Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الألماني شتفان جورج شاعر الرمزية الخلاقة وروح المطلق

استهواه حب التضحية وأذاب قلمه في استنطاق أسرار الحضارات الإنسانية القديمة

الشاعر الألماني شتفان جورج بريشة كارل بوير(بريشة كارل بوير جوالي عام 1920)

ملخص

انشغل الشاعر الألماني #شتفان_جورج بموضوعة قدرة #اللغة_الألمانية على التعبير عن أحاسيس الوجدان الجوانية، وهو الذي كانت توجهاته العاطفية تميل نحو الرجال، ما غلف طبعه بالحياء والانزواء

ينتسب الشاعر الألماني شتفان جورج (1868-1933) إلى دائرة الأدب الألماني الغنائي الرمزي الجمالي. في قصائده كانت تتجلى نفحة التمرد على الواقعية الفجة التي هيمنت على الثقافة الأدبية الألمانية في القرن التاسع عشر. كان يعاين في نفسه وريث عظيم الشعراء الألمان هلدرلين الذي أغنى قصائده بالشرح المبدع. استهواه الروح المطلق وحب التضحية ومعنى التراتبية، فأذاب قلمه في استنطاق أسرار الحضارات الإنسانية القديمة، وفي اعتقاده أن الناس لا يتجددون إلا بالتخلق بأخلاق نوابغ الفكر والروح. ولا غرابة، والحال هذه، من أن يستثمر أهل الأيديولوجيا النازية بعضاً من أفكاره الصوفية النخبوية الإصلاحية لكي يحاربوا بها تصورات اليسار واليمين على حد سواء. على رغم الاستغلال المقيت هذا، احتفظ جورج بمقامه الأدبي الرفيع الذي اكتسبه بفضل أسلوبه الدقيق الإحكام الجزيل السبك المقتضب التعبير، وتصويراته المنتظمة في قوالب الرصانة والتشدد والحبك المتين المرصوص، ولكأنه كان ينحتها في مرمر رخامي، مستنكفاً من أساليب الغنائية المائعة المبتذلة المشحونة بالجيشان العاطفي الأجوف.

ولد في مدينة بينغن المطلة على نهر الراين في مقاطعة هسه (Hesse)، ودرس الآداب اليونانية واللاتينية والفرنسية وشغف بها، حتى إنه أكب على ترجمة أبرز نصوص هيسيوذوس (نهاية القرن الثامن ق م) وبودلر (1821-1867). واعتنى أيضاً بنقل نصوص دانته (1265-1321) وشكسبير (1564-1616)، وما إن بلغ سن الرشد حتى أنشأ مع رفقاء المدرسة الثانوية مجلة أدبية شبابية أطلق عليها اسم "ورود وأشواك" (Rosen und Disteln)، وأخذ ينشر فيها قصائده باسم مستعار. لم يكن يناصر البيئة الأدبية الألمانية المطبوعة بالرومانسية، بل آثر البحث عن سبيل آخر في آداب النهضة الإيطالية التي عكف على دراستها، وفي الآداب الإنجليزية التي شغف بأبرز رموزها من أمثال دانته غابريال روستي (1828-1882) وألغرنون تشارلز سوينبرن (1837-1909) وإرنست دوسون (1867-1900). من جراء ميوله التحررية، طفق يتبرم من الحياة الألمانية السائدة ومن تقاليد الأسرة الضاغطة، فإذا به يرفض المسار المألوف في الانتساب إلى الجامعة والانسلاك في الخدمة العسكرية وامتهان الأعمال التجارية، ويعبر عن استيائه في مذكراته، "لم تكن ألمانيا تطاق عصرئذٍ. فكروا في مصير نيتشه وحسب! كنت قد ألقيت قنبلة لو أغلقوا عليّ هنا، أو كانت روحي قد فنيت على غرار نيتشه. أما والدي فكان مسروراً بالتخلص مني، إذ استشعر الخطر المحدق".

