لم يتوقف نزف الدم العراقي منذ الغزو الأميركي للبلاد وحتى الآن، إذ يستمر عداد الضحايا بالتزايد ويجري مسلسل القتل على قدم وساق بالتزامن سياسة الإفلات من العقاب التي باتت تمثل السمة الرئيسة لنظام ما بعد 2003، مخلفة مئات الآلاف من الضحايا خلال العقدين الأخيرين.
ولعدم وجود قاعدة بيانات رسمية لإحصاء الضحايا العراقيين منذ عام 2003 وحتى الآن، تلجأ المنظمات الدولية والمحلية إلى وسائل التقصي للحصول على أعداد تقريبية وصلت بحسب إحصاء أجراه موقع "ضحايا حرب العراق" إلى حدود 288 ألف شخص منذ تلك السنة.
وبحسب الإحصاءات فإن حوادث القتل تصاعدت خلال الأعوام التي تلت الغزو الأميركي لتسجل أعلى مستوى لها عام 2006 بحدود 30 ألف قتيل ونحو 26 ألفاً خلال 2007، وهي الأعوام التي شهدت تصاعد الصراع الطائفي.
سيناريوهات مختلفة للموت
وعلى رغم انتهاء حقبة التصعيد الطائفي عام 2008 بعمليات عسكرية واسعة اشتركت فيها القوات الأميركية مع الجيش العراقي بالضد من الجماعات المسلحة، أطلق عليها عمليات "صولة الفرسان" إبان فترة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، إلا أن مسلسل الموت المجاني في البلاد لم يتوقف حتى بعد تلك العمليات، لكن أعداد الضحايا بدأت بالتراجع خلال الأعوام من 2009 إلى 2012.
ولم تمض سوى أعوام قليلة على انتهاء حقبة الصراع الطائفي حتى أعاد المالكي تلك الأجواء مرة أخرى إلى الواجهة من خلال الاعتماد على خطاب التصعيد الطائفي واستهداف المدن السنيّة وقمع أي احتجاجات تظهر بالضد من سياساته، مما أدى إلى تصاعد مستوى الضحايا مرة أخرى في العام 2013 إلى حدود 10 آلاف، بحسب الموقع.
وفي العام 2014 قفز مستوى الضحايا إلى أكثر من 20 ألفاً نتيجة احتلال تنظيم "داعش" ثلث الأراضي العراقية وقيامه بعمليات قتل طائفية واسعة، وبدء حقبة جديدة من الصراع أودت بحياة آلاف من الضحايا خلال سنوات سيطرة التنظيم (2014 - 2018).
وعلى رغم تراجع أعداد الضحايا مرة أخرى خلال السنوات التي تلت تحرير الأراضي العراقية من سيطرة التنظيم الإرهابي، فإن موجات العنف وعمليات الاغتيال الممنهجة واستهداف القوات العسكرية والميليشيات لمدنيين عراقيين لم تتوقف.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2019 عاد مستوى الضحايا في العراق إلى التصاعد مرة أخرى نتيجة تظاهرات عمت معظم المدن العراقية مطالبة بإنهاء النفوذ الإيراني المتصاعد في البلاد، ومحاسبة الفاسدين وحصر السلاح بيد الدولة، إضافة إلى عدد من المطالب الأخرى، مما أدى إلى عمليات قمع واسعة مارستها قوات حكومية مسنودة بميليشيات مسلحة موالية لطهران، وهو ما خلف نحو 800 قتيل وأكثر من 28 ألف جريح.
مغيبون ومقابر جماعية
استخدم النظام السياسي في العراق بعد عام 2003 المقابر الجماعية التي حصلت خلال فترة حكم نظام صدام حسين لتجريم تلك الحقبة الدموية، وتحدث رعاة النظام الجديد خلال أكثر من مناسبة عن أن غاية هذا النظام هي إرساء العدالة، لكنه سرعان ما غرق في أتون حروب طائفية وصناعة عدد من الميليشيات التي أدت بالنهاية إلى حقبة ضحايا جدد ومقابر جماعية مرة أخرى بأشكال مختلفة.
ولا تتوقف عمليات القتل في العراق عند حدود الجرائم الإرهابية وقمع التظاهرات أو عمليات التطهير الطائفي، بل تتعدى ذلك إلى عمليات اغتيال ممنهجة تقوم بها جماعات مسلحة موالية لإيران بغطاء سياسي يعوق محاسبتها، بحسب مراقبين.
