يبدو أن السودان بدأ بالفعل دفع فاتورة السيول والفيضانات التي اجتاحت البلاد العام الماضي بتفش كبير لمرض حمى الضنك (الحمى النزفية) في ثماني ولايات.
المرض بدأ الانتشار منذ أسابيع في ولاية شمال كردفان المنكوبة بشدة بهذا الوباء واكتظت المستشفيات ومراكز العزل بصورة أنهكت النظام الصحي الولائي نتيجة اتساع التفشي للحمى داخل مدينة الأبيض عاصمة الولاية ومحلياتها الأخرى.
من كردفان إلى الولايات
قبل أن تتمكن السلطات من احتواء الوباء بشمال كردفان سرعان ما سجلت حمى الضنك ظهوراً متبايناً في سبع ولايات أخرى هي النيل الأبيض وغرب كردفان وشمال دارفور وجنوب دارفور وكسلا والبحر الأحمر، وفق تقارير وزارة الصحة الاتحادية (الإدارة العامة للطوارئ الصحية ومكافحة الأوبئة).
على مستوى شمال كردفان كشفت وزارة الصحة والتنمية الاجتماعية في الولاية عن وفاة خمسة أشخاص متأثرين بإصابتهم بحمى الضنك، كما سجلت 125 حالة اشتباه جديدة الأسبوع الحالي ليرتفع العدد التراكمي إلى 362 حالة، إلى جانب وجود حالات في مركز للعزل وذلك حتى 8 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي.
وزير الصحة المكلف الدكتور إبراهيم الأنصاري قال لـ"اندبندنت عربية" إن الاكتشاف المبكر والتدخل العاجل للوزارة باتخاذ التحوطات اللازمة وحزمة من الإجراءات الوقائية والاحترازية، خففا كثيراً من وقع موجة الحميات التي ظهرت في الولاية خلال الفترة الماضية، مشيراً إلى أن وزارته بذلت جهوداً ومساعي كبيرة على مستويي المركز والولاية لمكافحة المرض.
وعلى مستوى الحكومة المركزية شكلت وزارة الصحة الاتحادية لجنة فنية للاستجابة الصحية لمجابهة انتشار وباء حمى الضنك، موجهة بمكافحة كل نواقل الأمراض في إطار العمليات الجارية للسيطرة على المرض والقضاء عليه.
حالات متزايدة
بحسب مدير الإدارة العامة للطوارئ الصحية ومكافحة الأوبئة الاتحادية منتصر محمد عثمان، فإن مؤشرات الناقل لا تزال مرتفعة وتتمظهر في ازدياد حميات الملاريا والضنك، مما يستوجب مزيداً من الجهود في تنفيذ خطة الصحة الولائية بعد مراجعتها بواسطة الوزارة الاتحادية مع منظمة الصحة العالمية.
وأشار عثمان في تصريحات صحافية إلى إرسال فريق اتحادي للإسهام في التصدي والترصد المرضي والتنسيق لمكافحة الناقل وتعزيز الصحة في شمال كردفان، نظراً إلى حاجة المكافحة من منزل إلى منزل، إلى جانب تقديم دعم مالي كبير لتعزيز جهود الولاية في التصدي للوباء وتنفيذ كل الأنشطة المطلوبة بالتنسيق مع منظمات الصحة العالمية و"يونيسف" و"الهلال الأحمر" ودعمها.
ووعد وزير الصحة الاتحادي هيثم محمد عثمان إبراهيم خلال زيارته التفقدية للولاية برفقة مكتب منظمة الصحة العالمية في الخرطوم، الالتزام بتلبية جميع حاجات مستشفيات ولاية شمال كردفان ووجه بتقديم الإسناد الفني والمادي إلى جميع الولايات المتأثرة بالوباء.
وأكد مكتب منظمة الصحة العالمية في السودان دعم المنظمة لجهود الولاية والسلطات الصحية، مشدداً على أن مكافحة هذا المرض تكمن في تضافر الجهود مع أهمية تعزيز العمل التوعوي واستمرار الترصد الحشري.
