن تصوره الجبري للتاريخ والوجود، فهو يرفع كفيه معبراً عن حيرته، وعدم عثوره على جواب لمعنى الوجود في هذا العالم.
لعبة الأقدار
يقارن دراج، في مسعاه للتشديد على حيرة محفوظ وفلسفته التي ترهن الإنسان بلعبة الأقدار، بصدفة الوجود، وعدم القدرة على التأثير في اختيار مصيره، بثلاثة روائيين مركزيين في تاريخ الرواية: الفرنسي أونوريه دو بلزاك (1799 - 1850)، والروسي فيودور دوستويفسكي (1821 - 1881)، والألماني توماس مان (1875 - 1955). ويرى دراج أن وجه الشبه بين محفوظ وبلزاك يتمثل في اهتمام الروائي الفرنسي أن يكون "سكرتيراً للتاريخ، يوثق ويسجل ما دار عقب الثورة الفرنسية"، فيما "تطلع محفوظ، في طور من حياته، إلى كتابة تاريخ مصر بشكل روائي" (ص: 145)، كما أن بلزاك جعل "من باريس مركزاً لفضائه الروائي الرحيب"، فيما اتخذ محفوظ من القاهرة القديمة فضاءه الروائي، الذي لا يغادره إلا ليعود إليه. أما دوستويفسكي فقد شاركه محفوظ صورة العائلة، وتأمل الوجود الغامض للبشر، لكن ما يفرقهما، من وجهة نظر دراج، أن دوستويفسكي ينوس بين التأويل الديني للتاريخ والوجود، ثم يصور لنا نفوساً قلقة حائرة، أما نجيب محفوظ فـ"يقرأ البشر ويعطفهم على أقدار ترضى عنهم، أحياناً، وتستبد بهم حين تشاء" (ص: 125) أما ما يتشارك فيه توماس مان ومحفوظ فتصويرهما لسطوة الزمن و"تداعي العائلة"، كما فعل مان في "آل بودنبروك: تداعي عائلة" (1901)، وفعل محفوظ في ثلاثيته التي تأخذ من الروائي الألماني تصوره لرواية الأجيال "التي تلحق الأب بأبيه، والحفيد بجده، وتدفع إلى الموت أعماراً متفاوتة" (ص: 125).
لكن هذه التشابهات التي يقيمها دراج بين ثلاثية محفوظ، ورواية توماس مان "آل بودنبروك"، و"الإخوة كارامازوف" (1880) لدوستويفيسكي، و"الكوميدياً الإنسانية" لبلزاك (1829 - 1847)، تبدو مجرد تأثيرات سرية تسري في عمل الروائي المصري. لقد قرأ محفوظ هؤلاء الروائيين الثلاثة، واستفاد من تصورهم للشكل الأدبي، وكذلك للتاريخ، وفي بعض الأحيان رؤيتهم للوجود الإنساني، وعلاقة الإنسان بقدره أو مصيره. ولعل قدرة محفوظ على شق طريق خاصة به، في تلك المرحلة المبكرة من عمله الروائي، وإبقائه هذه التأثيرات، التي رصدها دراج في كتابه، خافتة، وخيطاً رقيقاً ضمن النسيج العام لعمله، هي التي جعلت الناقد يخفف من لغة الجزم، بخصوص هذه التأثيرات، ليقول إن محفوظ حاور "غيره من كبار الروائيين والفلاسفة"، وأذاب "ما وصل إليه في نصه الروائي. أدرج فيه، همساً، بعضاً من تصورات توماس مان، المحدثة عن الزمن والجمال والموت، وأبعاداً من فلسفة سبينوزا القائلة باضطراب الفكر الإنساني، الذي يتقاطع فيه العقل والأهواء" (ص: 319)، منتهياً إلى القول بأصالة عمل محفوظ، وإبداعه الخلاق، وقدرته أن يكون واحداً من كبار روائيي العالم.