ولت أيام كان يطلب فيها من الطلاب والموظفين والمسافرين أن يملأوا أوراقاً رسمية يحددون فيها "جنسهم"، وكان الخياران الوحيدان هما: ذكر أو أنثى. وهذا الزمن لم يمض بسبب اندثار العصر الورقي وبزوغ العصر الرقمي فقط، ولكنه مضى بقرب زوال عصر "الجنس"، حيث حل "الجندر" محله على نطاق واسع باستثناءات ثقافية معدودة، كما تعددت الاختيارات والانتماءات حتى صار خيارا الذكر والأنثى نموذجاً لزمن فات.
فات وقت الاعتماد الأوحد على الفروق البيولوجية بين الذكور والإناث لتحديد هوية الشخص. وعلى رغم أن مناطق أو دولاً بعينها في العالم ما زالت تعتمد تصنيف "جنس" في أوراقها الرسمية ومفاهيمها الثقافية، فإن الاتجاه العام العالمي الجارف سار منذ سنوات طويلة في اتجاه الـ"جندر".
التعريفات المربكة
تعريفات الجندر كثيرة ومربكة، وغالباً يتم الترويج لها باعتبارها وثيقة الصلة بالسياسة والعدالة والحقوق، لكن التعريف الأشمل هو أن الجندر بنية اجتماعية قائمة على أفكار يضعها البشر لتعريف الأدوار التي يقوم بها كل شخص في أسرته ومجتمعه ومحيطه. وهذه الأدوار تسهم في تشكيل علاقة الشخص بما حوله ومن حوله. وتعريف الجندر يختلف باختلاف الثقافات والمجتمعات.
تجدر الإشارة إلى أن المجتمعات المتمسكة بالتصنيفات التقليدية، لكن التي تبنت مصطلح "الجندر" اختياراً أو اضطراراً تستخدم في الأغلب "جندر" بمعنى الجنس، ولكن بتصرف.
التصرف "السليم" حين يعود طفل عربي من مدرسته الأجنبية في المدينة العربية التي ولد فيها والمجتمع العربي الذي ينشأ فيه ويسأل والده أو والدته عن "الجندر" الذي ينتمي إليه، بناءً على ما ذكره المعلم الذي قد يكون عربياً أو غير عربي في حصة التاريخ، غاب عن الأهل، لكنه لم يغب عن معلم التربية الدينية في المدرسة نفسها الذي نما إلى مسامعه نقاش معلم التاريخ، فلم يتوان عن صب اللعنات على الكلمة ومعناها وما تمثله وما ترمز إليه وما الهدف من تعميم استخدامها، حيث المؤامرة الكونية على الإسلام والمسلمين والدول العربية، بحسب ما أكد للصغار.
الغالبية في حيرة
لكن الصغار في مجتمعات عدة، وعلى رأسها المجتمعات العربية، ما زالوا، وسيظلون، مع ذويهم في حيرة من أمرهم. فعلى رغم مرور عقود طويلة منذ اعتنق المجتمع الدولي لفظ "جندر" وما تبعه من تحولات كبرى في مسألة النوع والانتماءات الجنسية المختلفة ودرجات قبولها ورفضها المختلفة، فإن طبيعة العصر وأدواته جعلت من مفاهيم الجندر والانتماءات الجنسية متاحة للجميع أو بالأحرى معروضة على الجميع حتى لغير الباحثين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
البحث عن أصل بزوغ شمس "الجندر" على حساب أفول "الجنس" يؤدي إلى عديد من الكتابات والتأريخات والتعريفات. قاموس "أكسفورد" يشير إلى أن أصول الكلمة تعود إلى عام 1300، وهي مشتقة من كلمة (Gendre) أو (Genre) الفرنسية، وتعني نوعاً أو فئة أو طبقة أو نوعية معينة من الأشخاص أو الأشياء التي تشترك في سمات محددة، أو أشخاص ينتمون لأسرة معينة أو عرق أو أصل أو مكانة ما.
