Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

هناك ما يجعلنا نقول "تبا للترجمة"

لم يعد للرقابة التأثير الأبرز فهناك الآن حسابات شخصية و"google translate" وأمثاله

هناك تحديات سياسية ودينية وأخلاقية تواجه المترجم (اندبندنت عربية)

ملخص

#تباً_ للترجمة كم مرة نتفوه بهذه العبارة عند قراءة كتاب تلاعبت به #الرقابة لأسباب سياسية أو دينية أو فكرية

"تباً للترجمة"، كم مرة يمتعض بهذه العبارة يومياً أثناء قراءة عبارة ما حرفتها الترجمة، سواء أكان على الشاشة أم في الكتب؟ فمن سخرية القدر أن هذه العبارة التي "ابتكرتها" الترجمة إلى العربية باتت تردد أثناء قراءة الترجمة وسماعها.

لم تعد الرقابة التي تمارسها أجهزة بعض الدول العربية على الكتب المترجمة السياسية والأدبية وغيرها المشكلة الأبرز، فهذه وإن ما زالت حاضرة ومؤثرة إلا أنها صارت نقطة في بحر مشكلات الترجمة إلى العربية. وبعد أن انتقلت عدوى الرقابة إلى دور النشر، فبات كثير منها يمارس الرقابة الذاتية المسبقة، يحضر الآن في عالم النشر ما يمكن تسميته في استعارة من عنوان رواية شربل داغر بـ"شهوة الترجمان". فهناك في السوق العربية كتب كثيرة تصرف بها المترجمون وصاغوها "على مزاجهم". وبعد أن تكرس منذ عقود أن ينتقي مترجمون وناشرون فصولاً من مؤلفات فينقلونها إلى العربية ويستبعدون أخرى من المؤلفات نفسها، لأسباب بعضها يتعلق بالدين والأخلاق وبعضها بالسياسة، وفق اعتباراتهم، بتنا نقرأ كتباً مترجمة لا تطابق نصوصها الأصلية. وإذا ما كان وراء ذلك، في الغالب، أخذ في الاعتبار حسابات النشر والناشرين كي لا يواجه الكتاب صعوبات في التوزيع والأسواق، فإن هناك على ما يبدو حسابات أخرى تتعلق بالمترجمين أنفسهم. فإضافة إلى العبارة التي باتت تلازم المطبوعات العربية، وهي أن "ما يرد في النص يعبر عن رأي الكاتب وحده ولا علاقة للناشر به"، نقرأ أحياناً هوامش يضعها مترجمون يشيرون فيها إلى اختلاف آرائهم عما ينقلونه، على قاعدة ناقل الكفر ليس بكافر. وعلى رغم أن هذا حق للمترجم ويدل نوعاً ما على صدقية الترجمة والتزام المترجم النص الأصلي، فإنه لزوم ما لا يلزم، إذ من البديهي أن صاحب الرأي الوارد في النص هو الكاتب وليس المترجم، لكن يبدو أن هناك مخاوف تلاحق المترجمين، إضافة إلى الاعتبارات العقائدية والسياسية والاجتماعية لديهم.

لكن هذا كله يبدو بسيطاً أمام الفوضى والاستخفاف في نقل الكتب إلى العربية. ففي السوق، كي لا نقول في المكتبة العربية، هناك كتب مترجمة يتضح من الأسطر الأولى أن من تسميهم أغلفتها مترجمين ليسوا مؤهلين ومحترفين وممسكين بمضامين الكتب، ولا يتقنون اللغة العربية أيضاً. كذلك هناك في السوق كتب مترجمة عبر برنامج "غوغل" وأمثاله.

ضعف وإجحاف

من موقع المخضرم في عالم النشر يشير مدير دار "التنوير" حسن ياغي بحرقة إلى تراجع في مستوى الترجمة. ويصف حال الترجمة الآن بـ"الضعيفة والتجارية، إلا في حالات نادرة". وإذ يذكر ياغي بمترجمين كبار هم في الأصل باحثون وكتاب وشعراء يوثر ألا يحمل المترجمين الجدد مسؤولية ذلك، أو اعتبار أن مستوى الحاليين أدنى من السابقين. يقول إن "ما يتقاضاه المترجمون الحاليون يؤثر في عملية الترجمة ومستواها. فبدل كل صفحة مترجمة 10 دولارات، وفي إمكان المترجم أن ينجز عدداً محدوداً من الصفحات يومياً، مما يعني أن مجمل ما يتقاضاه المترجم من الترجمة لا يكفيه لمعيشته، إذ لا يوازي راتباً. وهذا الأمر مجحف في حق المترجمين عموماً والجيدين منهم خصوصاً. لهذا باتت الترجمة وظيفة ثانية غالباً ما يقوم بها المترجم في الأوقات الباقية من عمله الأول. وكان الأمر مشابهاً في السابق، لكن ثمة فارقاً مهماً بين الأمس واليوم، فالمترجمون السابقون كانوا هم من يختار النصوص، من ضمن أعمالهم واهتماماتهم الثقافية، في حين أن العملية اليوم هي تكليف للمترجم من جانب دار النشر. وفيما هناك مترجمون كثر هناك قلة منهم بمستوى جيد".

