شهد المغرب خلال السنوات الأخيرة دعوات متتالية إلى اعتماد تعديلات على مدونة الأسرة، وبخاصة إقرار مبدأ المساواة في الإرث، وإلغاء تجريم العلاقات الجنسية الرضائية، وبينما جدد العاهل المغربي تأكيده التزام أحكام الشريعة خلال خطابه بمناسبة الاحتفال بعيد العرش، اعتبر جانب من المغاربة حديثه إشارة إلى عدم تعديل المدونة، بينما رأى فيه آخرون تلميحاً إلى إمكان التعديل.
العاهل المغربي في جانب من خطابه، قال نصاً "لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله، لا سيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية، ومن هنا نحرص أن يتم ذلك في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح والتشاور والحوار وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية".
وفي ما يخص مجال المساواة، أضاف "من أهم الإصلاحات إصدار مدونة الأسرة، واعتماد دستور 2011 الذي يكرس المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات، وينص على مبدأ المناصفة، كهدف تسعى الدولة إلى تحقيقه، فالأمر هنا لا يتعلق بمنح المرأة امتيازات مجانية، وإنما بإعطائها حقوقها القانونية والشرعية، وفي مغرب اليوم لا يمكن أن تحرم المرأة من حقوقها".
وتابع أن "مدونة الأسرة ليست مدونة للرجل، كما أنها ليست خاصة بالمرأة، وإنما هي مدونة للأسرة كلها، لذا نشدد على ضرورة التزام الجميع بالتطبيق الصحيح والكامل لمقتضياتها القانونية".
وفي ما يظهر أنه دعوة لتعديل مدونة الأسرة الحالية قال العاهل المغربي "يتعين تجاوز الاختلالات والسلبيات التي أبانت عنها التجربة، ومراجعة بعض البنود التي تم الانحراف بها عن أهدافها، إذا اقتضت الحال ذلك، وندعو للعمل على تعميم محاكم الأسرة على كل المناطق، وتمكينها من الموارد البشرية المؤهلة، ومن الوسائل المادية الكفيلة بأداء مهامها على الوجه المطلوب".
وكان العاهل المغربي محمد السادس أطلق مشاورات بخصوص تعديل "مدونة الأحوال الشخصية" في عام 2001، وذلك عبر إنشاء اللجنة الملكية الاستشارية، إلى أن أعلن صيف عام 2003 أمام البرلمان اعتماد "مدونة الأسرة" إثر إدخال تعديلات جوهرية على المدونة السابقة.
توجهات مختلفة
اعتبر جانب من المغاربة أن في تعهد الملك اتجاهاً نحو قطع الطريق على مطالب المناصفة في الإرث والحرية الجنسية، إلا أن جانباً آخر فهم الأمر على أنه توطئة لتعديلات مهمة في مجال المساواة، وأشار عبدالإله الخضري رئيس المركز المغربي لحقوق الإنسان إلى أن "الخطاب الملكي كان واضحاً وبليغاً في رسالته، وإشارته تلك بخصوص مطالب تعديل مدونة الأسرة، جاءت منسجمة مع روح الدستور المغربي، بخاصة في فصله الثالث الذي يشير إلى أن الإسلام دين الدولة مع ضمان واحترام معتقدات الآخرين".
وأضاف الخضري في حديثه لـ"اندبندنت عربية" أنه "حين نتحدث عن الأحوال الشخصية، فالمرجعية الإسلامية في فلسفة التشريع المغربي ومقاصده قائمة على هذا الأساس، مع التذكير بأن بقية مكونات الفسيفساء العقائدي المغربي تحظى باحترام تام لمرجعيتها الدينية، كما هو الشأن بالنسبة للطائفة اليهودية مثلاً".
وبخصوص توجهات التيارات المختلفة في مجال المساواة والحرية الجنسية، يوضح الناشط في مجال حقوق الإنسان أن الحركة الحقوقية المغربية منقسمة حول بعض القضايا الشائكة، خصوصاً موضوع الإرث والعلاقة الجنسية الرضائية حسب مرجعية كل تنظيم حقوقي، مشيراً إلى أن هناك تنظيمات، وغالبيتها ذات مرجعية يسارية أو ليبرالية، تدعو في خطابها إلى التنصل من القيم المشتركة التي تجمع مكونات الغالبية العظمى للشعب المغربي، ولا تنتبه إلى أن الشرعية الدولية لحقوق الإنسان نفسها تؤكد ضرورة مراعاة تلك القيم والقواعد الوطنية التي تستمد فلسفتها منها ما دامت لا تنطوي على انتهاكات.
