خلال المرحلة الأخيرة من حياته حيث كان يعيش في بيروت، وكنا نلتقيه مساء كل يوم تقريباً في مقاهي منطقة الروشة، كان الشاعر الفلسطيني كمال ناصر يحرص على أن يدمدم مرات عديدة خلال حديثه الشائق دائماً إنما العابق دائماً بالمرارة تتسلل من ثنايا ثقافته العريضة، عبارة لا تتبدل ويكررها مرات عديدة خلال كل جلسة "اللهم نجنا من يوم تصبح فيه الخيانة وجهة نظر". والحقيقة أن كمال ناصر الذي اغتاله كوماندوس إسرائيلي في هجوم له حينها على بيوت عدد من قادة المقاومة الفلسطينية بمنطقة فردان وسط العاصمة اللبنانية، لم يكن ليجهل أن الخيانة هي ومنذ فجر التاريخ الإنساني جزء من ذلك التاريخ بل أحد محركاته الرئيسة، لكنه كان يرفض أي تبرير لها ومهما كانت المبررات "الواقعية" أو "السياسية". ويقيناً أن ناصر وهو صاحب الثقافة العريضة لم يكن قد قرأ أو شاهد مسرحية للكاتب والناقد المجري لاسلو نيميث (1901 – 1975) عنوانها "الخائن" وإلا لكان تحدث عنها مطولاً باستنكار واشمئزاز ذات يوم أو آخر، وهو الذي كانت "الخيانة" هماً أساسياً من همومه، بل حتى وكما كان يقول وهو يلوح بقبضته بعصبية "إنها الحليف الأساسي لكل أعدائنا".
من طب الأسنان إلى المسرح التاريخي
كان لاسلو نيميث في الأصل، وإلى جانب مهنته الأساسية كطبيب أسنان، باحثاً في العلوم الاجتماعية وناقداً أدبياً وروائياً، وكان قد بدأ بشكل متأخر بعض الشيء بالنسبة إلى مسرحياته الكبرى، يلجأ إلى كتابة مسرحيات تاريخية لعل من أكثرها شهرة إلى جانب تلك التي نتناولها هنا، تلك المسرحية المهمة عن صراع العالم النهضوي "غاليليو" ضد الكنيسة ومحاكمها التفتيشية (والتي كتبت عام 1953 لتنشر وتنتج بعد ذلك بثلاثة أعوام)، و"موت غاندي" التي كتبها نيميث عام 1963 لتنتج في العام نفسه (محققة نجاحاً كبيراً جداً لم يحققه أي من مسرحياته الأخرى). مهما يكن من أمر فإن مسرحيات نيميث التي فاق عددها الـ25 لتورثه سمعة ككاتب مسرحي طغت حقاً على سمعته كباحث سوسيولوجي له في هذا المجال عشرات الدراسات، ناهيك بالروايات العديدة التي أصدرها وتعتبر من أمهات الأدب المجري المعاصر. أما المسرحيات فكان بعضها ينتج فعلياً على المسرح ويكتفى ببعضها الآخر منشوراً في كتب لتعذر تقديمه بسبب الرقابات، وذلك بالتحديد لأن نيميث كان يريد من مسرحياته أن تفسر الحالات الاجتماعية الشائكة غالباً التي يتناولها في دراساته. ومن هنا طغى على معظم إنتاجه المسرحي طابع المسرح التاريخي، تحديداً كما حال مسرحية "الخائن" التي كتبها عام 1954 لكنه لم يتمكن حتى من نشرها إلا في عام 1963.
التاريخ على المسرح
و"الخائن" مسرحية في أربعة فصول، تتناول فصلاً بالغ الأهمية والدلالة من فصول تاريخ المجر، موطن الكاتب، وتحديداً الحقبة التي شهدت حرب استقلال هذا البلد، بالتالي فإن أحداثها تقرب لأن تكون حقيقية وشخصياتها معروفة تاريخياً، بالتالي فإن مساهمة نيميث في استعادة تلك الأحداث إنما كانت أقرب إلى أن تكون مساهمة أيديولوجية فكرية تدور بالطبع من حول مفهوم "الخيانة" التي لعبت دوراً كبيراً في تلك الأحداث. وتدور مسرحية "الخائن" من حول القائد العسكري آرثر فون غورجي الذي يعرف في تاريخ المجر بكونه المسؤول الذي اتخذ القرار الشائك والخطير بوضع حد لحرب الاستقلال باستسلامه واستسلام قواته. وها هو ذا اليوم يعيش في المنفى مع زوجته الصبية بعد أن كان الزعيم الوطني كوسوت الذي كان يتولى رئاسة البلد خلال تلك الحرب الاستقلالية قد هرب من البلاد كي يتجنب الوقوع في الأسر، معلناً أن هذه الهزيمة لم تكن لتحدث لولا الخيانة التي اقترفها "غورجي الخائن" كما راح يسميه. وفي المشهد الأول يطالعنا ضابط سابق في الجيش المجري يرتدي الآن بزة عسكرية تابعة لقوات آل هابسبرغ المنتصرين، وهو يدخل على مقر غورجي مطالباً إياه بـ"حصته" من المال الذي يقال إن هذا الأخير قد تلقاه من الأعداء مقابل خيانته وتسليمهم البلاد. وكذلك يطالعنا في الوقت نفسه شقيق غورجي وقد وصل إلى المكان حزيناً وغاضباً يطالب أخاه بأن يبرئ نفسه ويطهر اسمه من تهمة الخيانة، "إن لم يكن من أجلك أنت فمن أجل سمعة العائلة في الأقل". وهنا يعلن غورجي أنه في سبيله إلى كتابة مذكراته التي سيشرح فيها بالوقائع والحقائق الدامغة كل ما حدث، مفسراً لماذا يعتبر نفسه رجلاً واقعياً وسياسياً عملياً، ويعتبر في الوقت نفسه حليفه السابق كوسوت الذي ينظر إليه الجميع بوصفه بطلاً قومياً والمعادي له الآن، والمشيع أنه خائن، يعتبره رجلاً قد وقع في فخ أوهامه غير العملية ومثاليته غير الواقعية.