يتابع ياغي أن "المشكلة هذه تحصل فيما سوق النشر تتحول إلى سوق عالمية، ودور النشر العربية تعتمد بشكل رئيس، في ظل تراجع الإنتاج الفكري العربي، على الترجمة والأدب. وفي المقابل، الكاتب العربي إذا لم يترجم إلى الإنجليزية وتصدر مؤلفاته في بريطانيا والولايات المتحدة سيبقى محدوداً. القراءة صارت عالمية والقراء في العالم العربي يقرأون كتاباً منتشراً في الولايات المتحدة".

تراجع وخلل وأسباب

يؤكد المترجم الحارث النبهان أيضاً تراجع الترجمة في العالم العربي. وإذ يقول إن "دور النشر المحترمة أو الراسخة كانت تحافظ على سوية مقبولة، ولها معايير تتمسك بها"، يشدد على أن "هناك دور نشر تحاول جاهدة أن تحافظ على السوية على رغم الصعوبات".

ويستبعد النبهان أن يكون تراجع الترجمة بسبب ضعف المعرفة باللغات الأجنبية. يقول "أعتقد أن المعرفة باللغات الأجنبية عند المترجمين إلى العربية صارت أحسن، وكذلك الأمر بالنسبة إلى معرفة اللغة العربية، لذا لا أعتقد أن هناك مشكلة تخص القدرات الأولية".

يضيف "قبل 70 سنة كانت هناك ترجمات رديئة جداً. فالغث موجود منذ زمن لكن ربما توسعت مساحته. كثيراً ما نقرأ ترجمات قديمة أو جديدة نشعر بأنها أمينة وصحيحة لغوياً لكن النص بالعربية لا أدب فيه. وأنا لا أقبل أن يخرج نص أمين وبلغة صحيحة لكن بلا روح".

ويرجح النبهان أن يكون "الخلل في معايير" الترجمة إلى العربية حالياً ناتجاً من "ضعف السوق بالنسبة إلى الكتاب، لأن كل تجويد على المنتج هو كلفة إضافية على المنتج. ربما الإنترنت من الأسباب، فلا كتاب ينشر إلا ويقرصن ويسرق ويصير متوافراً على الشبكة، وفي العقود الأخيرة صار هناك مواقع متخصصة بهذا، مما يشكل ضغطاً هائلاً على دور النشر، فيما الجهات المسؤولة عن حقوق الكتاب في العالم العربي لا تلاحق الأمر".

يتابع النبهان "حين تقترح عليَّ ترجمة كتاب بلغة أجنبية، أبحث على النت عنه فأقرأ مقتطفات منه أو مراجعات عنه أو تعليقات بشأنه، أي لا يمكن الحصول على النص الكامل من كتاب مطبوع في الولايات المتحدة الأميركية أو بريطانيا إلا إذا اشتريته. هناك حماية للحقوق. أما في العالم العربي فلا حماية على رغم أنها ممكنة وليست صعبة".

فوضى أو لا تنسيق؟

يحاول رئيس "المنظمة العربية للترجمة" الدكتور بسام بركة إيجاد "توصيف علمي دقيق" لحال الترجمة إلى العربية. وهو إذ يقر بوصف الحال بـ"الفوضى" يستدرك "هناك فوضى، نعم ولا!". ويقول "لا أريد التحدث عن فوضى في مجال الترجمة، لكن أقول إنه لا تنسيق هناك بين مختلف الجهات التي تعمل في مجال الترجمة إلى العربية".

يضيف "أشبه ما يجري في العالم العربي في مجال الترجمة بخلية النحل. هناك عدد كبير من العاملات وهناك إنتاج جيد، لكن كل نحلة تعمل لوحدها من دون أي تنسيق مع أخواتها، فتفقد جميعها الهدف الذي يجب أن تعمل من أجله، وهو خدمة الملكة... المراكز والمؤسسات ودور النشر لا تعرف التنسيق في ما بينها من أجل خدمة ما سميت بـ(صاحبة الجلالة اللغة العربية)".

