لم يكتف بول أوستر بروايته الشهيرة "اختراع العزلة" بالتعبير عمّا يعتمل في نفسه، من أفكار وذكريات عن نفسه وعائلته والعالم من حوله، فألحقها بالعديد من روايات مماثلة، تنطوي على نواح أخرى من سيرته الذاتية. ومنها "المفكرة الحمراء" و"يوميات الشتاء" و"تباريح العيش: سيرة الشباب" التي صدرت حديثاً بترجمتها العربية عن دار خطوط وظلال الأردنية ونقلها إلى العربية محمد الفحايم.
وفيما اعتبر بول أوستر رواية "اختراع العزلة" جوهر كل أعماله، فإن "تباريح العيش" سيرة ذاتية لفترة الشباب التي أسست لهذا الجوهر، ومكنته من اختبار تجارب صعبة عاش فيها حياة العوز، طوعاً. وهي أول رواية تنتمي لـ"أدب السيرة" يكون محورها المال. المال كحاجة دائمة مضنية تدفع المرء لخيارات تتعارض مع تطلعاته الأدبية، وإن غذى هذا العوز وتداعياته في حياة بول أوستر، رغبته الجامحة في الكتابة. هو الذي ولد في نيوارك في نواحي نيوجيرسي عام 1947 كأميركي لأبوين يهوديين من بولندا. أدرك أوستر وهو في السادسة عشرة من عمره، أنه يريد أن يكون كاتباً ولا شيء آخر. وعلى رغم أنه عاش في كنف عائلة تنتمي للطبقة الوسطى، فإن المال لعب دوراً فاعلاً في حياة هذه الأسرة، وكان سبباً في شقاق دائم أدى إلى طلاق والديه. فالأب كان بخيلاً- بحسب أوستر في "اختراع العزلة"- والأم كانت مسرفة. وكان أوستر يقف حائراً بينهما.
غضب العائلة
اتهام أوستر لوالده بالبخل - في "اختراع العزلة"- أثار ضده غضب العائلة التي كذبته، وربما هذا ما جعله يفسر في "تباريح العيش" لاحقاً، ما حاول قوله في اختراع العزلة: "لقد ترعرعت في عائلة بورجوازية، وعشت طفولة ميسورة، ولم أعانِ أبداً من أي نقص أو حرمان يزهق غالبية البشر. لكن على رغم اليسر والهناءة اللذين يسودان بيتنا، فإن المال كان موضوع المناقشات والهموم التي لا تنقضي. لقد عاش والداي الأزمة معاً (الأزمة الاقتصادية التي أعقبت الحرب العالمية)، ولم يبرأ أي منهما من هذه الأزمنة العصيبة بصفة نهائية. تركت تجربة العوز آثارها فيهما، وكان كل واحد منهما يحمل جرحها على طريقته. كان أبي مقتصداً وما انفكت ذكرى الفقر تلازمه. أما أمي، فكانت تعشق طقوس الاستهلاك. وكانت على غرار الأميركيين تمارس التسوق بوصفه وسيلة للتعبير".
هل وصل أوستر إلى فهم أنضج مما كان عليه في "اختراع العزلة" فقاده إلى أن يبرر بخل والده كمقتصد للمال لا يخضع للثقافة الاستهلاكية التي تروج لها الرأسمالية، والتي سار وفقها عموم الأميركيين؟ فحين كتب "اختراع العزلة" إثر وفاة والده بنوبة قلبية، كان متأثراً بهذا الموت المفاجئ، ويحاول أن يفكك طلاسم حياته والخيارات التي دُفع إليها. وبخاصة سعيه منذ الطفولة الى أن يستقل مادياً، كي يروض ذاته على نبذ القيم الرأسمالية التي تروج للتبعية، ولعبودية غير مباشرة لهذه الرأسمالية. لكنه في الآن عينه كان يعجبه إسراف أمه على مقتنيات وأغراض تعتبرها ضرورية للتمظهر الاجتماعي. لكن ما إن تقتنيها حتى يخف بريق الرغبة بها، مهما بدت سعيدة باقتنائها.
حياة العوز
اختار بول أوستر حياة العوز على رغم حاجته الدائمة للمال وطمأنينة العيش بحسب رواية "تباريح العيش". فهو لم ير في عالم المال والأعمال ما يجذبه. بل كان يجده مملاً وغير قادر على تحمل ساعات الدوام من الصباح حتى المساء. ويرى في الأعمال اليدوية الحرة ملاذاً، مثل كنس ثلوج الطرق من أمام منازل الجيران، لقاء أجر زهيد، والعمل على ظهر سفينة، كما الترجمة والكتابة لاحقاً كفعل فكري إبداعي راق أكثر متعة، أو درباً لاكتشاف الذات والآخر، بعيداً من حسابات مادية صرفة، على رغم اختصاصه في جامعة كولومبيا بالأدب. تلك الحياة العبثية سمحت له بالمرور بتجارب عصيبة وأخرى شيقة. كما سمحت له بالتعرف إلى شخصيات من نوعيات ومشارب متنافرة، أثرت في حياته. سواء كانوا من المشاهير أو من الكتاب أو العاملين في مجال الأدب والسينما أو شخصيات من قاع المجتمع.