وضع الأمور في نصابها
ويستطرد غورجي قائلاً "وأنا لن أفعل هذا لتبرير نفسي وما فعلت، ولكن لوضع الأمور في نصابها بدلاً من هذا التخبط العام الذي نعيش فيه الآن وقد انهزمنا جميعاً"، كما يقول إنه سيوضح الآن أنه إنما انطلق يخوض حرب الاستقلال لدافعين اثنين، أولهما خلق نوع من التوازن الواقعي والمنطقي مع أحلام كوسوت المستحيلة من ناحية، ومن ناحية ثانية بغية خوض حرب ضد آل هابسبرغ لم يكن ليتوهم لحظة أن المجريين يمكن أن ينتصروا فيها بل لأمله في أن يتمكن المجريون من أن يفرضوا على الإمبراطور القبول بنوع من تسوية. ومن هنا كما يقول "كانت هوامش التحرك المتاحة لي ضيقة والأهداف محدودة". صحيح أن الهزيمة كانت حتمية ولكن كان المأمول منها أن تحرك الأمور. وهنا إذ أبدى غورجي حزنه وأسفه لأحكام الإعدام وأحكام السجن التي طاولت عدداً من القيادات التي كانت تأتمر بأمره إذ وقعت بين أيدي الهابسبرغيين، ها هو ذا يرفض بشكل قاطع أن ينهي حكايته كلها بالانتحار الذي قد يخلصه الآن من العار. على العكس من هذا فإنه يفضل الآن أن يبقى على قيد الحياة ويواجه أبناء وطنه، معلناً أمامهم أن من أشد الأمور حمقاً وضع الهزيمة كلها على كاهل شخص واحد مهما كانت مسؤولياته ومكانته. ويعد غورجي في النهاية بأنه سيسعى جهده كله إلى جعل أبناء وطنه يتخلون عن الانهزامية والهروب من الواقع، لكي يتوصلوا به أو من دونه وانطلاقاً من مسؤولياتهم نفسها إلى أن يتكونوا في أمة تتسم أول ما تتسم بالواقعية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الكلمة السحرية ومعانيها المتناقضة
والحقيقة أن كلمة "واقعية" هذه يمكن اعتبارها مفتاح الفكرانية التي أراد نيميث من مسرحيته أن تعبر عنها، رافضاً استبدال قومجيي بلده لها بكلمة خيانة. ففي نهاية الأمر من الواضح أن مسرحية "الخائن" تبرر لغورجي ما فعله، تماماً كما يفعل نيميث في مسرحيته الكبيرة الأخرى "غاليليو"، حيث إن السمة الأساسية لشخصية غاليليو تكمن في واقعيته على العكس مما يفعل مثلاً برتولت بريخت في مسرحيته التي تناول فيها هذا العالم الإنساني الكبير من منطلق الثناء على مثاليته وتمجيدها. ونعرف أن تلك الواقعية نفسها هي السمة التي أبرزها نيميث في مسرحيته "موت غاندي"، بل هي التي طبعت أفكاره في كتاباته المسرحية وحياته العلمية، إلى درجة أنه حين حدث خلال الحرب العالمية الثانية أن شكلت طائفة من المثقفين المجريين جبهة لمقارعة النازية رفض الانضمام إليها على رغم عدائه الشديد للنازيين، وهو الذي انتقد ستالين حين عقد اتفاقاً مع هتلر عشية الحرب. وهذا على أية حال ما جعل السلطات المجرية تمنعه من الكتابة والنشر ما إن تسلمت الحكم في بودابست بقرار لم ينته مفعوله إلا في عام 1953 مع موت ستالين نفسه. وكان نيميث البالغ حينها 52 سنة من العمر -فهو من مواليد عام 1901- قد لجأ طوال فترة منعه من الكتابة والنشر إلى العمل مدرساً بديلاً في قرية صغيرة، لكنه منذ رحيل ستالين استعاد مكانته ككاتب وراح يكتب تلك المسرحيات التاريخية التي سيقدم بعضها فوراً ويمنع البعض الآخر، مع أن سلطات بلاده منحته في عام 1957 أرفع جائزة أدبية في البلاد عن مسرحيته "غاليليو" ولكن كذلك عن روايته "إستر إيجيتو".