ما زلت أرى أمامي تلك الفتاتين الصغيرتين اللتين تبلغان من العمر ست سنوات ونيف، وهما تحاولان جلب الماء في وعاء متسخ. كانتا تقومان بتعبئة صفيحة تتسع لـ20 ليتراً من شأنها أن توازيهما ثقلاً لدى امتلائها، لتقوما بعدئذ بدفعها إلى المنزل لمسافة تزيد على كيلومتر، وتسيران في طرق تعج بجيف ماشية متعفنة نفقت بسبب افتقارها للمراعي والماء.
ما رأيته قد لا يعدو كونه أكثر من مجرد مشهد طالعني كزائرة لمقاطعة إيسيولو في شمال كينيا، في حين أنه يشكل واقعاً يومياً لعدد من مجتمعات القارة الأفريقية.
وتعاني مناطق شمال كينيا أزمة جفاف حادة وطويلة الأمد في الوقت الراهن، ناهيك عن انعدام هطول الأمطار فيها منذ أكثر من عامين، الأمر الذي أدى إلى إلحاق ضرر كامل بالأسر نتيجة فقدانها ماشيتها. فأحد المنازل الذي زرته كان لدى أفراده قبل حلول الجفاف، قطيع من نحو 50 رأس ماشية، و30 ماعزاً، لكن الآن لم تتبق له سوى بقرتين ومعزاة واحدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه المجتمعات الريفية تعتمد على رعاية حيواناتها التي تشكل مصدر دخل رئيساً لها لتوفير قوتها اليومي، واصطحاب أطفالها إلى المدارس، وشراء المياه التي أصبحت سلعة نادرة وباهظة الكلفة.
في ظروف مماثلة، تصبح النساء والأطفال تحديداً الحلقة الأضعف والأكثر عرضة لتأثيرات أزمة المناخ. والوضع في مقاطعة إيسيولو يعد مثالاً صادماً لحقيقة هذه الأزمة، إذ يتعين على النساء السير على القدمين مسافات غير عادية لجلب الماء فحسب. فقد جفت مصادر مياه كثيرة يعتمد عليها أهالي المنطقة. فيما بات الوصول إلى الآبار المتبقية محفوفاً بالأخطار، بسبب عمقها والرمال المتحركة التي تحيط بها. أما النباتات الحية التي من شأنها أن تثبت تربة الأرض، فلم تعد موجودة بسبب الجفاف. وقد سمعنا خبراً عن شاب دفن حياً داخل إحدى تلك الآبار، عندما انهارت جدرانها عليه في الوقت الذي كان يحاول إخراج الماء منها.
في المقابل، ومع استفحال أزمة شح المياه، تصبح النساء أكثر عرضة للعنف المنزلي القائم على النوع الاجتماعي. فقد أخبرتني إحدى المزارعات في الأجزاء الغربية من كينيا، كيف سببت فترات الجفاف صراعاً في منازلهن، لأنهن لا يتمكن من تأمين المياه لتنظيف مكان سكن الأسرة وملابس أفرادها وتوفير الماء للاستحمام. ومن المثير للصدمة أيضاً سماع أخبار عن وقوع سلسلة من حالات الاغتصاب لنساء كن ذاهبات مع بناتهن لملء المياه في منتصف الليل، لتجنب صفوف الانتظار الطويلة خلال النهار.
سوء التغذية يطاول كل بقعة من ذلك المكان الذي يتعين على الأطفال فيه الاكتفاء بتناول وجبة واحدة فقط في اليوم. وفي مقاطعة إيسيولو، أصبح انعدام الأمن المائي والغذائي من السوء بمكان إلى درجة أنه تم إيقاف برامج التغذية المدرسية. وجاءت أزمة المناخ لتزيد الطين بلة إلى حد لم تعد معه هذه المجتمعات قادرة على التكيف. فأثناء قيادتنا السيارة عبر المنطقة، صادفتنا قوافل أناس يحملون مقتنياتهم. لقد خسروا كل شيء بسبب الجفاف، وباتت منازلهم غير صالحة للسكن، ولم يعد لديهم من خيار آخر سوى الهجرة.