وفي يخص قضية الإرث، يضيف "هناك نصوص قرآنية قطعية الدلالة، بالتالي لا يمكن تجاوزها، لكن هناك بعض الجوانب من داخل منظومة الإرث غير خاضعة لنص قطعي، وجديرة بالمناقشة والمراجعة، على ضوء مستجدات العصر وصون حقوق الناس، فمدونة الأسرة في تقديري بحاجة إلى إعادة النظر في هذا الخصوص، لكونها تنطوي على ظلم في حق المرأة، بخاصة الأرملة وبنات المتوفى على سبيل المثال، حين يأتيهن قريب وما هو بقريب من الناحية الوجدانية والواقعية ويشاركهن ميراثهن، وربما يحظى بأكثر مما يحظين، بل قد يتسبب في تشريدهن".
أما بخصوص العلاقات الجنسية الرضائية، يعتبر الخضري أن "الأمر فيه لبس شديد، فمقصد الشرع ألا نتورط في انتشار ظاهرة ولادة أشخاص من دون هوية الأب، لما لهذا الوضع من تداعيات نفسية واجتماعية مدمرة على الفرد والمجتمع في آن، كما أن العلاقات الجنسية لمتزوجات من شأنها أن تؤدي إلى نسب أبناء لآباء ليسوا آباءهم البيولوجيين، وهذا ظلم وجور في حق الأزواج ضحايا هذه الخيانة الزوجية، ناهيك عن الجرائم التي قد تترتب على تلك العلاقات الجنسية"، موضحاً أنه لتلك الاعتبارات "وجب تقنين الأمور على نحو لا يمس بحرية الأشخاص، لكن لا يؤدي إلى إفساد المجتمع، لذلك لا بد من تشكيل لجنة من علماء كبار من مختلف التخصصات العلمية والدينية، من أجل الخروج بمقاربة ناجعة ومقاصدية، لا تمس بروح الشريعة وفي الوقت نفسه تراعي الحرية المسؤولة للمواطنين والمواطنات".
من جهته، أوضح عبدالإله بن كيران الأمين العام لحزب العدالة والتنمية أن الاستمرار في تكريس حقوق المرأة المغربية القانونية والشرعية والسياسية، لكي تأخذ مكانها في المجتمع إلى جوار أخيها الرجل، في إطار الحفاظ على الأسرة والحفاظ على مقتضيات المرجعية الإسلامية، أدخل السرور على عموم المواطنين.
توطئة للتعديل
أوضح مراقبون أن خطاب الملك يمكن اعتباره تمهيداً لاعتماد تعديلات في مجال المساواة بين الجنسين، حيث قال عبدالوهاب رفيقي الباحث المتخصص في قضايا التطرف والإصلاح الديني "على عكس ما قد يفهم من تنصيص الملك على عبارة (عدم تحريم ما أحل الله، وعدم تحليل ما حرم الله)، تلك الجملة يمكن اعتبارها بشرى بانتظار عدد من التغييرات التي ستمس مدونة الأسرة، لأنه لو تذكرنا فإن هذه العبارة أول ما سُمعت من الملك محمد السادس وكانت في سياق إصدار مدونة الأسرة للمرة الأولى وإحلالها مكان مدونة الأحوال الشخصية السابقة في عام 2003، مع ما تضمنته المدونة من تطور لافت على مستوى حقوق المرأة".
وأضاف رفيقي في حديثه لـ"اندبندنت عربية" أنه يعتبر ذلك تمهيداً لفتح ورشة جديدة بهدف إعادة النظر في عدد من القوانين التي تضمنتها المدونة، وأن حديث الملك عن الاجتهاد وعن مقاصد الشريعة الإسلامية وعن النظر إلى المصلحة يشكل أيضاً مؤشراً جلياً على اعتماد عدد من الاجتهادات الفقهية، وتابع أنه "قد تكون هناك بعض القضايا التي لا يمكن مناقشتها في إطار عدد من التوازنات السياسية والدينية كالمساواة التامة والمناصفة في الإرث، لكن هذه ليست هي القضية الوحيدة التي يمكن مناقشتها في مدونة الأسرة، فهناك قضايا كثيرة متعلقة بالتعصيب والولاية والحضانة، مما لا يعتبر نصوصاً قرآنية قطعية، وهذه أعتقد أنها ستكون محل دراسة وتعديل في الوقت الراهن".
وسبق لرئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان (الحكومي) التصريح بأن "نظام الإرث المعمول به في المغرب يتمتع فيه الرجال بامتيازات وإمكانات للحصول على العقارات والصناعات والأعمال التجارية، ما يؤدي إلى تأنيث الفقر. هذا النظام ما زال حاملاً لعدد من مظاهر التمييز وعدم المساواة تجاه المرأة، من صورها نظام التعصيب والقيود المفروضة على الوصية، وهو ما يحد بشكل قوي من ولوج النساء والفتيات إلى الأرض والثروات، وجعلهن أكثر عرضة للفقر والهشاشة".