يتابع "الواقع أنه لا توجد مؤسسة واحدة للترجمة، هناك مؤسسات ممتازة وتعد نفسها مرجعيات في ما يتعلق بالترجمة في العالم العربي، وهذا صحيح، لكن ما ينقصنا هو مؤسسة واحدة تضم كل هذه المراكز والمؤسسات والمنظمات من أجل توحيد العمل وتحديد الهدف، وهو الإسهام في نهوض اللغة العربية".

اقرأ المزيد

الترجمة إبداع

يرى ياغي أن "الترجمة يجب أن تكون إبداعاً، وإلا لا قيمة لها". ويعتبر انطلاقاً من تجربته في النشر ومن قراءته في آن معاً أن "هناك مترجمين مؤهلون للتعامل مع النصوص التي بين أيديهم، وهناك مترجمين يعملون على مزاجهم".

ويؤمن النبهان بأن "الترجمة إلى حد ما هي إعادة تأليف. وأعتقد أن المترجم الجيد هو بالضرورة كاتب. لا شيء يمنعه من أن يكون كاتباً، شرط أن يتوافر لديه ما يقوله. الكاتب هو من يمتلك الأدوات وما يقوله. والمترجم يمتلك الأدوات أما ما يقوله فهو ملك الكاتب. النص في يد المترجم مثل المعدن فهو يذوبه ويعيد صياغته".

في المضمار ذاته يقول بركة إن "صدقية المترجم هي في التزامه روحية النص الأصلي. عندما ينقل المترجم من لغة إلى أخرى ما يهمني هو عملية المرور من النص الأول إلى النص الثاني. لا أتطلع إلى النص الأول فحسب، ولا إلى النص الثاني فحسب، إنما أتطلع إلى المرور من النص الأول إلى الآخر، ما الذي حصل؟ ما الذي ضاع؟ لأن هناك شيئاً يضيع في الترجمة من لغة إلى أخرى، ما الذي ضاع وما الذي بقي ولماذا بقي؟ هل يا ترى بقي لأن المترجم انتبه إليه أو تمسك به أو لأن اللغة الثانية لا تستطيع أن تعبر عن أمور موجودة في النص الأول فاضطر المترجم إلى أن يأخذ الناحية التي تسمح له اللغة الأخرى بالتعبير عنها فحسب".

يضيف بركة "المترجم يجب أن يقول ما يوجد في النص الأصلي. إنه قارئ قبل أن يكون مترجماً. عليه أن ينقل ما فهمه من النص الأصلي لا أن يراعي من سيقرأ النص المترجم. هناك تفاوض. يقول أمبرتو إيكو إنه عندما أترجم نصاً أقوم بالتفاوض معه ومع كاتبه (غير الموجود)، من أجل أن أؤدي ما أستطيع أن أؤديه في اللغة التي أترجم إليها، لأن كل لغة تعبر بطريقتها والخطاب الواحد يعبر عن أشياء كثيرة لا يمكن أن تنتقل كلها إلى اللغة الأخرى، لذلك يتفاوض المترجم مع النص الأصلي ويحاول أن ينقل أكثر ما يمكن مما يقصده المؤلف في النص الأصلي".

انطلاقاً من هذا يعتقد بركة أن لدى "المترجم ذاتية وهذه الذاتية تظهر في نقله النص. وكل نص يقرأ بطريقة مختلفة من شخص إلى آخر، بمعنى أن النص حروف سوداء في صفحة بيضاء. وهو نص ميت. القارئ أو المترجم يقرأ في البداية وينفخ فيه من روحه، ينفخ الحياة فيه. يقرأ ويفهم، لا يفهم النص بما فيه فحسب، ولكن يفهم النص أيضاً بما في ذهنه هو، لذلك هناك فلاسفة يقولون نحن لا نرى ما هو موجود في الواقع إنما ما نتخيل أنه موجود، بمعنى أن كل شيء يمر في ذهني وأنا أرى العالم بطريقة أخرى غير التي يراها فيها مثلاً الياباني أو الصيني أو الأميركي".

