لا تشبه غادة شبير أحداً في غنائها، فهي مطربة لبنانية متميزة ومتفردة، تجمع بين الموهبة الفنية والصوت المتين والعذب والخبرة الأكاديمية (شهادة الدكتوراه في علوم الموسيقى والغناء)، إضافة إلى ذائقتها الغنائية المرهفة. تعود شبير بالأغنية العربية إلى زمن الألق والجمال، وتعيد بغنائها إلى اللغة العربية رونقها وفخامتها، وإلى الألحان أصالة لا مثيل لها. تحمل في صوتها شجناً عالياً، تغني القصيدة والموشح، فتخرج الكلمات بأحرف تملأ أداءها، فهي تملك مخارج حروف عربية صحيحة يقشعر لها البدن، فتطرز على مقام اللحن العربي بصوتها الرخيم أغاني من التراث العربي، وهي التي تنوع إلى جانب القصيدة، فتغني الموشح والمقام إضافة إلى الترتيل السرياني والغربي. وأصدرت شبير قبل أشهر ألبوماً بعنوان "Spirit" (سبيريت) بعد توقف دام نحو ثلاث سنوات على صدور آخر أعمالها، والذي كان بعنوان "القصيدة"، وتضمن أشعاراً للشاعر الكويتي عبدالعزيز سعود البابطين، من ألحان وجدي شيا وجاد غانم وميلاد طربيه، وغيرهم.
وبما أن غادة شبير غابت لسنوات ثلاث بسبب الأزمة الاقتصادية وجائحة كورونا، فقد تحدثت لـ"اندبندنت عربية" عن هذه المرحلة، فقالت، "منذ بدء ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019 إلى حين انتشار كورونا في العالم بأسره، وصولاً إلى الأزمة الاقتصادية والأمنية التي مرت بلبنان، كانت هذه الفترة كلها سلبية على الجميع، وليس عليّ وحدي، لكن الأمر الوحيد الجيد كان بالنسبة إليّ إصداري كتابي (الموشحات). وكنت أيضاً قد بدأت بالتحضير لمهرجانات غنائية خارج بلادي، ومنها في الكويت وفرنسا وبلجيكا، وبعدها أقفلت كل المطارات والأماكن العامة والمسارح. وعلى رغم ذلك كنت أسافر بصعوبة، وأحيي بعض الحفلات ضمن إجراءات احترازية، وصولاً إلى العام الماضي، حين أحييت حفلات في كورسيكا ولبنان. وأطلقت قبل أشهر ألبومي الجديد (سبيريت)، وهو بمثابة تعاون بيني وبين فرقة من كورسيكا". وتضيف، "تقاسمنا التأليف في هذا العمل ما بين اللغة العربية والكورسيكية، وكلماته مأخوذة من القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وتحديداً من العصر الأندلسي، وهناك بعض الأغنيات الكورسيكية، وأخرى باللغة العربية، ومنها موشحات. ولكي تبدو روحية العمل متشابهة، كنت أترجم لفرقة (ميسايو) الكورسيكية فحوى أغنياتي العربية إلى اللغة الفرنسية كي تظهر الأعمال في الألبوم متناسقة المعاني".
فن مشترك
ألبوم "سبيريت" صدر قبل أشهر حاملاً تجربة جديدة لها، وفي هذا الصدد توضح شبير، "مع صدور ألبوم (ميسايو – شبير) أقمت حفلتين في كورسيكا، ومع الفرقة التي تتألف من 10 أعضاء برئاسة الآن جيرارتي، وافتتحنا صفحة خاصة به على (فيسبوك)، وتم الترويج له ونشره عبر بعض المنصات الموسيقية في أوروبا. وكنا ننوي المشاركة في مهرجان البستان بلبنان، لكن بسبب ضيق الوقت تم تأجيل هذه المشاركة إلى السنة المقبلة، أي 2024، كما نحضر لجولة غنائية لإحياء عدد من الحفلات ترويجاً للعمل المميز الذي أعتبره مختلفاً عن كل أعمالي السابقة من ناحية التوزيع الموسيقي. فللمرة الأولى يتم توزيع أغنياتي بأسلوب غربي، وأنا المعتادة على الفن الشرقي التقليدي في أعمالي، علماً أن ألبومي السابق (القصيدة) كانت بعض أغنياته موزعة على النسق الغربي، إنما بروح شرقية. أما في (spirit) فكل الأغنيات وزعتها فرقة (ميسايو) بأسلوبها الفني الذي يعتمد على (البولوفوني)، أي مزج أربعة أصوات بعضها مع بعض. وهناك شيء واحد يشبهنا بالفن الكورسيكي، فهم يغنون (العربي) بأسلوب يشبه الغناء الشرقي، وذلك نتيجة قرب كورسيكا من البحر الأبيض المتوسط. وهذا الألبوم طبعت منه نسخ عدة في أوروبا، ونشر على الإنترنت، لكنني في لبنان لم أستطع القيام بذلك على رغم أنني أملك شركة صغيرة تطبع أعمالي، بسبب الكلفة المادية العالية واحتجاب الناس عن شراء أي عمل فني (عضوي)، بعد انتشار المنصات الموسيقية الإلكترونية على الإنترنت. وعلى رغم ذلك يبقى الألبوم (العضوي) هو الباسبور لأي مطرب لأنه يحفظ في أرشيفه".
