يتميز عالم النفس الفيلسوف الألماني- الأميركي إريك (إريش) فروم (1900-1980) بأبحاثه الأصيلة التي تناولت الذات الإنسانية كائناً اجتماعياً قادراً على استخدام العقل واستثمار طاقات الحب من أجل التغلب على المسلك الغرائزي المهيمن في المجتمعات المعاصرة المتأزمة، نشأ في بيئة ألمانية يهودية متمرسة بعلوم التوراة والتلمود، درس القانون في جامعة فرانكفورت، وانتقل إلى جامعة هايدلبرغ من أجل دراسة علم الاجتماع على أساتذة لامعين من أمثال الفيلسوف الوجودي المسيحي كارل ياسبرس (1883-1969)، والفيلسوف الكانطي هاينريش ريكرت (1863-1936)، وعالم الاقتصاد والجغرافيا ألفرد ڤيبر (1868-1958)، شقيق عالم الاجتماع الشهير ماكس ڤيبر (1864-1920). وما لبث أن تعمق في أصول التحليل النفسي في مصح (sanatorium) مدينة هايدلبرغ الجامعي، تشرف عليه الطبيبة النفسية الألمانية فريدا رايشمان التي تزوجها عام 1926، ولكنه انفصل عنها عام 1942، فضلاً عن ذلك استطاع أيضاً أن يطور تخصصه النفسي في معهد الأبحاث الاجتماعية الشهير بفرانكفورت.
لا بد من الإشارة في هذا السياق إلى الخيبة العظيمة التي جناها فروم من التزامه السياسي في صفوف المنظمات الصهيونية العالمية، إذ اتضح له أن مثل هذا الالتزام يخالف مبادئه الإنسانية الكونية، وتصوره الروحي المتافيزيائي المستند إلى ضرورة الخلاص الختامي الذي ينبغي أن يشمل جميع الصالحين في كل الأوطان والأقوام، انتسب إلى المدرسة الفرويدية المحدثة، وتعاون تعاوناً وثيقاً وكارن هورني التي أثرت تحليلاتها النفسية في فكره، وأثرت استقصاءاته الاجتماعية في آرائها النفسية.
التناول التحليلي المتنوع الاختصاصات
درس التحليل النفسي في معهد الأبحاث الاجتماعية بفرانكفورت منذ عام 1928، في هذه الحقبة من حياته التقى الفيلسوفين الألمانيين تيودور أدورنو (1903-1969) وهربرت ماركوزه (1898-1979)، لكنه ما لبث أن هاجر عام 1934 إلى الولايات المتحدة الأميركية هرباً من الإبادة النازية، في عام 1962 عين أستاذ الطب النفسي في جامعة نيويورك، بفضل أبحاثه المتنوعة الحقول، غداً من مؤسسي التيار الثقافوي (culturalism) الأميركي، يصاحبه في هذا المسعى عالمان بارزان: مؤسسة علم النفس النسوي الألمانية- الأميركية كارن هورني (1885-1952)، والطبيب النفسي الأميركي هاري ستاك ساليڤان (1892-1949). هؤلاء جميعهم كانوا يرومون أن يجددوا علم النفس الفرويدي بواسطة استجلاء علم نفس الأنا (ego-psychology)، وهو المبحث الذي يمكنهم من استثمار الفرويدية في بناء علم نفس اجتماعي ثقافي أشمل وأغنى وأشد إنصافاً للكيان النفسي في جميع أبعاده، غير أن فروم كان يعارض تصنيفه الثقافوي هذا، قائلاً قولاً صريحاً "إن هورني وساليڤان يتناولان الخطاطات الثقافية في سياق معجم الأنثروبولوجيا التقليدية، في حين أن مقاربتي مبنية على تحليل القوى الاقتصادية والسياسية والبسيكولوجية التي تضع أسس المجتمع". من الجدير ذكره أيضاً أن فروم كان من مؤسسي معهد ويليام ألانسون وايت (نيويورك) المتخصص بالطب النفسي وبالتحليل النفسي، ولكنه كان يرفض أن تخيره مدرسة فرانكفورت بين تأييد ماركس ومناصرة فرويد، لذلك عده كثيرون من أصحاب النظرية الإنسية (humanism) التي تتناول الإنسان في جميع أبعاده الاجتماعية والأخلاقية، وتستثمر طاقات النفس في إغناء العلاقة الاجتماعية الأرحب التي تحرر الإنسان من جميع أشكال الاستبداد التوتاليتاري والاستلاب الاجتماعي.