اختبار صعب

يأخذنا هذا الأمر إلى تعامل المترجم مع التحديات التي تواجهه أثناء عملية نقل النص. فالنص المترجم هو من لغة وثقافة مختلفتين عن اللغة والثقافة المنقول إليهما، مما يعني أن المترجم وإن كان مستوعباً النص الأصلي ومتمكناً من اللغة التي يترجم إليها وفيها، ربما يواجه قدرة هذه اللغة على التعبير. وهذا يحصل مع مترجمي النصوص الغربية الحديثة، الفلسفية والفكرية والأدبية خصوصاً، إلى العربية التي وفق النبهان "تطورت على مستوى المحكي" فيما هناك "قيود هائلة على تطورها". وهذا ما يضع المترجمين في اختبار صعب ليس أمامهم لتجاوزه إلا "الارتجال" و"ابتكار الحلول"، كما يكشف النبهان.

إضافة إلى هذا الاختبار اللغوي الثقافي هناك تحديات سياسية ودينية وأخلاقية تواجه المترجم، كأن يجد ما يشكل خطراً على الكتاب والناشر ومصلحته. فهناك، وفق عدد من المترجمين، حالات يمكن للمترجم أن يعالجها في عملية النقل، من دون أن يخون النص المترجم وروحه، لكن هناك ما يجب مراجعة الناشر في شأنه.

يقول النبهان "الاصطدام بالمحظورات الثلاثة، الدين والجنس والحكومات، أمر متوقع دائماً خلال عملية الترجمة. وأعتقد أن القدرة على الالتفاف على المحظورات متوافرة دائماً. وعلى رغم أن الالتفاف ليس أمانة، بل هو أداء المعنى بشكل قريب جداً من النص الأصلي، فإن المترجم في النهاية لا يريد أن يسد الطريق أمام الكتاب، لهذا يجد نفسه مضطراً إلى الالتفاف على المحظورات. وهناك حالات يمكن تجاوزها من دون اعتبار الالتفاف قلة أمانة. مثلاً اسم شجرة غير موجود بالعربية وغير مهم في سياق النص، لكن اسم شخص أو بلد، خصوصاً في موضوع اقتصادي أو سياسي لا يمكن تغييره أو حذفه وما إلى ذلك، إذ إن اللعب بهذا الأمر يعتبر خيانة للأمانة".

يضيف النبهان "أنا كمترجم خلال عملية الترجمة آخذ بالحسبان مستقبل الكتاب أو ما يمكن أن يسببه من مشكلات للناشر. وإذا ما وجدت ما يؤثر سلباً أتواصل مع الناشر بشأنه وأحاول ابتكار حلول، هذا أمر إجرائي، أنا أنبه الناشر إلى ما أعتبره خطراً لكن لا أغير في النص، هذا غير مقبول. ولا أتدخل في النص الأصلي إذا ما تضمن ما يخالف قناعاتي. ناقل الكفر ليس بكافر". ولا يمانع النبهان "وضع المترجم هامشاً يوضح فيه مخالفته رأياً ما في الكتاب".

وإذ لا يعارض بركة أن يضع المترجم هامشاً في شأن موقفه مما يترجمه، يفضل أن تكون قصدية الكتاب هي المرجع والحكم في الأمر. يقول "ماذا يقصد من الترجمة؟ إذا كنت أقصد وضع نص في التعليم طبعاً أستطيع أن أضع هوامش لأعلم الطالب كيف يفهم هذا النص، لكن إذا كان هذا النص للقارئ العام أو الباحث أو المثقف أو العالم فأنا كمترجم أفضل أن أدعه يفهم ما يريد منه. لأن كل ترجمة قراءة، وكل قراءة مختلفة عن القراءة الأخرى باختلاف قارئها".

وفي هذا الشأن يروي النبهان "في بداية مسيرتي المهنية ترجمت كتاباً لنعوم تشومسكي، ووضعت في كل صفحة تقريباً هوامش تعريفية ليست موجودة في النص الأصلي إنما وجدت أنها مفيدة للقارئ العربي. الآن لا أفعل ذلك. أنا مترجم ولست معلم مدرسة. والقارئ عليه أن يكون في مستوى النص الذي يقرأه".