كانت حياة العوز هذه أشبه بسفر بين مدن وقارات مختلفة. ودفعته لدخول مساومات مبتذلة قد يتمنع أي كاتب لسيرته الذاتية عن ذكرها. فكثيراً ما يجنح كاتبو وكاتبات السير الذاتية إلى الانتقاء، كي يحموا أنفسهم أو أقاربهم وزوجاتهم وأزواجهن من لغط مدمر أو محرج، قد يتأتى من السيرة على شكل فضيحة. فكل سيرة ذاتية لا بد لها أن تسرد ليس التاريخ الشخصي لكاتبها أو كاتبتها فقط، بل أيضاً تاريخ أولئك الأشخاص الذين يدورون في فلكهم/ن. وأيضاً الأماكن التي كانت محور أحداث حياتهم/ن. كما الأحداث العامة والخاصة وتأثيرها في تجاربهم/ن، وتطور شخصياتهم/ن، أو استنباط أفكار من وقع هذه التجارب التي تحاك مثلاً في أدب بول أوستر، وتُحْبك، لتعّبر عن اهتماماته. وفيها طرح إشكاليات وجودية وتساؤلات عن الهوية والانتماء، فضلاً عن إشكالية الحياة العبثية التي يتزعزع تحت وطأتها العالم كله وليس الولايات المتحدة الأميركية.
وهو اختار أن يتذوق شيئاً من عذاباتها ومفارقاتها وغرائبها. إضافة إلى كل هذا لعبت المصادفة، كما تجسدت في روايته "موسيقى الصدفة" حيزاً مهماً في أدب أوستر. بخاصة في كتبه في السيرة الذاتية كجنس أدبي يقارب الرواية، والتي أسماها لاحقاً "غير المتوقع" من فرط ما أسيء فهم ثيمة المصادفة في رواياته. تلك التي اتخذت تقنيات الأسلوب البوليسي حبكة لها (كما في" ثلاثية نيويورك") لتتفحص أثر الأحداث غير المتوقعة أو المصادفات في تغيير مجرى حياة المرء أو الأسر. وكان الموت هو أكثر ما عنى له، بخاصة بعد ميتة والده المفاجئة، وفقدانه للعديد من الأصدقاء، المقربين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دور السيرة الذاتية
في نظر بول أوستر كانت روايته "تباريح العيش" نوعاً من سيرة ذاتية وتجارب مبكرة أسست لما صار عليه لاحقاً. وفي مقابلة مع "الغارديان" البريطانية، بيّن أوستر الدور الكبير الذي تلعبه السير الذاتية في حياة القراء. إنها رحلة استكشاف للذات وليست استعراضاً لها على الملأ. يتعرف من خلالها الكاتب إلى ما آل إليه، لا سيما حين تفيض بأحداث وذكريات منسية أو تكاد. أما الروايات التخييلية وأبرزها رواية "4321"، فهي خيال محض بحسب ما صرّح في مقابلة أجرتها معه "الغارديان" أيضاً. فلا يتسرب إليها من دفق سيرته سوى شيء يسير. لكن متعة الكتابة فيها تتيح له عيش حياة أخرى مع شخصياته المتخيلة هي أكثر إثارة من العيش مع شخصيات واقعية، حين يتعلق الأمر بالسيرة الذاتية. ولذا كان اختياره لأربع شخصيات متخيلة تحمل اسم "فيرغسون" تتجاور في الرواية، لكنها تعيش حيوات مختلفة تماماً وتالياً مصائر مغايرة تبعاً لتخيل أوستر لها.
على رغم ذلك نلمس في "تباريح العيش" سيرة شاب يعيش تجارب متنوعة وخيارات جامحة لا يخجل من سردها. وهو بذلك قد يشبه أياً منا في بعض هذه التجارب. فهي تمسنا في العمق، ببلاغة السرد واللغة التي اشتهر بها أوستر وجعلته من ألمع أدباء الولايات المتحدة المعاصرين. ليس فقط في أصالة أدب السيرة الذي كان غزيراً في تناوله في كتب عدة، بل لتعدد مهاراته ومواهبه، إن في الشعر والمقالة الصحافية أم في الترجمة التي ورثها عن خاله، أو ربما دفعته حياة العوز لاحترافها. فهو يعترف أنها كانت أشبه بمصدر رزق له ولزوجته - لسنوات طوال- أثناء عيشهما في فرنسا، حيث تعرف هناك إلى ألمع الشعراء في فرنسا، وتأثر بالحياة الأدبية التي عاشها في باريس. فضلاً عن تجارب له في السينما ككاتب سيناريو ومساعد مخرج وسياسي إنسانوي مقارع للعنصرية، جنباً إلى جنب مع رقة في اللغة السردية هي أقرب للشعر منها للنثر.
حملت رواية السيرة عند أوستر موضوعاً لها في كل مرة، وإن تكررت الثيمات حين يتعلق الموضوع بأسئلة الهوية وزيف الديمقراطية وتوحش الرأسمالية، من خلال ما خبره شخصياً أو اطلع عليه.
يبقى أن رواية "تباريح العيش" هي انكشاف جسور للذات أمام القراء وأمام الذات، يلتقط فيها أوستر لحظات العوز الأكثر إذلالاً التي يشترك في سطوتها على مشاعره، مع ملايين البشر ماضياً وحاضراً وتستمر مستقبلاً.
إن الخوض في عالم بول أوستر، وفي تباريح عيشه مغامرة بحد ذاتها لما قد تنطوي عليه من عجز عن الإحاطة بكل تلافيف إنتاجه الأدبي. ليس بسبب غزارة إنتاجه وتنوع أجناس الكتابة لديه، بل لأصالة جرأته على البوح كطريق للوصول إلى الذات والآخر، على رغم وعورة المسير.