الاضطلاع بمسؤولية الحرية الأخلاقية
أنشأ فروم في عام 1941 كتابه الشهير الذي يحتوي على بذار فكره الإنسي "الهروب من الحرية" (Escape from Freedom)، وقد تغير العنوان تغيراً طفيفاً في الطبعة البريطانية ليصبح "الخوف من الحرية "(The Fear from Freedom). من جراء تأثره بالتنشئة الدينية التلمودية المبنية على الصحوة الصوفية الروحية (hasidism)، أخذ يعالج الطبيعة الإنسانية من منظور نفسي أخلاقي روحي أفضى إلى اعتنائه بعلم النفس السياسي الذي يحلل المسؤولية السياسية بالاستناد إلى معطيات التحليل النفسي. أما الكتاب الآخر الذي يكمل "الهروب من الحرية"، ويرسم خريطة الطباع الإنسانية غائصاً غوصاً عميقاً في علم النفس الأخلاقي، فعنوانه التفصيلي: "الإنسان من أجل ذاته: استقصاء في علم نفس الأخلاق" (Man for Himself. An Inquiry into the Psychology of Ethics).
يستعين فروم برواية آدم وحواء وطردهما من جنة عدن لكي يخالف التأويلات اللاهوتية التي تنسب إليهما خطيئة العصيان والتمرد على المشيئة الإلهية واقتطاف ثمار شجرة المعرفة. غير أن عبرة الرواية تقع في موضع آخر، إذ إن فروم يمتدح فضيلة الإنسان المستقل الخليق بحريته، القادر على استخدام عقله استخداماً سليماً من أجل بناء عمارة أخلاقية ذاتية تحثه على التعاطف والآخرين، عوضاً عن الخضوع لأنظومة أخلاقية خارجية متسلطة مستبدة، فضلاً عن ذلك يمجد فروم موقف الاستقلال الذي وقفه آدم وحواء حين تناولا من ثمار شجرة المعرفة، فأسهما في تطوير وعيهما، وكفا عن التماهي بالطبيعة، من غير أن يخرجا من فضائها. خير دليل على ذلك رمزية العري والخجل التي جعلتهما يتطوران فيتحولان إلى كائنين إنسانيين يعيان ذاتهما، ويدركان طبيعتهما المنعطبة المائتة، ويضطلعان بمسؤولية ضعفهما وعجزهما عن معاندة قوى الطبيعة، وذلك من بعد أن قبلا الانفصال عن وجودهما الحيواني الغرائزي البدائي في حضن الطبيعة. ومع أن وعي الانفصال هذا يستثير في الإنسان الشعور بالذنب والخجل، غير أن استعادة الوحدة الكيانية والانسجام الوجداني في الذات الإنسانية لا تستقيم إلا باستثمار طاقات العقل والحب.
آليات تسويغ الهروب من الحرية الذاتية
ليس للإنسان أمام الحرية سوى سبيلين: فإما أن يعتنقها، وإما أن يجتنبها، كثير من الناس يسلكون السبيل الثاني، فيهربون منها متذرعين ببعض التسويغات التي تعطب وجدانهم وتعطل اتزانهم النفسي. من يضطلع بالحرية، يمكنه أن يحيا حياة المسؤولية الوجودية الحق، في حين أن العزوف عنها يولد التأزم النفسي ويؤجج الصراعات الفردية. أما الآليات التي يخترعها الإنسان لكي يسوغ هروبه من الحرية، فيستجمعها فروم في ثلاث خطط: التطابق الآلي (automaton conformity) والنموذج الاجتماعي الذي تفرضه الأنظومة السائدة، بحيث يتخلى الهارب من حريته عن مثاله الذاتي الخاص ويعتنق الصورة النمطية التي تفرضها الثقافة المهيمنة، وفي ظنه أنه يعفي نفسه من أثقال المسؤولية ويلقي بهموم وجوده على أكتاف الآخرين، التسلطية (authoritarianism) التي تكره الهارب من حريته على الاستغناء المطلق عن مسؤولية حياته وإخضاع وجوده كله لمشيئة الآخرين، الانهدامية (destructiveness) التي تدفع بالهارب الجبان إلى إسقاط الهيكل على رؤوس الجميع وإبادة الناس وتدمير العالم، وفي اعتقاده أنه بذلك يصون فرديته وحريته ويحفظ نفسه من السحق المنهجي.
يعتقد فروم أن الكائن البشري يحتاج إلى الاضطلاع بالمسؤولية عن قراراته الأخلاقية، عوضاً عن الاكتفاء بالخضوع للقواعد التي تفرضها الأنظومة الثقافية- الاجتماعية السائدة. ومن ثم، يمكن القول إنه كان متأثراً بالأفكار الإنسية التي كان ماركس يناصرها في الحقبة الأولى من فكره. لا عجب، بعد ذلك، من أن يرفض العنف في جميع أشكاله، إذ إن التعاطف الوجداني بين الناس يؤهلهم للتغلب على غرائزهم الحيوانية، ومع أنه لم يكن مؤمناً بالدين اليهودي، فإنه كان متأثراً بالروحانية الصوفية التي تنطوي عليها نصوص التلمود، ومن ثم تجلى أثر هذه الروحانية في مناصرته علم النفس الإنسي (humanistic psychology) الذي كان يحمل لواءه عالم النفس الأميركي كارل رودجرز (1902-1987).