أحدث الجفاف تأثيراً اقتصادياً عميقاً. فرعاة الماشية اضطروا إلى النزوح بعيداً من الأسواق الموجودة في مناطقهم، الأمر الذي جعل من الصعب عليهم تحقيق أي نوع من الدخل. أما الماشية المتبقية فباتت تباع بأسعار باهظة، وتضاعفت أسعار منتجات كالحليب، عما كانت عليه قبل فترة الجفاف. كما أن تضخم الأسعار يزيد الوضع السيئ سوءاً فيما خيارات التنويع أصبحت محدودة. ويجد المزارعون مصاعب في مواصلة زرع الأراضي المروية، وباتت معظم سبل العيش المحتملة الأخرى تعتمد على استقرار المناخ.
تعد أزمة المناخ مأساة إنسانية وظلماً لا يمكن تحمله. فالدول الواقعة في المنطقة الأفريقية هي الأقل مسؤولية عن التسبب بأزمة تغير المناخ، لكنها من أكثر البلدان عرضة لتأثيراتها. وتعتبر قارتنا ثاني أكبر قارات العالم وأكثرها اكتظاظاً بالسكان، ومع ذلك فهي لا تصدر سوى 0.5 في المئة فقط من الانبعاثات الحرارية التاريخية للكوكب، وأقل من أربعة في المئة من الانبعاثات العالمية اليوم.
ينعقد هذا الأسبوع "مؤتمر الأمم المتحدة الـ 27 لتغير المناخ" (كوب 27) في مدينة شرم الشيخ المصرية. ويطالب السياسيون الأفارقة والمجتمع المدني في القارة على حد سواء بالعدالة المناخية. وهذا يعني أن على الدول الغنية التي سببت هذه الأزمة أن تفي نهائياً بوعودها، وتقدم الموارد المالية اللازمة لنا لنتمكن من التكيف والتحول نحو اقتصاد نظيف ومستدام.
هذا يعني أيضاً أنه يتعين على هؤلاء القادة الإقرار بأن تأثيرات المناخ باتت تتجاوز الآن قدرة عدد من المجتمعات في التكيف، وإظهار تضامن حقيقي معها من خلال تخصيص مصدر لتمويلها وتعويضها عن الخسائر والأضرار الملحقة بها.
المحادثات المهمة المرتبطة بأزمة المناخ لطالما أقيمت داخل غرف مغلقة وأروقة سياسيي النخبة، حيث لا يفقه سوى عدد قليل منهم الواقع المعيشي الذي تواجهه تلك المجتمعات المتضررة بشكل مباشر من التغير المناخي. والواقع أن عدداً كبيراً من القادة والمفاوضين لم يشهدوا بأم العين ما رأيته أنا من أضرار ودمار. وقد حان الوقت للقيام بثورة في مجال التفاوض على مسألة المناخ. ويتعين أن نسهل الوصول إلى تلك المساحات ونجعلها متاحة وأن نضع الأشخاص، ولا سيما منهم أولئك الأكثر تأثراً بأزمة التغير المناخي، في صلب أي قرار نتخذه.
عندما كنت طفلة كنت أشعر بالسلام والأمن. أما الآن، فعندما أفكر في هاتين الفتاتين اللتين كانتا تجلبان الماء، وفي النساء والفتيات اللاتي يخشين التعرض للاغتصاب، لا أستطيع أن أصدق كيف تبدلت الأمور على نحو جذري. آمل أن تتمكن قمة "كوب 27" من تقديم شيء لهن. وأحلم بوقت يشعر فيه الأطفال الأفارقة بالسلام والأمن من جديد.
أبيغيل كيما هي مقدمة ومنتجة "بودكاست هالي هيوا" Hali Hewa Podcast وتقيم في كينيا
© The Independent