"صلاحيات" المترجم

يتضح هنا معنى ما يقوله الناشر ياغي عن "صلاحيات" المترجم. فياغي الذي يرفض أن يتصرف المترجم في النص، كأن يحذف أو يعدل، إضافة إلى رفضه التعامل مع "المترجم دون المستوى". يقول إن "ما هو ممنوع على المترجم ربما يبيحه الناشر لنفسه". فالتعامل مع "القضايا العالقة في النص، التي تشكل خطراً على نشر الكتاب وتوزيعه" من اختصاص الناشر. هو من يتولى حلها مع المترجم في إيجاد صيغة لا تخون النص أو تدهور مستواه، أو مع صاحب الكتاب إذ يراجعه الناشر ويفاوضه ويحاوره لإيجاد حل أو مخرج. ويكشف ياغي في هذا الإطار عن وجود مخطوطات كثيرة لديه، وربما لدى دور نشر أخرى، تنتظر حلولاً أو ربما لم ولن تجدها، ويصعب نشرها وتوزيعها في البلدان العربية كلها.

ويلفت ياغي إلى أن حسابات الربح والخسارة لم تكن موجودة سابقاً، حين كانت دوافع اختيار الكتب للترجمة ثقافية وغالباً ما تصدر الاقتراحات في شأنها من المترجمين الذين هم، في زمن ماض، كتاب وباحثون ومفكرون وأكاديميون.

عملية الترجمة

تطرح هذه الخسارة التي تقع على الناشر لا على المترجم لكونه "غير مسؤول" وفق ياغي، إضافة إلى الخسائر التي يتكبدها قارئ/ مشتري كتاب ذي ترجمة رديئة، أسئلة عن عملية الترجمة، وكيف تتم.

يقول بركة "عملية الترجمة تبدأ باختيار المؤلف وأي كتاب له ودراسة مدى تلامه مع المفكر والمثقف العربي، ثم بعد المؤلف واختيار الكتاب يأتي اختيار المترجم، ثم اختيار مراجع الترجمة، ثم التحرير (القراءة العربية لوحدها) ثم التنسيق ثم إصدار الكتاب، لذلك سميت عملية الترجمة نوعاً من الصناعة. هي ليست حرفة أو هواية أو تجارة إنما صناعة بكل ما في الكلمة من معنى".

ويرفض بركة أن "يخرج النص المترجم شخص واحد فقط، أي المترجم"، مضيفاً "صحيح أن المترجم فاعل أساسي في عملية الترجمة، ولكنه يوجد في سيرورة متعددة الأقطاب. إن الكتاب المترجم الذي يقع بين أيدينا إنما هو نتيجة مراحل عدة من الأعمال التي تقوم بها جهات عدة. هناك من يختار النص ومن يختار المترجم، وبعد المترجم هناك المراجع وله دور كبير. في المنظمة العربية للترجمة ينظر المراجع في النص الأصلي والنص المترجم، ويقابل بينهما وكأنه هو الذي يترجم، ثم يعيد لنا ما يراه غير صحيح ونحن ننقل ذلك إلى المترجم. وبعد أخذ ورد يصدر النص بشكل ممتاز، ثم يأتي التدقيق اللغوي، وهو في نظري مهم جداً. نحن لدينا محررون يعملون على أن تكون العبارة في النص المترجم عربية. لا نريد أن تكون الجملة صحيحة إنما أن تكون عربية، وهناك فرق بين الاثنين. يجب أن يحافظ على مستوى الترجمة بأن تحول من عمل تجاري إلى صناعة تبغي الكمال".

لكن ليست جهات النشر كلها مؤسسات بالمعنى الكامل والضخم للكلمة. هناك دور نشر متواضعة تتداخل مهام العاملين فيها المحدودين عددياً. لهذا تنعقد العملية عند ما يسمى "الناشر، سواء أكان مؤسسة أم داراً أم شخصاً". فالناشر، وفق بركة، "هو المسؤول عن عملية النشر وعن مستوى الترجمة، لأنه هو الذي ينشر وهو من يملك الكلمة الأولى والأخيرة".

ويقول النبهان "في البلدان الأخرى هناك مترجم وناشر، لكن هناك المحرر أيضاً، هذا المحرر عملياً مفقود عندنا. مفقود لأن كلفة تأديته وظيفته مرتفعة جداً ولا يستطيع الناشر العربي تحملها. وإذا تورطت دار نشر بمترجم سيئ تعالج الأمر بالمحرر الجيد إذا ما كان موجوداً، لكن عندما لا يكون هناك محرر جيد يخرج النص كما أنجزه المترجم السيئ".

وإذا ما كانت جهة النشر حكومية ولديها موظف محرر أو مراجع، ربما لا يقوم بدوره على أكمل وجه لأسباب بيروقراطية. وفي هذا السياق يقول النبهان "أنا لا أعول على مشاريع النشر الحكومية، أعول على ناشر القطاع الخاص. لديَّ قناعة راسخة أن ليست وظيفة الحكومات صنع الثقافة. يمكنها دعم الثقافة لكن أن تصنعها فهذا ليس شأنها ولا تنجح المؤسسات البيروقراطية فيه أصلاً".

