على رغم مرور أربع سنوات على ثورة ديسمبر (كانون الأول) السودانية، التي أطاحت أطول نظام حكم في تاريخ السودان دام مدة 30 عاماً، فلا تزال الثورة السودانية تبحث عن غاياتها وأهدافها بين تظاهرات الضغط الجماهيري الحاشدة وحوارات التسوية السياسية وجهود الآلية الثلاثية واللجنة الرباعية، سعياً إلى إنهاء الانقلاب وعودة الحكم المدني والمسار الديمقراطي وتحقيق أهداف الثورة التائهة في أضابير الأزمة والصراع السياسي المحتدم بين العسكريين المسيطرين على السلطة وقوى الثورة من المدنيين.
تظاهرات الذكرى الرابعة
ويعتبر كثيرون من المراقبين أن انقلاب الفريق أول عبد الفتاح البرهان القائد العام للجيش بإلغاء الشراكة مع المدنيين وحل مؤسسات الفترة الانتقالية 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، قد أعاد الثورة إلى المربع الأول وجدد روحها بالتظاهرات والاحتجاجات التي لم تنقطع طوال الفترة اللاحقة له حتى اليوم.
وتزامناً مع الذكرى الرابعة للثورة في 19 ديسمبر التاريخ الذي يصادف أيضاً مع ذكرى إعلان استقلال السودان من داخل البرلمان، شهدت العاصمة الخرطوم، الإثنين في التاريخ ذاته من الشهر الحالي، تظاهرات حاشدة تحت مسمى (إرادة الشعب) دعت إليها لجان المقاومة وجهتها القصر الجمهوري إلى جانب تظاهرات مماثلة في عدد من مدن الولايات.
وأكدت اللجان، في بيان مسبق، تمسكها بشعارات "لا تفاوض ولا شراكة ولا مساومة"، بل مواصلة السير والصمود والنضال ضد الديكتاتوريات والانقلابات العسكرية والقصاص والعدالة للشهداء ورفض الاتفاق الإطاري بوصفها له بالطعنة الغادرة لأهداف وشعارات الثورة.
تحسبت السلطات مبكراً بإغلاق وسط الخرطوم وكوبريي "المك نمر النيل الأزرق" المؤديين إليها من جهتي الخرطوم بحري وأم درمان.
وتصدت قوات الشرطة للمتظاهرين الذين رددوا هتافات مناوئة للانقلاب والحكم العسكري في عمليات كر وفر في قلب الخرطوم، وأطلقت عليهم الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية لتبعدهم عن مسارهم للقصر الجمهوري وسط العاصمة.
الثورة و"الإطاري"
وأصدرت القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري بياناً حيت فيه ذكرى الثورة الرابعة، مؤكدة التمسك بغاياتها وقيمها حتى تبلغ البلاد مرافئ السلام والحرية والعدالة. وأكد البيان عقب اجتماع للجنة التنسيقية للقوى المدنية الموقعة أن الاتفاق الإطاري يعد خطوة مهمة نحو الأمام في طريق استرداد مسار التحول المدني والديمقراطي، وأنه يعبر بصورة كبيرة عن المطالب الشعبية الرئيسة المتمثلة في إقامة سلطة مدنية كاملة تقود مسار الانتقال الديمقراطي والنأي بالمؤسسة العسكرية عن السياسة كلياً، ويعالج قضايا الإصلاح الأمني والعسكري وتحقيق العدالة والعدالة الانتقالية والوصول إلى انتخابات حرة ونزيهة في نهاية المرحلة الانتقالية.
وأشار البيان أيضاً إلى أن الاجتماع أمن على الروح الجماعية المشتركة والتنسيق العالي بين القوى المدنية الموقعة على الاتفاق لإكمال خطوات المرحلة الثانية للاتفاق النهائي الذي بموجبه ستقر الترتيبات الدستورية الانتقالية، وستنشأ مؤسسات السلطة المدنية الكاملة في أسرع وقت ممكن عبر عملية شاملة تعبر عن أوسع قاعدة من أصحاب المصلحة والقوى المتمسكة بالثورة وقضايا التحول الديمقراطي. وشددوا على أن مسألة أطراف الاتفاق حسمت من قبل، ولا مجال لمحاولات إغراق العملية السياسية بقوى غير حقيقية، وحضوا الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام وقوى الثورة التي لم توقع بعد على المشاركة في المرحلة الثانية من العملية السياسية بصورة متكافئة للوصول معاً إلى الاتفاق النهائي الذي ينهي الأزمة الوطنية.