اختبار الغربة والحلقة الأدبية

لذلك غادر وطنه ويمم شطر بريطانيا ليقيم زهاء سنة في لندن. ومن ثم، توجه إلى باريس في عام 1889، والتقى فيها كبار شعرائها، من أمثال ألبر سان - بول (1864-1917) وبول فرلن (1844-1896) وستفان (إتيان) مالارمه (1842-1898)، على رغم العداء المستحكم بين البلدين والنفور الفرنسي من الاستكبار الجرماني. استضافه مالارمه في منزله وأحاطه بالإكرام، لا سيما بعد أن علم أن الشاعر الألماني الشاب أخذ في نقل تحفة بودلر أزهار الشر إلى الألمانية. علاوة على مخالطة أدباء الحركة الرمزية الفرنسية، لم يفته أن يفيد من إقامته الباريسية، فدرس الفلسفة وتاريخ الفن. وما لبث أن أعلن أن باريس "المكان الوحيد الذي عثرت فيه على أصدقاء أوفياء صادقتهم المصادقة الحق".

حين قفل راجعاً إلى ألمانيا، تحلقت حوله كوكبة من الشعراء جذبهم سحر شعره، فأنشأ "حلقة جورج الأدبية" (George-Kreis)، وأسس مجلة أدبية سماها "أوراق من أجل الفن" (Blätter für die Kunst) استكتب فيها أبرز أدباء عصره وواظب على إصدارها نحو ثلاثين عاماً (1892-1919). أما الغاية من إنشائها فالحث على إحياء الأدب الألماني الراقي واللغة الألمانية الخلاقة. تنقل بين برلين ومنشن وهايدلبرغ، وعانى أهوال الحرب العالمية الأولى، في حين أن الدهر أعفاه من فظائع الثانية، ولو أن النازية الصاعدة كانت تفسر بعضاً من نصوصه تفسيراً يلائم تصوراتها الأيديولوجية القومية المنحرفة. إكراماً لإنجازاته الفكرية، حصل على جائرة غوته الأدبية في عام 1927.

المغامرات العاطفية المربكة

على رغم حيائه الشديد وانزوائيته التأملية، كان يميل إلى معاشرة الرجال، حتى إنه وقع في غرام شاب جميل الطلعة حاد الذكاء صادفه في منشن عام 1902. غير أن المنية وافت الشاب الموهوب الواعد ماكسيميليان كرونبرغر (1888-1904)، فصعق الشاعر وأخذ ينشد القصائد التي تفصح عن أسباب تعلقه به، جامعاً إياها في كتيب استذكاري (Maximin. Ein Gedenkbuch) نشره في دائرته الشخصية. لم يشأ أن يؤثر في تهذيب ميول تلامذته، ولو أنه كان يحرضهم على الاقتداء به في التبتل الطوعي من أجل الأدب والفن. ويبدو أن عنوان مجموعته الشعرية ألغابال (Algabal) مستل من سيرة الإمبراطور الروماني المخنث إليوغابال أو ماركس أورليوس أنطونيوس (203-222)، وقد أهداها إلى ملك بافاريا لودفيغ الثاني (1845-1886)، بيد أن الشغف الذكوري هذا لم يمنعه من التعلق بسيدة ألمانية ثرية مثقفة تدعى إيدا كوبلنتس (1870-1942) ألهمته بضعاً من قصائده، لا سيما في مجموعتي "سنة النفس" (Das Jahr der Seele) و"الخاتم السابع" (Der siebente Ring). لم تدم العلاقة الغرامية هذه طويلاً، إذ إن إيدا التعيسة في زواجها الأول ما لبثت أن اقترنت بالشاعر ريشارد ديمل (1863-1920) الذي كان يمثل، في نظر شتفان جورج، زمن الانحطاط الأدبي الألماني من جراء اقتناعاته الغجرية التفلتية وآرائه الماركسية المادية. فإذا بهذا الزواج يتحول إلى فعل خيانة لم يطق الشاعر الرمزي المثالي الإصلاحي أن يغفره لها.

الإرث الشعري الرمزي الفذ

في أثناء إقامة استجمام في مقاطعة لوكارنو السويسرية، تدهورت صحة جورج، فأدخل المستشفى، وهرع محبوه ومريدوه من أنحاء ألمانيا يؤازرونه في آلامه ويرافقونه على فراش العذاب، قبل أن ينطفئ في الرابع من ديسمبر (كانون الأول) 1933. انتشر خبر وفاته، فسارعت السلطات النازية إلى استغلال الحدث الأدبي، وأصرت على تشريف المحفل المأتمي بحضور سياسي بارز وخطاب استقطابي مغرض، بيد أن محبيه وأعضاء حلقته وأصدقاءه آثروا أن يغيروا موعد رتبة الدفن لكي يجتنبوا الإحراج السياسي، مع أن بعضاً منهم كانوا يؤيدون مثل هذا الإكرام.