في المقابل يقول بركة "لا بد من تدخل الدولة للحفاظ على مستوى الترجمة، بالدعم المادي والمعنوي وبحماية هذه الصناعة في الوطن العربي وفي الخارج. وعندما قلت لا بد من وجود مؤسسة كبرى تضم تحت جناحها كل المؤسسات والمراكز التي تعمل في الترجمة إلى العربية، كنت أقصد أن تكون هناك جهة رسمية عربية، تخضع للسياسة العربية العليا، وتضع الخطوط الكبرى لعمليات النقل إلى العربية فتقودها وتوجهها وتمولها".

مدرسة وتيار

يلفت ياغي إلى أن "الترجمات اليوم نوعان، هما الروايات والأعمال الأخرى، بينما هناك نوع ثالث صار شبه غائب، هو الفلسفة والشغل الثقيل، ونبحث عن مترجمين مؤهلين له أو مهتمين به".

وتذكر إشارة ياغي هذه بفئة من المترجمين هم في الحقيقة أكثر من مترجمين، هم باحثون ومفكرون وكتاب وأكاديميون ومتخصصون، اشتغلوا وانشغلوا في هذه الحقول، وأبدعوا وأنتجوا فيها، وعدوا الترجمة نشاطاً معرفياً وتعريفياً لا بد منه، وممتعاً أيضاً. وما زالت ترجمات هؤلاء، وهي بمثابة أعمال إبداعية لهم، محفوظة في المكتبة العربية وتحفظ توقيعاتهم ولمساتهم. وبرز من هذه الفئة: عبدالرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وإمام عبدالفتاح إمام وعلي أدهم وفليكس فارس وكمال الحاج وماجد فخري ومطاع صفدي وموسى وهبة وجورج زيناتي وحسن قبيسي وأبويعرب المرزوقي وجورج أبي صالح وسالم يفوت وجورج طرابيشي وحيدر حاج إسماعيل وفتحي المسكيني... وآخرون.

إضافة إلى هذه المدرسة من جهة وإلى المترجمين المتخصصين بالترجمة وبالأنواع التي ينقلونها من جهة أخرى، هناك تيار حاضر من المترجمين الذين لا يكتفون بنقل النص إلى العربية، بل يفكرون فيه ويحاورون الكتاب أصحاب النصوص المترجمة. ولحرصهم على الدقة والأمانة الفكريتين العلميتين يشاركون أصحاب النصوص في عقولهم. وهناك مترجمون من هؤلاء ارتبطت أسماؤهم بأصحاب النصوص، متخصصون بمشاريعهم، مثل كمال أبوديب الذي نقل "الاستشراق" لإدوارد سعيد إلى العربية وقدم له، وهاشم صالح المؤتمن على ترجمة مؤلفات محمد أركون إلى العربية، وقد حاوره وأدرجت حواراته في كتب أركون إضافة إلى تدخلاته الكثيرة التي تتجاوز الترجمة إلى الشرح والتوضيح. وهناك الآن، على سبيل المثال لا الحصر، مترجمون لا يقصرون عملهم على النقل اللغوي لأعمال الباحث وائل حلاق المتخصصة في القرآن والشريعة والدولة الإسلامية (المستحيلة) والاستشراق وفلسفة طه عبدالرحمن. فهؤلاء وهم عمرو عثمان وأحمد محمود إبراهيم ومحمد المراكبي وكيان أحمد حازم يحيى يفتحون معه ورشة حوار لغوي وفكري، تدخل في التفاصيل وما بين السطور بهدف الأمانة والدقة والوضوح.