مواقف ومطالبات
وفي سياق متصل، دعا حزب الأمة القومي كل قوى الثورة التي صنعت التغيير للوحدة من أجل حمايتها من الارتداد وتحقيق أهدافها، معتبراً العملية السياسية التي تسعى قوى الحرية والتغيير مع القوى الثورية الأخرى إلى إنجازها هي واحدة من آليات الثورة لاستعادة مسار التحول المدني الديمقراطي. وأكد الحزب، في بيان لمناسبة الذكرى الرابعة للثورة، الدور الكبير الذي تلعبه القوى الثورية في الضغط الجماهيري لاستكمال مسيرة استعادة التحول المدني الديمقراطي، من خلال أكبر حراك وتفاعل جماهيري يدعم مسار التحول المدني الديمقراطي في البلاد ومناهضته كل أشكال القمع ضد المتظاهرين وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جانبها، وصفت الحركة الشعبية (التيار الثوري الديمقراطي) بقيادة ياسر عرمان الاتفاق الإطاري بالانتصار لثورة ديسمبر، وأعلنت تمسكها بحل قضية الأطراف وفق ما ورد بالاتفاق نفسه، مهددة بمقاطعة العملية السياسية في حال عدم إكمال مهام الثورة وتهيئة المناخ، كما شددت على أن قطع الطريق على عودة إسلاميي النظام السابق من أولويات استكمال أهداف الثورة. وطالبت الحركة السلطات بالوقف التام للعنف ومنع استخدام الذخيرة الحية والقنابل ضد المواكب والتظاهرات السلمية، باعتبار أن ذلك من محددات مدى الجدية في التزام الاتفاق الإطاري، مناشدة جميع السودانيين المشاركة في تظاهرات الذكرى الرابعة للثورة.
كما دعا الحزب الشيوعي السوداني إلى أوسع مشاركة جماهيرية في التظاهرات للتعبير عن رفض التسوية وإسقاط الانقلاب وانتزاع الحكم المدني الديمقراطي، مؤكداً مناهضته كل أشكال قمع المتظاهرين وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات. وشدد الحزب على رفضه التام قيام الانتخابات في ظل عدم إنجاز مهام الفترة الانتقالية واستمرار تمكين النظام البائد، بما يؤكد تزويرها سلفاً لصالح قوى السلطة الانقلابية ومؤيديهم.
حتمية الانتقال
من جانبه، قال وزير التجارة السابق مدني عباس مدني، القيادي في قوى الحرية والتغيير، إن التحول المدني الديمقراطي بات أمراً حتمياً بأمر قوة الإرادة الشعبية التي قهرت التحديات، معتبراً أن الصورة ليست بهذه القتامة بالنظر إلى فشل الانقلاب على مدى أكثر من عام في فرض نفسه سواء بقوة البطش أو القبول الشعبي وعجزه عن كسر الإرادة الوطنية الثورية. وأوضح مدني أن من أهم متطلبات المرحلة وجود جبهة مدنية غير مرتبطة بالسلطة أو بتحالف تقليدي بل بتحالف استراتيجي من أجل التحول الديمقراطي بالسودان يضم الفاعلين على الساحة الوطنية سواء في النادي السياسي أو منظمات المجتمع المدني والمجموعات المهنية والشبابية كلجان المقاومة وكل من له مصلحة في تحول ديمقراطي مستدام.
ووصف القيادي في قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) ثورة ديسمبر بالفريدة المستمرة لأربعة أعوام متتالية من دون توقف، معتبراً أن انتكاسة الثورة بانقلاب 25 أكتوبر شكل أكبر تحدياتها، لكنها لم تيأس في الوصول إلى غاياتها، فضلاً عن كسرها الاحتكار التاريخي للعملية السياسية بواسطة نخب بعينها وظهور كثيرين من الفاعلين السياسيين خارج إطار القوى التقليدية، إضافة إلى الدعم الدولي لحق الشعب السوداني في حكم مدني ديمقراطي، مما يجعل الثورة أمام مسار حتمي نحو استئناف مسار الانتقال الديمقراطي.