وبالتوازي مع المطالبات بمحاسبة القتلة يبرز ملف المغيبين من أبناء المناطق السنيّة، إذ تتحدث شخصيات وكتل سياسية سنيّة عن أكثر من 12 ألف مغيب من أبناء محافظات ديالي والأنبار وصلاح الدين ونينوى وكركوك، فضلاً عن مناطق حزام بغداد، وفي المقابل لم يتم حسم هذا الملف حتى الآن على رغم تعاقب حكومات عدة خلال السنوات الماضية.
وعلى رغم التصريحات الكثيرة لقيادات سنيّة بخصوص هذا الملف، فإن أحداً منهم لم يجرؤ على الإشارة المباشرة إلى الميليشيات المتورطة فيه، لا سيما مع حديث العديد منهم عن معرفتهم بتلك الأطراف.
وكانت مفوضية حقوق الإنسان في العراق قد صرحت في مايو (أيار) 2020 أن عدد الشكاوى بخصوص المغيبين بلغ 8615 منذ بداية عام 2017، في حين وصل عدد من كشف عن مصيرهم إلى نحو 125 حالة فقط توفي بعضهم داخل السجون.
ولم يكن إقليم كردستان في العراق بمعزل عن عمليات القمع تلك، إذ شهدت الحركات الاحتجاجية موجات قمع هي الأخرى خلفت عشرات القتلى ومئات الجرحى، إضافة إلى ظاهرة اغتيال الصحافيين في الإقليم مع عدم محاسبة المتورطين في عمليات القمع تلك.
مساحات دموية جديدة
ومع تصاعد مناسيب التفاؤل في الشارع العراقي بعد انتصار قوات الأمن على تنظيم "داعش" والأمل في نهاية فصل نزف الدم المستمر، إلا أن تضخم الأذرع الإيرانية في البلاد حول بوصلة الصراع إلى مساحات دموية أخرى.
ويحمّل العراقيون مسؤولية عمليات القتل للنظام السياسي بشكل عام، إذ أسهم بترسيخ فكرة الإفلات من العقاب، ويرى مراقبون أن الأجنحة المسلحة للأحزاب السياسية كانت الوسيلة الرئيسة لسيطرة تلك الأحزاب على منافذ الاقتصاد والسياسة في البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الكاتب والباحث مصطفى ناصر قال إن "النظام المشوه الذي أنشئ من دون أدوات الضغط والرقابة الشعبية هو من يتحمل مسؤولية مسلسل القتل والتنكيل المتواصل في العراق".
وعلى رغم حديث أركان النظام السياسي بعد عام 2003 عن "خلق عدالة انتقالية لما بعد النظام الديكتاتوري"، تشير سلسلة الأحداث الأمنية والسياسية وصياغة النظام بطريقة طائفية ومحاصصية إلى غير ذلك.
ويرى ناصر أن الطريقة التي قام عليها النظام العراقي الحالي "لا يمكن أن تنتهي إلا بما نراه اليوم من غياب للعدالة واستمرار لعمليات القتل من دون حساب"، مشيراً إلى أن النظام السياسي صنع قوانين لمحاسبة القتلة من البعثيين "لكنه لم يعمل بها وراح نحو عمليات الثأر المباشرة التي تشبه الثأر القبلي البدائي".
زعامات متورطة
ولعل استمرار حقبة عمليات "الثأر وغياب العدالة وسيطرة المسلحين على السياسة" لفترة طويلة أدى بشكل مباشر إلى ترسيخها كسمة مصاحبة للنظام، وهو ما يعوق تفعيل العدالة والقصاص من القتلة مما أدى إلى سيادة مرحلة طويلة من الإفلات من العقاب.
وأشار ناصر إلى أنه خلال السنوات الأولى لإنشاء نظام ما بعد الغزو الأميركي ساد اعتقاد لدى العراقيين بأن ما يجري من صراع طائفي هو "مرحلة انتقالية تغط في نفق الفوضى وسرعان ما تنتهي"، موضحاً أن "الإشكال ارتبط بكون أرباب هذا النظام أخذوا المسار نحو الهاوية، فكانوا يظهرون في العلن مؤيدين لقوانين العدالة الانتقالية لكنهم في السر أدوات العنف الطائفي والثأر السياسي".
ولفت إلى أن "تورط الزعامات والأحزاب في العنف الطائفي كان السبب الرئيس خلف تجاهل وإخفاء ملف إنهاء الإفلات من العقاب، لأنه سيعود على أتباعهم بالسجن والإعدام وفق القوانين العراقية".
وعلى رغم التعريف الصريح للجماعات المسلحة السنيّة بالإرهاب كتنظيمي "داعش" و"القاعدة"، يكتفي صانعو القرار السياسي في العراق بتوصيفات من قبيل "جماعات خارجة عن القانون" على الميليشيات المدعومة من إيران من دون الإشارة الصريحة إليها.