فلسفة الحب
يخالف فروم آراء فرويد وماركوزه في تصورهما مقام الحب، إذ يضع الاختبار العلائقي هذا في مقام الطاقة الخلاقة التي تربط الأشخاص بعضهم ببعض ربطاً وجدانياً يتجاوز مجرد الانفعال العابر، ويخالف الميول النرجسية التي يعتمدها الناس المضطربون نفسياً من أجل البرهنة على ما يسمونه "الحب الحق". حين يعكف على التأمل في العبارة الإشاعة "وقع في الغرام"، يخلص إلى أن الناس يفوتهم معنى الحب الأصلي الذي يتضمن بضعة من العناصر الأساسية كالعناية الرقيقة، والمسؤولية المتبادلة، والاحترام الصادق، والمعرفة الشخصية العميقة. الحقيقة أن الناس الذين يدعون اختبار الحب في حياتهم الشخصية لا يراعون كلهم استقلال أحبائهم وخلانهم وشركائهم في الحياة، ولا يحرصون على التعارف الوجودي اليومي الصبور الذي يتيح لهم أن يكتشفوا ما يريده الآخرون حقاً، وما يحتاجون إليه في صميم كيانهم الذاتي: "يعني الحب أن تلزم نفسك إلزاماً لا ضمانة فيه، وأن تهب ذاتك وهباً كاملاً على رجاء أن يثمر الحب حباً في الشخص المحبوب، ذلك بأن الحب فعل إيمان، وضعيف الإيمان ضعيف الحب أيضاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في كتابه "قلب الإنسان" (The Heart of Man)، يعلن أننا نحتاج إلى تدبر طاقات وجداننا تدبراً يتيح لنا أن نستثمر انفعالاتنا النفسية الأعمق: "أعتقد أن الإنسان، إذ يختار التقدم، يستطيع أن يعثر في ذاته على وحدة جديدة من خلال تنمية جميع قواه الإنسانية التي تنشط في اتجاهات ثلاثة يمكننا أن نتناولها منفردة أو مجتمعة: حب الحياة (biophilia)، حب الإنسانية والطبيعة، الاستقلال والحرية".
حاجات الإنسان الوجودية
يصر فروم على ضرورة فهم الحاجات الإنسانية الأساسية، إذ إن مثل هذا الفهم يساعدنا في إدراك بنية الاجتماع الإنساني وطبيعة الجنس البشري نفسه. غير أن الأنظومات الاجتماعية السائدة في مختلف الحضارات الإنسانية تمنعنا من تلبية مختلف حاجاتنا في الوقت عينه، فتضطرنا إلى مواجهة الحرمان وافتعال الصراع العبثي بين أعضاء المجتمع. يتوسع فروم في استجلاء طبيعة الحاجات الأساسية التي تجعل الإنسان ينتعش كيانياً ووجدانياً ووجودياً. الحاجة الأولى التسامي (transcendence) الذي يساعد الإنسان في تجاوز رغبة الهدم والتدمير والقتل، وانتهاج سبيل الخلق والرعاية والرفق، ذلك بأن الإنسان رمي به في العالم من غير استئذان، فوجد نفسه ملقى في حقل من الإمكانات الرهيبة. فإما أن ينفعل انفعالاً عنفياً ويهدم الهيكل بأسره، وإما أن يبتكر أسلوباً فذا من الخلق المستمر به يجعل العالم أنقى وأجمل وأبهى.
الحاجة الثانية الانغراسية (rootedness) التي تمنح القدرة على غرس جذور كيان الإنسان في تربة العالم الوحيد الذي قذف به فيه، حتى يشعر بأن العالم منزله الخاص. بفضل هذه الانغراسية، نستطيع أن ننمو بمعزل عن محضن الأم الذي كان يمنحنا الأمان والاطمئنان، فنخرج إلى العالم ونعقد فيه مختلف أصناف الارتباطات المغنية (relatedness). الحاجة الثالثة الفوز بمعنى الهوية الذاتية (sens of identity) التي تساعدنا في الانعتاق من قيود الانتمائية الطبيعية الأولى، والانخراط في سياق التاريخ انخراطاً مستنداً إلى وعي الفردية الخاصة التي تنطوي عليها ذاتيتنا.