ولا يقتصر حوار تيار الترجمة هذا على التواصل مع المفكرين العرب، بل يشمل الحوار مفكرين أجانب تترجم أعمالهم. وفي حال كان المؤلف متوفى يراجع الترجمة متخصصون بأنواع تلك الكتب، وفي أحيان كثيرة متخصصون بأصحابها ومشاريعهم، كأن يراجع جورج زيناتي ومطاع صفدي ترجمة "الكلمات والأشياء" لميشيل فوكو، وأن يراجع محمد المعزوز ترجمة الزواوي بغوره كتاب "حكم الذات وحكم الآخرين" لفوكو، فيما يراجع بغوره ترجمة نصير مروة كتاب "المجتمع العقابي" لفوكو أيضاً، وأن يراجع زكي نجيب محمود "الموسوعة الفلسفية المختصرة" (ترجمة فؤاد كامل وجلال العشري وعبدالرشيد الصادق)، وأن يراجع علي أدهم ترجمة فؤاد كامل كتاب "العزلة والمجتمع" لنيكولاس برديائف، وأن تراجع هبة رؤوف عزت ترجمة حجاج أبوجبر "سلسلة السيولة" لزيخمونت باومان، وأن يراجع إسماعيل المصدق ترجمة فتحي المسكيني كتاب "الكينونة والزمن" لمارتن هيدغر، فيما يراجع مشير عون ترجمة المصدق كتاب "الأسئلة الأساسية للفلسفة" لهيدغر. وهذه أمثلة قليلة من كثير في المكتبة العربية الضخمة.

ولا تقتصر المراجعة على مراجعة النص، بل تتجاوزها أحياناً لتغدو تقديم ترجمة أخرى غير السابقة، هذا ما أقدم عليه فالح عبدالجبار، إذ أعاد ترجمة عمدة كتب كارل ماركس "رأس المال"، الذي سبق أن ترجمه الأديب محمد عيتاني ولجنة من الجامعيين.

وكما في الفلسفة والاقتصاد والسياسة وغيرها كذلك في الأدب. فهذا كاظم جهاد ينقل مجدداً إلى العربية "الكوميديا الإلهية" لدانتي ألفييري كاملاً، على رغم امتداحه ترجمة الأديب المصري حسن عثمان. والدافع وراء ذلك هو تقديم نص بالعربية يواكب الزمن والحداثة وذائقتهما، إذ إن الترجمة الأولى حصلت في منتصف القرن العشرين.

وليس بعيداً من ذلك ترجمة الشاعر "الحديث" سركون بولص، في 2008 كتاب "النبي" لجبران خليل جبران (1923)، بعد نحو نصف قرن من ترجمة ميخائيل نعيمة النص نفسه.

في المقابل، وفيما يؤكد الناشر ياغي التزام داره مراجعة النصوص المترجمة من جانب متخصصين بالترجمة وبالنوع المترجم، قائلاً إن هناك "شخصين يقارنان الترجمة بالأصل"، هناك دور نشر لا تشير حتى إلى المترجمين ولا تذكر أسماءهم.

تجربة مترجم

يروي المترجم عماد الدين رائف تجربته في الترجمة "خلال عملي على نقل ما كتب باللغات السلافية عن المشرق نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لم أواجه أي مشكلات تتعلق بمحظورات، إذ لا رقابة ذاتية لديَّ على ما أترجم، وأعرف سلفاً أن المردود المالي للترجمة الأدبية لا يكفي للعيش. فعلى رغم أن بعض ما ورد في نصوص أغاتانغل كريمسكي (قصص بيروتية) وستيبان كوندوروشكين (قصص سورية، دمشق 1902) وغيرهما لم يكن منصفاً في حق أجدادنا، فإنني أوردت التوصيفات كما جاءت، وعلقت عليها. وقد صدرت الترجمات في بيروت، ولم تخضع لأي رقابة، كما أن رواية مارينا هريميتش (أجنبية في سيارة حمراء)، لم يطل ترجمتها أي تعديل، على رغم أنها مست بتابو الطوائف اللبناني، وتعاملت معه الكاتبة بفكاهة".