العدالة أولاً
ولمناسبة الذكرى أيضاً، وصف فرح عباس فرح، رئيس جمعية أسر شهداء فض اعتصام القيادة العامة، الاتفاق الإطاري بطريق فيه بعض النجاحات وأيضاً بعض الإضرار بأهداف الثورة، بسبب تجاوزه قضية العدالة التي يفترض أن تكون من أهم الأولويات، مضيفاً "بات واضحاً أن الذين فرضوا أنفسهم حكاماً على البلاد يريدون الإفلات من العقاب، لذلك يتلكأون في تسليم السلطة إلى حكومة مدنية، ما يبدو مستحيلاً في ظل تمسكهم بمخاوفهم وسعيهم إلى التشبث بالحكم لأطول فترة ممكنة كطوق للنجاة". ولفت إلى أن هذه الثورة جاءت بدماء الشهداء الذين كانت العدالة أول شعاراتهم، والمحافظة عليها لن تكون إلا بالعدالة كمرتكز رئيس يفترض أن تؤسس عليه دولة القانون، "لكن للأسف نتلمس من بعض والنخبة رغبة في تجاوز هذه النقطة، متناسين أن الدماء هي التي صنعت الثورة ثم تليها القضايا الأخرى".
وسأل رئيس جمعية أسر الشهداء "كيف يرغب كثيرون من السياسيين في تجاوز كل تلك الدماء والفظاعات التي ارتكبت في حق المتظاهرين السلميين؟"، مطالباً القيادات السياسية بضرورة تجاوز الإرث الصفوي الموروث في قضية العدالة بالسودان ببناء دولة المؤسسات والقانون والعدالة.
ثورة الوعي الشبابي
إلى ذلك، قال الناشط والباحث السياسي عبدالمنعم كمال الدين إن من مميزات ثورة ديسمبر المشاركة الكثيفة للعنصر النسائي، ولكونها تجسد وعي الشارع الشبابي واستعداده لحمايتها ومراقبة مسارها. أضاف "لم تكن التظاهرات التي خرجت احتفالاً بنجاح الثورة بقدر ما كانت احتجاجاً على الإخفاقات الكبيرة التي لازمت مسيرتها، وشعارها (حرية وسلام وعدالة) في ظل حكم مدني ديمقراطي دفعوا ثمنه سنوات من دمائهم وحرياتهم قبل وبعد فترة حكم عمر البشير".
واعتبر الأكاديمي عبداللطيف البكري أن معظم الإنجازات التي تحققت عقب الثورة المتمثلة في الانفراج النسبي للحريات وخروج السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وفق التصنيف الأميركي وكسر العزلة وعودة السودان إلى الأسرة الدولية، قد تبخرت بعد انقلاب البرهان 25 أكتوبر 2021، إذ أغلقت الأبواب مجدداً أمام الاستفادة من مبادرة إعفاء ديون الدول الأكثر فقراً "هيبيك". وأبدى البكري خشيته من أن يؤدي استمرار الاستقطاب الذي يضرب الساحة السياسية والتضعضع المفرط في الثقة بين المكونين المدني والعسكري، وانقسامات المكون المدني نفسه، مع استمرار التظاهرات والاحتجاجات المتواصلة، إلى الإضرار بالثورة السودانية والدفع بها نحو الفشل، مضيفاً "انقلاب 25 أكتوبر شكل المنصة الرئيسة التي أفسحت المجال لعودة فلول النظام البائد مرة أخرى لتسيطر على مؤسسات الدولة، مما شكل انتكاسة حقيقية تهدد بعودة النظام السابق"، مطالباً بأن تكون الأولوية لإسقاط الانقلاب باعتباره الخطر الأكبر على الثورة وأهدافها.
ومنذ إعلان قائد الجيش السوداني الفريق عبدالفتاح البرهان فض الشراكة مع قوى الحرية والتغيير وتجميد بنودها بالوثيقة الدستورية 2019 وحل مؤسسات الفترة الانتقالية في 25 أكتوبر 2021، تستمر المواكب الرافضة للانقلاب والمطالبة بعودة الحكم المدني واسترجاع مسيرة التحول الديمقراطي، ومحاسبة قتلة المتظاهرين، الذين يقدر عددهم بنحو 122 قتيلاً، فضلاً عن عدم تحقيق العدالة لضحايا مجزرة اعتصام القيادة العامة الشهيرة التي لم تتوصل فيها لجنة التحقيق الوطنية إلى خلاصات ونتائج منذ أكثر من عامين.