الحاجة الرابعة الوحدة (unity) التي تضمن لنا أن نصون هويتنا داخل ذاتيتنا وخارجها، أي في رحاب العالم الذي ننخرط في حركته. فنكتسب الانسجام الكياني الضروري الذي يحمينا من التبعثر والضياع. ومن ثم، ننشئ إطاراً توجيهياً (frame of orientation) يرشدنا إلى مقامنا الفريد في خضم العالم. أما الحاجة الخامسة، فالإنجازية الفاعلة (effectiveness) التي تحث الإنسان على تحقيق الطاقات الدفينة التي يختزنها كيانه الذاتي، على قدر ما ينهج الإنسان سبيل الخروج إلى العالم وإلى الآخرين، يستطيع أن يستخرج من ذاتيته الإمكانات المنطوية التي تؤهله للتعبير عن أخص خصائص فرادته.
تدليلاً على أهمية هذه الحاجات التي ينبغي أن نلبيها تلبية سليمة متزنة، يرسم لنا فروم في كتاب "الهروب من الحرية" السبيل المستقيم الذي يضمن لنا الانتعاش الكياني: "ثمة حل منتج ممكن واحد لعلاقة الإنسان الحائز فرديته الذاتية بالعالم: أن يتضامن وجميع الناس تضامناً فاعلاً، وأن ينشط نشاطاً عفوياً، بحبه وعمله، حتى يتحد ثانية بالعالم، لا في صورة العلاقة البدائية، بل بحسب مقام الفرد الحر المستقل. [...] ولكن إذا لم تنشئ الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية الأساس الضروري لتحقيق الفردية وفقاً للمعنى المذكور، في حين أن الناس فقدوا في الوقت عينه تلك الروابط التي كانت تمنحهم الأمان، فإن هذا التفاوت يجعل الحرية عبئاً لا يحتمل. حينئذ تتماهى الحرية بالشك، يرافقه ضرب من الحياة يفتقر إلى المعنى والوجهة. فإذا بميول قوية تنبعث من أجل الهروب من هذا النوع من الحرية، واللجوء إلى الخضوع أو إلى نوع من الارتباط بالإنسان الآخر أو بالعالم ارتباطاً يعد بالانعتاق من حال عدم اليقين هذه، حتى ولو حرم الوعد الفرد من حريته" (فروم، "الهروب من الحرية"، ص 36-37).
مناقشة فرويد في أصل التأزم النفسي
في كتاب "الإنسان من أجل ذاته"، يصوغ فروم نظريته الخاصة في وجهة الطباع، مخالفاً نظرية فرويد المستندة إلى تدبير الرغبة الجنسية (الليبيدو). فيعلن أن الإنسان الفرد، في ارتباطه الحياتي بالعالم، ينهج سبيلين اثنين: إما الاكتساب والاستدخال والهضم والاستساغة، وإما التفاعل والناس. ويصر على أن هذين السبيلين لا ينبثقان من الغريزة، بل يعبران عن تفاعل الفرد وأوضاع الحياة. وعلاوة على ذلك، ما من فرد يكتفي بسبيل دون الآخر، بل الجميع يسلكون الاثنين بحسب قرائن اختباراتهم.
من بعد أن يفصح عن نهجه المعرفي في التحليل النفسي، يعود إلى فرويد ليبين التفاوت الخطير بين النظرية النفسية الأولى والنظرية النفسية الثانية. قبل الحرب العالمية الأولى، كان فرويد يربط الميول أو الاندفاعات بالتوتر المحتدم بين الرغبة والقمع. ولكنه، بعد انتهاء هذه الحرب، ما لبث أن أعرض عن هذا الوصف، وطفق يحيل هذه الاندفاعات على الصراع الناشب بين غريزتين بيولوجيتين متعارضتين: غريزة الحياة وغريزة الموت. ويبدو أن فرويد لم يعترف بهذا التناقض بين النظريتين. وفضلاً عن ذلك، يعيب فروم على فرويد منطقه الثنائي الحاد الذي يحشر الوعي والأنا في صراع مرير بين قطبين متناقضين: الهذا (الهو) والأنا العليا. وبذلك يحصر فرويد القمع الاجتماعي بأبعاده الجنسية المحض. فإذا به يتجلى، بحسب فروم، في صورة "الإصلاحي المأساوي" الذي لا يستطيع أن يغير مسار الواقع الاجتماعي والسياسي. ومع أن هربرت ماركوزه رفض الانتقادات التي وجهها فروم إلى فرويد، إلا أن فروم ما برح يصر على أن فرويد لا يجوز له أن يغلق على الذات في انفعالية غريزية تفرضها الرقابة الاجتماعية مجردة من أي مسعى إرادي أو من أي قدرة على استثمار إمكانات التنويع في المسلك الإنساني.