يضيف "خلال السنوات الثلاث الماضية بعد أن فتح معهد الكتاب الأوكراني الباب أمام دعم الترجمات نشرت رواية فولوديمير سامويلينكو (زمن الأحجار المتناثرة) في القاهرة، على رغم أنها تضمنت سخرية إلى حد ما في شأن كيفية حصول مصريين على درجة الدكتوراه في أوكرانيا. ونشرت رواية أندريه كوكوتيوخا (هناك حيث يختفي البشر) في بيروت، بكل ما فيها من جنس وسكر، وهي من الروايات الحديثة القليلة التي تصف (غيبوبة الفودكا). على رغم أن الهدف الرئيس لدى دور النشر وصول الكتاب (كسلعة) إلى السوق العربية. وغالب الظن لديَّ أنها طبعت من دون قراءة من قبل الناشر أو المدقق اللغوي، فقد نشرت مع أخطائها الطباعية، لكن الحال لم تكن كذلك مع رواية (الزر) لإيرين روزدوبودكو، وهي من أشهر الروائيين الأوكرانيين. فكان أن حظيت دار نشر عربية بشراء حقوقها، ويعتبر الجنس والخمر من التابوهات في معظم البلاد العربية. وكان عليَّ أن أرسل نبذة عن الرواية وتعريفاً بها وبالكاتبة، ثم أترجم المقدمة والفصل الأول. وربما لعب التابو دوراً في جمود هذا المشروع، فلم يحظَ القارئ العربي بالتعرف إلى كاتبة كبيرة عبر أحد أعمالها. وعندما عرضت الفكرة على ناشر لبناني، قال (ممكن مع حذف وصف الجنس، ومكان الخمر تقول، احتسى شرابه المفضل). فما كان مني إلا أن نشرت الفصل المترجم على مدونتي (دفاتر الأدب الأوكراني)، ونشرت هناك قبلها بعضاً من رواية سيرغي سينغايفسكي (الطريق إلى أسمرة)، التي لم تحظَ بأي دعم على رغم أهميتها السياسية. عام 2018 أخبرني أحد الناشرين أنه ما كان ليسمح بنشر قصيدة (في مديح إبليس)، ضمن ديوان (الأوراق الذابلة)، لكونه يمس بمشاعر المؤمنين، لكن -والحمد لله- كان الديوان قد نشر قبل ذاك بعام في كييف، ولم تمس دراما إيفان فرانكو الغنائية الخالدة بمشاعر المؤمنين لأكثر من قرن على الضفة اليمنى للدنيبر".

كتب

إضافة إلى كتاب "فضائح الترجمة عبر العصور" للورانس فينتي بين أيدي العرب عدد كبير من الكتب المهمة عن الترجمة، ومن أبرز ما صدر في السنوات القليلة الماضية "فقه الفلسفة - الفلسفة والترجمة" لطه عبدالرحمن، و"المترجم الخائن" لفواز حداد، و"شهوة الترجمان" لشربل داغر، و"تقاسيم ترجمية" لجمال شحيد.

على رغم تأليف فينتي كتباً عدة عن الترجمة، منها "اختفاء المترجم" و"تاريخ الترجمة"، يعد كتاب "فضائح الترجمة" واحداً من أكثر الكتب المتخصصة تأثيراً وإثارة. وإذ ينطلق فينتي من القول الشائع الذي يصف الترجمة بأنها شكل من التأليف، يعرض كيف يبخسها قانون حقوق النشر حقها، وتقلل الأكاديمية من قيمتها، وتستغلها الحكومات والمنظمات والناشرون. ويسعى فينتي في كتابه إلى صوغ أخلاقيات للأعمال المترجمة تحترم الاختلافات الثقافية واللغوية.

أما "فقه الفلسفة" فهو محاولة من عبدالرحمن لتبيان سبب عدم قدرة الفلسفة العربية على تحصيل الإبداع على رغم حركة الترجمة قديماً وحديثاً. ويقترح الفيلسوف المغربي مبدأين هما تأسيس فلسفة حية في مقابل الفلسفة الجامدة السابقة واتخاذ ترجمة تأصيلية في مقابل الترجمة التحصيلية والترجمة التوصيلية اللتين غلب العمل بهما في نقل النصوص الفلسفية الأجنبية.

تحكي رواية حداد المعاناة التي يستجلبها المترجم لنفسه نتيجة خيانته ما يترجمه، فالترجمة بالنسبة إليه هي ما يعتقد أنه حقيقة وليس ما تعنيه الكلمات. وهكذا تغدو خيانة الترجمة بمثابة خيانة للحقيقة والواقع، إذ يفقد "المترجم الخائن" السيطرة على حياته ومصيره.

ولعل "شهوة الترجمان" لداغر تجعل الترجمة طريقاً للحقيقة، إذ تتكشف لبطلها حقائق لا تتعلق بجرائم غامضة فحسب بل بتاريخ الأدب والترجمة، كأن تفضي تنقيباته في سيرة المترجم الأول لـ"ألف ليلة وليلة" إلى الفرنسية أنطوان غالان، إلى أنه تصرف في النص بقدر ما ترجمه.

أما "تقاسيم ترجمية" لشحيد فيجمع ما بين سيرة الكاتب وتجربته التي امتدت لعقود مع الترجمة وبين المساهمات في مؤتمرات ومقالات متفرقة. وفي حين يعرض شحيد خبرته وتفاصيلها متجولاً بين أعماله يرفع الترجمة إلى رتبة "حلقة الوصل بين اللغات والحضارات والبشر".

المزيد من تحقيقات ومطولات