ويرى ناصر أن هذا الأمر يعود لأن المجتمع الدولي "لم يجرم السلاح الشيعي، لأنه لا يرى خطورة دولية في وجوده حتى الآن"، مبيناً أن "خطورته تكمن في البلدان غير المستقرة والضعيفة التي تدور في رحاها الصراعات الدولية والإقليمية، سواء جيوسياسياً أو مالياً أو اقتصادياً".
ويرجح أن يعلن المجتمع الدولي تجريمه تلك الميليشيات وإدراجها ضمن قوائم الإرهاب بشكل تدريجي، لافتاً إلى أن هذا الأمر "لن يعني أن خطورتها ستكون بموازاة خطورة تنظيم داعش، وإنما المنحنيات الجيوسياسية الماثلة حالياً على هامش الصراع الروسي الدولي ستؤدي إلى هذا النمط من التجريم الدولي".
إعاقة نظام العدالة
وفي المقابل يرى أستاذ العلوم السياسية هيثم الهيتي أن عمليات القتل المستمرة منذ عام 2003 وحتى الآن تمثل "أداة السقي لنبتة الفساد وأركان النظام السياسي بشكل عام"، مبيناً أن هذا الأمر تدركه الأطراف السياسية الرئيسة وهو ما جعلها تتمسك بـ "القتل كأداة لإسكات الرأي العام العراقي".
وأشار الهيتي إلى أن الارتباط الوثيق بين استمرار النظام السياسي وسياسة الإفلات من العقاب هو ما جعل الأطراف الرئيسة داخل منظومة الحكم "لا تتوقف عند حدود القتل، بل تجاوزت ذلك إلى إعاقة نظام العدالة وإفساد الأدوات القضائية أو الضغط عليها".
وأضاف أن الأخطار باتت تتعاظم يوماً بعد آخر، خصوصاً مع "يقين أركان النظام الرئيسة أن تحقيق العدالة يعني إنهاء وجودها السياسي على أقل تقدير".
ومع ارتكاز الدعاية السياسية لنظام ما بعد الغزو الأميركي على محاولة إقناع الشيعة بأن ثمة تحولاً لمصلحتهم، كما يعبر الهيتي، إلا أنها لم تدم طويلاً "وسرعان ما تراجع تأثيرها في الأوساط الشيعية لأنها أضرت بهم".
وقال الهيتي إن إدراك المجتمعات الشيعية لخطر استمرار منهجية الحكم تلك أدى في النهاية إلى تصاعد الخطاب الوطني في مقابل الترويج الدعائي للميليشيات الموالية لإيران، وهو ما تجلى بشكل واضح خلال احتجاجات عام 2019.
ولفت إلى أن هذا المسار "دفع مساحة الصراع إلى منطقة أخرى بين ما هو وطني وما هو موال لإيران، مما حفز تلك الميليشيات على القيام بعمليات استهداف دموية وممنهجة".
الميليشيات عماد النظام السياسي
الكاتب والصحافي رضا الشمري قال إن تكوين الميليشيات المسلحة في العراق "أثبت في النهاية أنه الوسيلة الأكثر قدرة على تمكين أي طرف سياسي من الوصول إلى السلطة".
وبيّن الشمري أن تشكلات النظام السياسي على هذا النسق كانت السبب الرئيس في عدد الضحايا الكبير منذ عام 2003 وحتى الآن، مضيفاً "لعل إدراك الجماعات السياسية بارتباط تمثيلها السياسي بحجم وقوة المسلحين الذين تمتلكهم أدى إلى "صياغة العديد من المفارقات في الواقع العراقي"، مشيراً إلى أن أبرز تلك المفارقات هي أن الدولة باتت "أداة لقمع أي مواطن يعترض على عدم تفعيل القانون ضد القتلة".
ويعتقد الشمري أن ما حفز تلك الجماعات على "التغول بشكل أكبر خلال السنوات الماضية يرتبط أيضاً بقدرتها على تغييب الأدوار القضائية القادرة على تثبيط أو محاسبة القتلة"، لافتاً إلى أن السلطات القضائية هي الأخرى باتت "تضطلع بأدوار تعزز سطوة المسلحين على حساب القانون، لأنهم يمثلون أطرافاً رئيسة داخل السلطة".
ولفت إلى أن الهدوء النسبي الذي تعيشه البلاد خلال الفترة الحالية "يعود لانشغال الجماعات المسلحة في ما بينها بصراعات بينية حول السلطة".
وفيما يستمر عداد الضحايا بالتصاعد كل يوم، ينخفض منسوب الأمل لدى العراقيين في الخلاص من حقب الحروب والصراعات التي كانت عنواناً رئيساً للأنظمة السياسية في البلاد منذ عقود طويلة.