لكن استخدام الكلمة تطور وتغير وأصبح معناها في المعاجم حالياً يدور في إطار "أحد الجنسين الإناث والذكور"، لا سيما حين تستخدم للإشارة إلى الفروق الاجتماعية والثقافية أكثر من البيولوجية، كما باتت كلمة "جندر" تستخدم لتعني طيفاً كبيراً من الهويات التي لا تتطابق والأفكار السائدة عن الذكور والإناث، بناءً على جنس الشخص ظاهرياً.
وتمضي أدبيات الجندر لتخبرنا أن الهوية الجندرية تتعلق بالإدراك الذاتي، وكيف يرى كل شخص نفسه أمام نفسه وليس أمام العالم الخارجي. وقد يختلف جنس الشخص، أو بمعنى أدق قد تختلف أعضاء الشخص التناسلية التي ولد بها عن هويته الجندرية، فيكون "عابراً جنسياً" أو "غير متوافق جندرياً" أو "ثنائي" والقائمة تطول.
التخلص من الجنس
طول القائمة مربك عربياً. وعلى رغم الحدود التي لم تعد موجودة، والقيود التي لم تعد محكمة، والأثير الذي بات مفتوحاً على مصراعيه، فإن التعامل العربي مع بيئة عالمية تميل إلى التخلص من "الجنس" لحساب "الجندر" لا يخرج غالباً عن الاختباء أو الإنكار أو التجاهل وفي أحسن الأحوال الإشارة إلى ما يجري باعتباره أشياء لا علاقة لنا بها أو تحللاً غربياً أخلاقياً نخاصمه ولا نتحدث معه أو عنه.
اللجوء إلى المنظمات الأممية محاولة للعثور على إجابات لمن يسأل من الصغار، ومن هو مستعد للإجابة يؤدي إلى نتائج مبهمة غالباً. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يذكر موقع منظمة الصحة العالمية تحت عنوان "الجندر والنساء والصحة" أنه يصعب أحياناً فهم المقصود تماماً بلفظ "جندر" وكيف يختلف عن لفظ "جنس" وثيق الصلة. "جنس" يشير إلى الفروق البيولوجية والفسيولوجية المحددة للرجال والنساء. أما الجندر فيشير إلى الأدوار والتصرفات والأنشطة والسمات التي يصنعها المجتمع ويعتبرها مناسبة للرجال والنساء.
ويشير الموقع المتاح بعدد من اللغات ليست العربية من بينها إلى أن الذكر والأنثى فئتان تتعلقان بالجنس. أما المذكر والمؤنث ففئتان تتعلقان بالجندر. وبينما الجوانب المتعلقة بالجنس لا تختلف كثيراً بين المجتمعات وبعضها البعض، فإن الجوانب المتعلقة بالجندر شديدة الاختلاف.
وتذكر منظمة الصحة العالمية بعض الخصائص المتعلقة بالجنس مثل: الدورة الشهرية حكر على النساء من دون الرجال، أما الخصيتان فحكر على الرجال من دون النساء. والنساء لديهن أثداء تكون عادة قادرة على الإرضاع وهو ما لا يمتلكه الرجال. والرجال عادة لديهم بنية عظمية أكبر من عظام النساء.
أما الخصائص المتعلقة بالجندر فبينها مثلاً: أن النساء في الولايات المتحدة الأميركية يتقاضين رواتب أقل من الرجال الذين يقومون بالوظيفة نفسها، وفي فيتنام ترتفع نسب التدخين بين الرجال أكثر من النساء، حيث ما زال تدخين المرأة أمراً مستهجناً.
"مؤامرة لفرض مفهوم الجندر المستهجن في العالم العربي"، و"أموال طائلة تنفقها جهات عدة لطمس الحدود الفاصلة بين النساء والرجال في العالم الإسلامي"، و"مصطلح الجندر مصمم خصيصاً لهدم العالم الإسلامي"، و"الجندر عدو الإنسان"، و"الجندر خصيم الإسلام"، و"مفاهيم الجندر المغلوطة من ملكية الجسد إلى التطبيع مع الشذوذ"، و"معركة الجندر الحالية أحدث ألغام النسويات وإنصاف الرجال"، وقائمة العناوين العربية كثيرة.