لا ريب في أن الإرث الأدبي الذي تركه يجسد مساهمة جليلة في نهضة الأدب الألماني. ضمت مجموعة أعماله المنشورة ثمانية عشر مجلداً، من أبرزها "أناشيد" (Hymnen)، و"أسفار الحج" (Pilgerfahrten)، و"ألغابال" (Algabal)، و"سنة النفس"، و"سجادة الحياة" (Der Teppich des Lebens)، و"الخاتم السابع"، و"نجمة العهد" (Der Stern des Bundes)، و"المملكة الجديدة" (Das neue Reich). ترسم المجموعات الشعرية هذه سمات الاختبارات الوجدانية التي مهرت حياة جورج، فتبين لنا مسار نضجه الروحي والأدبي، وتظهر كيف انتقل من طور التشكيك الوجودي الأول والبحث المضني عن تقويم الذات الغارقة في الاستفسار، إلى طور اكتساب الثقة الراسخة بمقامه ودعوته ورسالته التي ينبغي أن يضطلع بها هادياً ومرشداً وقائداً يلهم المجتمع الجديد الذي كان يروم أن يبنيه في تصوراته المثالية الطوبوية.

تجديد الثقافة الألمانية

من الموضوعات الأساسية التي كانت تقلق شتفان جورج قدرة اللغة الألمانية على التعبير عن أحاسيس الوجدان الجوانية. في فترة نضجه الأول، كان يرتاب من قابلية الإبداع في لغته الألمانية. فإذا به يميل إلى نظم القصيد باللغة الفرنسية التي كان يتقنها، أو حتى بالإسبانية. وبلغ به التطرف حدود الشروع في ابتكار لغة جديدة أطلق عليها اسم اللغة الرومانية (Lingua Romana)، واستجمع فيها مفردات شتى استلها من اللاتينية والإسبانية وأخضعها لقواعد النحو الألماني.

غير أن مشروعه الثقافي الأرحب كان يقضي بأن ينحت في الشعر الألماني الحديث أشكالاً مبتكرة من الجماليات التعبيرية تجتنب القوافي الرخوة والتسيب العروضي. لكل حرف من الحروف مقامه في معزوفة القصيدة المتناغمة. أما الخلفية الفكرية الناظمة فكانت مقترنة بالسعي إلى مناهضة المذاهب المادية والطبيعانية التي تخنق الحس الرهيف والإفصاح الأدبي الرفيع، لذلك اجتهد جورج في محاربة هذه المذاهب بواسطة مسلك التقشف الحياتي ومنهج النظم الشعري النموذجي المثالي الشديد التطلب. كان لا بد له، والحال هذه، من الاستعانة بإنسية هلدرلين (1770-1843) التي عاين فيها أفضل مثال يلهم المجتمع الإنساني الجديد. وعليه، عمد إلى التعبير الصريح عن نبوغ أسلوبه الشعري، وتفوق طريقته الحياتية التي أثرت تأثيراً بالغاً في مريديه، ولم يستنكف من البوح برغبته في تقلد زمام السلطان النافذ الفاعل من أجل تغيير واقع الناس. لا عجب من أن يعيره أهل النقد الأدبي ويرشقونه بأقذع التهم، لا سيما بعد أن تبين للجميع أن بعضاً من أفكاره القومية الإصلاحية لاقت رواجاً في الأوساط السياسية النازية الآخذة في الانتشار والاتساع، ولكنه كان شديد الحرص على حريته يعارض معارضة شرسة كل محاولات الاستقطاب النازي، ويرفض جميع أصناف الإغراءات المعنوية والمالية التي حاول أساطين النازية أن يستميلوه بها.

من الضروري أن يذكر المرء، في هذا السياق، ما استشرفه جورج في أثناء الحرب العالمية الأولى من مصير بائس خضعت له ألمانيا بعد انتهاء الحرب، وذلك في قصيدته "الحرب" (Der Krieg) التي انتقد فيها التطرف القومي الجرماني.