قبل ثلاث سنوات أصدرت غادة شبير كتابها الموسيقي "الموشحات"، وعن هذه التجربة العلمية قالت، "كانت كلفته 15 ألف دولار قبل بدء الأزمة الاقتصادية في لبنان، وهي حالت بعد ذلك دون بيع الكتاب بكميات كبيرة، نظراً إلى ارتفاع القيمة الشرائية للكتاب في لبنان. إلا أنه يدرس في جامعة الكسليك كمنهج دراسي، وبيع منه في فلسطين والعراق والسويد، وبعض الأساتذة المتخصصين بالغناء الشرقي اعتمدوه في تدريس طلابهم، وهذا أمر يفرحني". وتضيف، "من ناحيتي أعطيت أكثر من (ماستر كلاس) من هذا الكتاب عبر التعليم من بعد في حيفا ورام الله، واستمر الدرس على مدار ثلاثة أيام، ست ساعات يومياً، ولم أكن أعلم أن في هذه المدن معاهد متخصصة بالموسيقى. وأحضر (ماستر كلاس) قريباً في إسبانيا، وسأعطي فيها أصول الغناء العربي مع اللفظ والأداء والموشحات والقصائد والأدوار، وسيستمر لمدة شهر".
غناء وبحث
إلى جانب انشغالها بالغناء والتعليم الأكاديمي تقوم شبير بإعطاء دروس تمرين صوت (فوكاليز) لعدد من نجوم الغناء في لبنان، ومنهم أسماء كبيرة، لكنها تحرص على عدم ذكر الأسماء، فتقول، "أحترم كل نجم مهما كانت إمكاناته الصوتية، وبالنسبة إليّ، عندما أقوم بتمرين أي مطرب أنسى نجوميته، وأعمل معه على قدراته الفنية، علماً أن لديّ طلاباً في المعهد أصواتهم أهم بكثير من النجوم الموجودين على الساحة الغنائية، وباستطاعتهم إزاحة معظم النجوم لو أعطيت لهم الفرصة، وأي نجم يطلب مني أن أساعده على تحسين صوته لأداء أغنية معينة لا أمانع في تلبية طلبه حرصاً على كل موهبة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن نوعية الأصوات في لبنان تشرح، "لدينا في لبنان أصوات رجال مهمة وقوية أكثر من الجنس اللطيف، وأبرزهم ملحم زين ومعين شريف ووائل كفوري، فهم يملكون أصواتاً قديرة، وهذا ما يجعلهم يستعينون أحياناً بأغنيات العملاق وديع الصافي التي تبرز قوة صوتهم، على عكس أغنياتهم التي يقدمونها أحياناً تماشياً مع السوق".
شروط الغناء
وعن الكلام السائد بأن المرأة تفقد قدراً صوتها عندما تبلغ سن اليأس، تقول، "هذا الكلام ليس علمياً، ولا أساس له من الصحة، فالمرأة تتضح معالم صوتها في سن الثانية والعشرين، وفي الثامنة والعشرين يصبح صوتاً قادراً، وكلما ازدادت السن نضج الصوت أكثر، وإنما بعض الأصوات سواء النسائية أو الرجالية، تفقد قدرتها في سن الخامسة والثلاثين من دون أي تفسير علمي، ويصاب صاحب هذا الصوت بالاكتئاب، ويتابع الغناء على رغم فقدانه قوته وطغيان النشاز على أدائه، ويرفض استيعاب ما حصل لصوته. والبعض يلجأ للأطباء ليعالجوه بالكورتيزون، لكن بلا استفادة. وفي مرات كثيرة يستمر المطرب بالعطاء ولو بلغ التسعين من عمره، كما حصل مع الراحل شارل أزنافور، الذي بقي صوته يرن إلى ما قبل وفاته من دون إغفال ظهور الشيخوخة في الصوت. وأيضاً يوجد نموذج الراحلة أم كلثوم التي ماتت في السبعينيات من عمرها، بينما كان صوتها قديراً مع مراعاة الملحنين لطبقاتها الصوتية".
غادة شبير ترعرعت في منزل والديها اللذين كانا يستمعان إلى الموشحات والأدوار والقصيد لمطربين قدماء كثر، مثل صبري المدلل وناظم الغزالي وإيليا بيضا. وتعلق على الأمر قائلة، "كنت أعتقد أن كل الناس يستمعون إلى هذا النمط الغنائي، لكني وجدت أنه نخبوي، وقد عشقت منذ الصغر هذا الفن. وكان لدى والدي كاسيتات نادرة لإلياس ربيز، وغيره، كلها استمتعت بها، ثم عندما كبرت قررت دراسة هذا اللون، وأجريت أبحاثاً موسيقية حول هذا العالم، وامتهنت غناء الموشحات، علماً أنني لو كنت اتبعت نمط أغنيات أخرى لحصدت جماهيرية أكبر، لكنني تفرغت للعلم وتأليف الكتب، إضافة إلى غناء ما يحلو لي من فن أصيل".