صخب بلا جدوى
لكن هناك عناوين أخرى بدأت تطل برأسها على استحياء. فشن الحروب الكلامية أو الأيديولوجية أو الثقافية أو حتى الدينية على مفاهيم أو أفكار بعينها عادة يحدث صخباً ويؤجج الغضب ويهيج المشاعر، لكنه لا يجيب عن سؤال الصغير العائد من المدرسة والمستفسر عن مسألة الجندر وأدواره والفروق والخلافات والاختلافات.
كذلك الحال فيما يختص بجهود باحثين يركزون جل الجهد على تفنيد أصل منظومة الجندر والتشكيك في وجود حدود فاصلة بين أدوار الأنثى والذكر وغيرها، حيث تقف هذه الجهود عاجزة أو متجاهلة أسئلة الصغار والبيئة المختلفة التي يكبرون فيها والحاضنة لكل أدوات المعرفة والاطلاع. فمثلاً أسفر بحث "معمق" أجراه مركز عربي للدراسات عن النتائج التالية.
ربط البحث منظومة الجندر بالحركات النسوية في العالم الغربي. وحذر من المحاولات المستمرة للحركات النسوية في العالم الإسلامي اقتفاء أثر والاقتداء بتلك الحركات والأفكار الغربية. وحدد البحث أهم التحديات التي تواجه المرأة المسلمة في العالم العربي في: سيطرة روح المادية الحديثة والرغبة في محاكاة النسوية الغربية والابتعاد عن التعاليم الدينية، والتعامل مع المرأة بمنأى عن التعاليم الدينية، وثورة المعلومات وإساءة استخدام منصات التواصل الاجتماعي، وتسليط الضوء على الحركات النسوية المتأثرة بالغرب، لا سيما أنها المسيطرة على الإعلام، وهو الأمر الذي تفتقده "الحركات النسوية المؤمنة".
الحركات المؤمنة وغير المؤمنة وتلك التي لا تخضع للتصنيف الإيماني لا تقدم كثيراً للأسر العربية فيما يختص بالتعامل مع الصغار وأسئلتهم، وهي الأسئلة التي غالباً تتزامن أو تسبق عمليات البحث التي يقومون بها على أثير الإنترنت بحثاً عما تعثر عليهم فهمه أو تعثر على الأهل شرحه والإجابة عنه.
إحدى الإجابات المنطقية القليلة والمعتمدة على قدر من المنطق يقدمها الكاتب والإعلامي وأستاذ الإعلام في جامعة حلوان محمد فتحي الذي يتناول مسائل مثل تناول القضايا المتعلقة بالمثلية بين الأطفال في المجتمعات العربية. فتحي أصدر مطبوعات عدة موجهة للأطفال حول المثلية وما هو "طبيعي" وما هو "غير طبيعي" مصنفة بحسب الفئة العمرية.
بلون قوس قزح
يعد فتحي ضمن القليلين جداً الذين تجرأوا على تناول المثلية بشكل مباشر من دون تعليق المقاصل أو إشهار كفر وفسق من يتحدث عنها أو يفكر فيها أو يمارسها.
في مقال كتبه لمجلة "صوت الأزهر" تحت عنوان "ماذا بعد الغضب؟"، يقول فتحي إن "الممارسات الجنسية داخل الجنس نفسه حرام، هذا ما ندركه ونؤمن به إيماناً قاطعاً، لكن هناك مثليين في هذا العالم الذي نحيا فيه، هذا أيضاً واقع".
وبينما يشير إلى الحدود بين الدول والثقافات التي تبددت بفعل الإنترنت والثورة الرقمية، وإتاحة المعلومات دون قيود، يقول أيضاً إن جده كان دائماً يردد "إننا نحب العاصي ونكره المعاصي".
التعامل مع الميول الجنسية المختلفة خارج إطار الذكر والأنثى وكذلك اختلاط أو تحييد الجندر والأدوار الاجتماعية يعتبرها بعض الناس معاصي، وآخرون يرونها أموراً طبيعية وشكلاً من أشكال التطور. يقبلها بعضهم ويروج لها ويعتبرها حقوقاً، ويرفضها الآخرون ويحاربونها كالجرائم.