في جميع الأحوال، لم يخطئ في توقعاته، إذ هزمت ألمانيا شر هزيمة، وأهين الشعب الألماني إهانة ولدت فيه مشاعر الثأر التي انفجرت في الحرب العالمية الثانية. ومن ثم، كان جورج مصرا على تقريع المثقفين الألمان الذين لم يفطنوا إلى مناهضة هذا الضرب من الانحراف. حقيقة الأمر أنه كان يحتقر الثقافة الألمانية المبنية على الذهنية البورجوازية والطقوسية الكنسية العتيقة. غير أنه لم يكتف بالنقد، بل سارع إلى تصور ثقافة ألمانية جديدة تستند إلى رفعة الروح وانضباط الفكر ورصانة المسلك وصدق المعاملات، في حين أن المجتمع الألماني عصرئذٍ كان مصاباً بألوان شتى من الانحطاط الاجتماعي والسياسي والروحي والفني.

ظن بعض مثقفي النازية أن مشروع شتفان جورج الإصلاحي، لا سيما في مجموعته "المملكة الجديدة" المنشورة عام 1928، إنما يمجد القومية الجرمانية، ويعد السبيل إلى بزوغ فجر الحركة النازية الإنقاذية. غير أن جورج كان يحلم بألمانيا السرية (Geheimes Deutschland) التي تصورها مبنية على مثال النموذج التراتبي الروحي الأرستقراطي. في ألمانيا هذه لم يكن للحزب النازي من مقام أو موضع، إذ إن المجتمع الروحي الجديد لا يطيق مثل هذه الانحرافات. حتى هتلر نفسه كان منبوذاً نبذاً قاطعاً من هذه المملكة، ينظر إليه جورج نظرة استصغار واستحقار. في كتاب تأريخي تحليلي رصين عنوانه "شتفان جورج وحلقته: من الشعر إلى الثورة المحافظة" (Stefan George et son cercle. De la poésie à la révolution conservatrice) يحاول أستاذ التاريخ بنجامين دمله أن يبين لنا كيف كان القائد جورج يؤمن بقدرة الشعر الصوفية على إيقاظ وعي الشعب وتحفيز النخبة المثقفة الغارقة في تخدرها المادي.

الطريق الأدبية الألمانية الثالثة

من جراء انتقاده التفاهة الألمانية المهيمنة منذ زمن الإمبراطورية الجرمانية المقدسة، طفق شتفان جورج يحلم باستعادة أمجاد الوحدة الألمانية الفرنسية في حضن المتحد الأروبي الذي أنشأه شارلمان أو قارلة (توفي في عام 814). لا شك في أن أخطر ما استشعره من انحراف في المجتمع الألماني الذهنية العسكرية التحشيدية التوسعية التي كانت تروم إذلال الآخرين والاستظهار عليهم. أما المجتمع الألماني الداخلي، فابتلي بآفات المادية المنتشرة في الطبقة الوسطى التي كانت تناهض الفن والأدب والفكر. غالباً ما كان جورج ينهر مجتمعة سائلاً إياه: "أين شاعرك يا عرق الجرمان المفتخر المدعي؟". كان الجواب واضحاً وضوح الشمس، إذ إن هذا المجتمع ألقى بعظيمه نيتشه في غياهب الجنون، وطرد رسام الرمزية الألمعي أرنولد بوكلين (1827-1901).

على غرار كثير من الأدباء الألمان الذين تذوقوا سمو الحياة الأدبية الباريسية، عكف جورج على مناصرة المذهب الرمزي في الفن وفي الأدب وفي الفكر. بعد عودته إلى ألمانيا، صمم على إحياء الشعر الألماني وتجديد عدته، ولكنه أدرك أن الشعراء الألمان أغلقوا على أنفسهم في مذهبين اثنين متعارضين: مذهب المؤانسة الذي يستخدم الشعر من أجل الترفيه والترويح عن النفس، ومذهب النقد الطبيعاني الاجتماعي الذي نعته جورج بالرسول الحامل راية الواقع. ومن ثم، عقد العزم على استثمار مجلته أوراق من أجل الفن استثماراً يعزز سبيل البلوغ إلى ابتكار الفن الجديد الذي يتجاوز المذهبين العقيمين هذين ويستلهم إبداعات الرمزيين الفرنسيين.