معاناة ومآس
وشكا مواطنون تحدثوا إلى "اندبندنت عربية" من داخل مدينة الأبيض ومن محلية بارا المجاورة من سوء الأحوال وتفاقم المعاناة والمآسي نتيجة كثافة انتشار حمى الضنك التي لم تترك منزلاً إلا وطرقت بابه، مخلفة كثيراً من الألم جراء التكدس والانتظار في المستشفيات والعيادات، إلى جانب الانتشار الكثيف للبعوض في الليل والنهار بشكل كبير ومزعج، وبحسب روايات المواطنين تحولت السيارات إلى غرف إسعاف بعد اكتظاظ العنابر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان الأسبوع الأول من شهر أكتوبر (تشرين الأول) شهد ظهور أولى حالات الاشتباه في المرض وأرسلت 19 عينة منها إلى معمل "أستاك" القومي في الخرطوم وكانت النتيجة إصابتها جميعاً بالمرض باستثناء حالة واحدة، مما دفع حكومة شمال كردفان إلى إعلان حال الطوارئ في جميع مستشفيات الولاية الحكومية والخاصة والنظامية والمراكز الصحية، كما علقت الدراسة موقتاً في جميع المراحل التعليمية.
ونظم طلاب كلية الصحة العامة وصحة البيئة في جامعة كردفان حملات توعوية بحمى الضنك في أسواق مدينة الأبيض بالتنسيق مع إدارة تعزيز الصحة بوزارة الصحة والرعاية الاجتماعية في الولاية، وذلك في إطار المسؤولية المجتمعية للجامعة.
شمال دارفور تعاني
في شمال دارفور التي لا تقل المعاناة فيها بسبب تفشي الوباء عن شمال كردفان، أعلنت حكومة الولاية إطلاق نفرة رسمية وشعبية عاجلة للتصدي للانتشار الواسع للحميات، إذ بلغت حالات الإصابة بحمى الضنك نحو 296 إصابة مؤكدة من جملة 418 حالة اشتباه، فيما تجاوزت حالات الإصابة بالملاريا وفق إحصاءات المؤسسات العلاجية الرسمية 9000 حالة حتى الأسبوع الماضي.
ووصف الأمين العام لحكومة الولاية حافظ بخيت في حديثه إلى "اندبندنت عربية" الوضع بأنه غير مطمئن بسبب استمرار الانتشار الواسع لحمى الضنك والملاريا، مما يتطلب تحركاً عاجلاً وتضافر جهود الحكومتين الولائية والمركزية مع الشركاء من أجل حشد الموارد اللازمة للتصدي للناقل الحشري في جميع أطواره.
ولفت بخيت إلى أن السلطات الصحية في الولاية شرعت بإمكاناتها الذاتية في تنفيذ حملات للرش الرذاذي لمكافحة البعوض داخل المنازل مع توزيع الناموسيات، لكنها تنتظر الدعم والعون البشري والمادي من الحكومة المركزية حتى تتمكن من السيطرة على الوضع بأسرع ما يمكن، نظراً إلى التزايد المستمر في الإصابات، مما يتطلب أيضاً زيادة الاحتياطي من المخزون الدوائي، مبيناً أن السلطات تقوم في هذه المرحلة بالعزل والعلاج المنزلي للمصابين، ريثما يتم تجهيز مركز العزل الخارجي لاستقبال المرضى متى اقتضت الضرورة ذلك.
في السياق ذاته طالب المتخصص ومدير الوبائيات القومية الأسبق بابكر المقبول بضرورة أن تتحمل جميع الجهات المتخصصة مسؤولياتها تجاه الأزمة الصحية التي تمر بها البلاد، كونها ليست مسؤولية وزارة الصحة وحدها ولا تستطيع بمفردها إنقاذ الوضع الوبائي ما لم تضطلع كل مستويات الحكم بأدوارها على حد سواء.
تداعيات الخريف
وأرجع المقبول أسباب تفشي المرض إلى تداعيات السيول والفيضانات التي شهدتها البلاد في موسم الخريف الماضي التي كانت منذرة بمثل هذه الأوبئة، شارحاً أن السودان يقع ضمن شريط جغرافي توجد فيه البعوضة المعروفة بـ"الزاعجة المصرية" التي يتمتع بيضها بقدرة البقاء على الأرض لمدة قد تصل إلى 20 عاماً ثم تفقس متى توافرت الظروف المواتية بتراكمات مياه الأمطار وبسرعة فائقة تكتمل دورة أطوارها خلال 72 ساعة فقط.