لكن واقع الحال يعود ليفرض نفسه معلناً أننا نعيش في عالم منزوع الحدود مفتوح السماوات عابر للثقافات والأعراف والعادات والتقاليد. ماذا تفعل الأسرة العربية التي تهاجر إلى دولة تعتنق مبدأ "المساواة بين كل أنواع الجندر نساءً ورجالاً ومتحولين ومتعددين وثنائيين؟ وكيف تفرض رقابة طيلة 24 ساعة على ما يشاهده ويقرؤه ويسمعه الصغير عبر الشاشات التي لا يتحرك من دونها؟ وكيف تجيب عن أسئلته التي لم تطرأ على ذهنك بناءً على ما شاهد على (نتفليكس) أو (ديزني) أو غيرهما بل لما سمعه من المعلم في المدرسة مثلاً؟".
أغلب الظن أن الطفل العربي - الملتحق بالمدارس الرسمية على الأقل - لن يتسلم كتاباً مكتوباً فيه "أبي يطهو الطعام وينظف البيت ويرعى أخي الصغير، وأمل تعمل في الحقل"، ولن يطلب منه في المستقبل القريب كتابة موضوع تعبير عن "أمل التي تلعب الكرة وعمر الذي يساعد أبيه في أعمال البيت"، لكن أغلب الظن أيضاً أن الأطفال العرب لا ولن يعيشوا في مجتمعات مغلقة على العادات العربية والتقاليد الدينية والثقافة ذات الخصوصية.
الطبيعي وغير الطبيعي
هنا يأتي دور تناول مثل هذه الأسئلة بطريقة تناسب العصر ولا تخاصمه. يقول الكاتب والإعلامي محمد فتحي لـ"اندبندنت عربية" إن الطريقة المثلي لتناول مسائل كهذه مع الأطفال وأبرزها اختلاط أدوار الجندر ومحاولات طمسها هو الدق على أوتار الطبيعي وغير الطبيعي، مشيراً إلى أن ما يتعرض له الطفل في تطبيقات مشاهدة وأفلام وبرامج ومعلومات فيها نوع من الاعتداء على وعي الطفل وحشو عقله بمعلومات بعينها وتوصيفها باعتبارها طبيعية.
ويضيف أن "المشكلة الرئيسة هنا أن الطفل ليس في مرحلة عمرية تمكنه بين التمييز بين الصحيح والخطأ، أو المقبول وغير المقبول، لذلك يأتي دور الأسرة في التأكيد دائماً على الطبيعي وغير الطبيعي من دون ترهيب أو تخويف أو تهديد".
ويشير فتحي إلى لهجة الترهيب التي يلجأ إليها كل من الإعلام التقليدي والخطاب الديني، وهي حفرة عميقة لا جدوى منها. تخويف الطفل لا يعني أنه سيمنع نفسه من التفكير أو يتوقف عن البحث أو ينأى بنفسه عن سؤال أهله أو معلميه أسئلة تشغل باله. قد يتوقف عن السؤال، لكنه لن يتوقف عن البحث. وقد يصمت ويهز رأسه بالإيجاب بينما دواخل رأسه تدور في مناطق أخرى تماماً".
يشير فتحي إلى أن التركيز على الطبيعي وغير الطبيعي يؤهل الطفل في مرحلة عمرية أكبر يكون فيها أكثر قدرة على التمييز للبناء على هذه التفرقة. ويقول "لن أجبره على فكرة معينة، لكن سأعمل على ضبط المصنع، أي ضبط الوعي الفطري".
وعن الاكتفاء بالدق على أوتار الوازع الديني عبر التحذير من الحرام وغيره، يقول فتحي إن كثيراً من الأهل يكتفي بالحديث عن موقف الدين من تلك المسائل معتقدين إنهم بذلك قاموا بدورهم، لكن علينا التيقن من أن الدين وحده في هذه المرحلة ليس مقنعاً لعقول الصغار التي يعتريها حب الاستطلاع والبحث الدائم عن إجابات منطقية تعتمد على إعمال العقل.