حلقة الأدباء الشبان الرمزيين

بفضل الجهد الجبار المبذول، التأمت حول الشاعر الملهم كوكبة من الشبان الذين عاينوا فيه سحر الشاعر الذي تجلله عظمة الكرامة الإنسانية، ورفعة الكهنوتية الرسالية، وجاذبية الاستقطاب الإلهامي الفائض. أما الغاية المنشودة فمحاربة الواقعية الحرفية السائدة في الأدب الألماني. ومع أن جورج أسهم في بناء جسر الانتقال من الرومانسية الألمانية والواقعية الأدبية المزدهرتين في القرن التاسع عشر إلى التعبيرية والشعرية الألمانية الحديثة الرائجتين في القرن العشرين، إلا أنه ما برح وحيد زمنه يحمل في ذاته خصوصية التعبير الشعري المبني على الأخلاقيات الأرستقراطية، والنظم الصوري، والأسلوب الغنائي النبرة الاستبهامي العبارة، والانتساب الكلاسيكي الإغريقي.

وعليه، استلهم جورج نهجه الإصلاحي من المدرسة الرمزية الفرنسية التي عد نفسه واحداً من تلامذتها، فضلاً عن ذلك، أعلن تتلمذه على كبيرين من كبارها، وهما: مالارمه وفرلن اللذان جسدا في نظره أبهى إبداعات الالتباس الإيحائي الخلاق، وذلك على رغم الاختلاف الاجتماعي بين عصبة ضفة نهر السين اليمينة التي تزعمها مالارمه، وعصبة ضفة النهر الشمالية التي قادها فرلن. ومع أن جورج لم يكن أول شاعر ألماني يستوحي أعمال الرمزيين الفرنسيين، إلا أنه نبغ في تجسيد مثال الشاعر الرمزي ببلاغته الساحرة وإيحائيته الغزيرة، وانفرد في مهر الحركة الرمزية الألمانية وطبعها بختم الأصالة المبدعة التي أسعفته في مشروع تجديد الأدب الألماني. كان شعاره تعزيز الفن من أجل الفن، وتصوير الواقع تصويراً يغير في بنيته المتجلية لنا، ذلك بأن غاية الشعر إعادة بناء الواقع حتى يستجيب لتطلعاتنا وطموحاتنا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بين عامي 1957 و1958 ألقى الفيلسوف الألماني هايدغر (1889-1976) ثلاث محاضرات تناولت قصيدة شتفان جورج "الكلمة" (Das Wort)، ونشرت في كتاب الفيلسوف الألماني "على طريق اللغة" (Unterwegs zur Sprache). من المعلوم أن نصوص جورج الشعرية أتت في المرتبة التفسيرية الثانية بعد نصوص هلدرلين من حيث حجم التناولات التي أنشأها هايدغر في تدبر معانيها الفلسفية. من الموضوعات التي كانت تجمع هلدرلين وجورج وهايدغر فكرة ألمانيا السرية التي تشير إلى أن القوى الملهمة الخلاقة في زمن من الأزمنة تظل منحجبة عن عيون أهل العصر ومنعقدة في سير بعض الشخصيات اللامعة المبدعة، وقد التأمت في ما دعاه جورج نفسه "المملكة السرية" المبنية على مرويات الشعب الأسطورية، بيد أن ما كان يستقطب انتباه هايدغر في هذه القصيدة إنما هو البيت الأخير: "هكذا تعلمت حزيناً العزوف: لا شيء يقوم حيث تسقط الكلمة"، لذلك أكب يستنطقه منطوياته المكتومة ويقوله ما لا يحتمل قوله، إذ يربط العزوف بحركة الكينونة عينها العصية على الأخذ الحساب والإمساك القاهر. على هذا النحو، يفرض هايدغر على جورج تصوره الأونطولوجي المبني على استجلاء الاختلاف الجوهري بين الكينونة والكائنات، ويقيده في مسار من التطور يفضي به إلى التخلي الطوعي عن قدرة الشعر على استنهار الكلمة واستجلابها بالقوة القاهرة، وعن ادعاء الهيمنة على الأشياء التي يقولها القصيد على طريقته. حينئذٍ يمكن الشاعر أن يدرك انحجابية الكينونة الممتنعة على الكائنات والمتجاوزة كل الكلمات.