وكشف متخصص الوبائيات في حديثه إلى "اندبندنت عربية" عن خطة للمتابعة اليومية وضعتها وزارة الصحة الاتحادية بناء على مؤشرات سيول الفيضانات الخريف الماضي بهدف السيطرة على المرض والحد من انتشاره في كل ولايات السودان.
وتحسر المقبول على التدمير التام الذي شهده قطاع العمالة في مجال المكافحة الصحية إلى درجة انقراض وظائفهم التي باتت إما شاغرة أو تم شغلها واستغلالها لأغراض أخرى، كالوظائف الكتابية والسكرتارية وغيرهما، مما يعتبر وضعاً شاذاً وغريباً، كان ضمن أسباب وعوامل عدة تضافرت مع الظروف الاقتصادية الحرجة التي تعيشها البلاد حالياً والكلفة العالية للمكافحة، فضلاً عن تقاسم أدوار الصحة ما بين العقبات الاقتصادية والقانونية.
ونوه إلى أن منطقة شمال كردفان بطبيعتها الرملية لم تكن تعرف هذا المرض من قبل، لذلك كانت الهجمة الأولى له شديدة وشرسة، فضلاً عن مظاهر التمدن الحضري غير المنضبط وطرق تخزين المياه بالبراميل، في وقت لا تحتاج البعوضة إلى أكثر من علبة ماء صغيرة مهملة للتزاوج وإنتاج المئات منها.
جهود إنقاذ الوضع
وأوضح متخصص الوبائيات أن هناك جهوداً كبيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وأن هناك اجتماعاً يومياً للجنة العليا للطوارئ الصحية برئاسة وزير الصحة الاتحادي ودعماً مقدراً من المنظمات كافة، فضلاً عن متابعة لجنة الطوارئ في المجلس السيادي، مشيراً إلى أنه من الممكن السيطرة على الوضع، لكن بكلفة عالية، سواء في البشر أو المال، إذ تؤدي إلى تدني الإنتاج وإرهاق موازنة الدولة والمواطن معاً بثمن مضاعف.
وعن خطورة المرض أوضح المقبول أن حمى الضنك (النزفية) أشبه بحمى الملاريا، لكنها فجائية مصحوبة بصداع وألم في المفاصل، وربما ترتفع درجة الحرارة بشكل كبير مع نزيف خارجي من اللثة أو الأنف وربما يكون النزيف داخلياً نتيجة الخلل الذي يصيب الأوعية وتسرب الدم منها إلى خارجها، وكذلك بدخول سوائل من الخارج إليها، ما يتسبب بحالة هبوط في الدم ونسبته وقد تؤدي إلى الوفاة في حال تأخر إسعاف المريض وعلاجه.
وأشار إلى أن التعافي من المرض يرتكز على العلاج الداعم عبر مد المريض بالسوائل والمحاليل الوريدية لتعويض تسرب الأوعية الدموية وإنعاش صحة المريض وتقوية مناعته، إذ إن معظم الفيروسات المشابهة ذاتية الاختفاء.
تعد حمى الضنك الحادة حالة مرضية طارئة مهددة للحياة وتحتاج إلى الرعاية الطبية الفورية ومن أعراضها الألم الحاد بالمعدة أو القيئ وصعوبة التنفس ونزيف الأنف واللثة. وتحدث الإصابة بسبب أي نوع من أنواع فيروسات حمى الضنك الأربعة ولا تنتقل من شخص مصاب، بل عن طريق لدغات البعوض.
ويعاني السودان ضائقة اقتصادية متفاقمة أدت إلى ضعف النظام الصحي إلى جانب التحدي الكبير الذي جابهه هذا القطاع خلال جائحة كورونا وعدم توافر الموارد اللازمة في ظل الأوضاع غير المستقرة التي تعيشها البلاد.