إلا أن قصيدة "الكلمة" لا تطيق الانسلاك في مثل السياق التأويلي هذا، إذ إن جورج لا يوافق هايدغر على القول إن الجمال يكمن في محضر الكينونة، وبأن الكلمة أبلغ إلهاماً في طورها الأول المجرد من التعيين المرتبط بهوية الأشياء. ليس في نظر جورج من لغة أصلية متقدمة على الاختبار تحقق بحد ذاتها رسالة الشعر. فاللغة التي تحمل قابليات الإبلاغ الشعري تحتاج إلى اجتهاد الشاعر الخلاق وإلى السبك الثاني الذي يغني السبك الأصلي الطبيعي. على غرار مالارمه، كان جورج يؤمن بأن اللغة ينبغي أن تنغمس في معترك الحياة انغماساً إبداعياً يشارك الشاعر في تجسيده بواسطة الرسم التصويري الابتكاري الفذ. ومن ثم، لا نستطيع أن نتصور مقام اللغة، على نحو ما كان يذهب إليه هايدغر، من دون وساطة الإنسان المتأمل في جمالات الطبيعة، المستعين بقابليات التعبير المحتشدة في اللغة.

صحيح أن جورج، وقد استند إلى ملهمه مالارمه، عاين حدود العلاقة بين الكلمات والأشياء، فأقر بضرورة العزوف الطوعي عن العنف التعبيري الذي يقهر الأشياء، إلا أنه لم يبلغ، على غرار هايدغر، حدود التخلي الكلي عن اختبار العالم والاكتفاء باللغة حاملاً وحيداً، ومرشداً مهيمناً، وحاكماً مستبداً. بما أن اللغة تظهر وتبين وتعلن وتفصح، فإن الأفعال التعبيرية هذه إنما تفترض وجود العالم القادر على استثارة الاختبار الشعري. وعليه، لا يحق لهايدغر أن يفرض على قصيدة جورج رأيه في العزوف أو الإمساك أو الامتناع الأصلي (Verweigerung) الذي يطبع الكينونة في انوهابها الذاتي، على نحو ما جاء في تأملاته الانقلابية (Beiträge zur Philosophie, 115). الخطر في ذلك كله أن هايدغر انتهى إلى قول يخالف رأي شتفان جورج مخالفة صريحة، إذ طفق يصرح بأن الكائنات تتجلى حين تسقط الكلمة (Unterwegs zur Sprache، 216)، في حين أن خاتمة قصيدة الشاعر تعلن أن ما من كائن يقوم حيث تسقط الكلمة. من الواضح، والحال هذه، أن هايدغر ما برح يعتصم بامتناع الكينونة عن الانكشاف، مهيئاً بذلك السبيل إلى نشوء المنهجيات التفكيكية التي تهدم البناء اللغوي بأسره وتعطل ارتباط الكلمات بالأشياء.

هايدغر يقبض على هلدرلين

يبدو أن هايدغر كان يسعى إلى تحرير هلدرلين من أسر شتفان جورج والاستئثار بمقاصد شعر كبير الشعراء الألمان، بحيث يصبح الإنشاء الإبداعي عند هلدرلين عزوفاً عن الفعل الكلامي القاهر، واستسلاماً لإلهامات الكينونة الخفرة المعتلنة في اللغة. الحقيقة أن هايدغر أخذ يراجع تفسيراته الشعرية التي استثارتها قصائد هلدرلين، وقد تناولها تناولاً فلسفياً في تأملاته التي أنشأها في الثلاثينيات من القرن العشرين. فإذا به، بفضل مقارعة شعر شتفان جورج، ينقح تصوراته الفلسفية، فيكف عن مديح مقولات التأصيل الشعري، والاستشراف الفكري، وتأتي الحقيقة في الصنيع الفني، واقتدار اللغة الشعرية، وربط الشعر بمصير الشعب ومماهاته به، وتنصيب الشاعر نصف إله في محضر الكينونة المنحجبة، ويؤثر سبيل العزوف والأعراض والامتناع والتجرد والزهد من أجل تنزيه الكينونة عن مطامح الهيمنة التقنية الجارفة.

في جميع الأحوال، ما فتئ مقام شتفان جورج خاضعاً للجدل الفكري في ألمانيا، ذلك بأن بعضهم يعاينون فيه مرمم الغنائية الشعرية العظيم، والنحات اللغوي المبدع، في حين ينعته بعضهم الآخر بالشاعر الباطني الغامض المشوش الهذياني الرجعي المستكبر على الآخرين برطانة مبانيه، وتزيينية تراكيبه، وخواء معانيه. لا عجب من أن يعيب عليه الشاعر المسرحي برتولد برشت (1898-1956) مقاصد الاستعلاء المبثوثة في أعماله، قائلاً، "لم يكن فراغ قصائد جورج ليزعجني، ولكني أرى أن شكلها شديد الادعاء".

المزيد من ثقافة