ملخص
تسعى #الصين في ظل #الصراع_التجاري والاقتصادي مع أميركا والغرب، إلى ترتيب اتفاقات مع شركائها التجاريين والاقتصاديين للتعامل #باليوان والعملات الوطنية لتلك الدول
أثارت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن ضرورة تقليل أوروبا اعتمادها على الدولار الأميركي في تعاملاتها الخارجية جدلاً واسعاً في شأن استمرار العملة الأميركية متربعة على عرش التعامل المالي والتجاري الدولي. وجاءت تصريحات ماكرون في مقابلته الصحافية في سياق تأكيد ألا تبدو أوروبا "تابعة للسياسة الأميركية"، وإن حاولت الرئاسة الفرنسية بعد تلك المقابلة التأكيد أن الرئيس الفرنسي طالما رأى أن "العلاقات الأوروبية - الأميركية في غاية الأهمية".
وذكر قصر الإليزيه أن الرئيس "ماكرون أكد مراراً أن الولايات المتحدة حليف، ونتقاسم معها قيما مشتركة"، لكن لأن تصريحات الرئيس الفرنسي عن ضرورة الابتعاد عن الدولار جاءت عقب عودته مباشرة من زيارة رسمية للصين، فقد جدد ذلك الحديث عن التحديات التي تستهدف إزاحة الدولار عن عرشه، بخاصة أن الصين التي تملك ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، تسعى إلى التصدي لفرض الهيمنة الاقتصادية والمالية الأميركية على العالم.
ليست الصين وحدها في هذا السياق، بل إن روسيا وغيرها من الدول التي تتعرض لعقوبات اقتصادية واسعة ومشددة من أميركا والغرب تسعى أيضاً للنيل من تربع الدولار الأميركي على عرش النظام المالي العالمي منذ الثلث الأخير من القرن الماضي، وذلك في محاولة من تلك الدول لتخفيف تأثير العقوبات فيها من ناحية، وسعياً لتغيير التفرد الأميركي كقوة عظمى وحيدة في العالم وباتجاه نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
توجه قديم
ليست تلك المحاولات لإزاحة الدولار عن عرشه بجديدة، كما أن التغيرات التي ميزت القرن الحالي منذ بدايته قللت بالفعل من دور الدولار كعملة رئيسة في العالم، فقد أصبحت العملة الأوروبية الموحدة، اليورو، تحتل نصيباً معقولاً من الاحتياطات النقدية الدولية ومن حجم التجارة والتبادلات والمعاملات المالية الدولية، كما أن لجوء بعض الدول لاستخدام الحسم بالعملات الوطنية في التعاملات التجارية فيما بينها يأتي على حساب هيمنة الدولار الأميركي على تلك التعاملات من قبل. وإن كانت وتيرة تلك التحركات زادت الآن، إلا أنها بدأت إرهاصاتها منذ نهاية القرن الماضي، حتى إن بعض الدول النفطية مثل العراق وليبيا حاولت تسعير النفط بغير الدولار، لكنها لم تنجح. ويعد تسعير النفط، من بين بقية السلع الرئيسة في العالم، بالدولار من أهم العوامل التي تحافظ على الدولار متربعاً على عرش النظام المالي العالمي.
ولم تبدأ جهود روسيا للتخلي عن التعامل بالدولار مع الحرب في أوكرانيا مطلع العام الماضي وفرض العقوبات الصارمة على روسيا من قبل أميركا والغرب، بل إن تلك الجهود بدأت في أعقاب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014 وبدء فرض عقوبات غربية على موسكو. وقبل حرب أوكرانيا بعام، أي في ربيع عام 2021، أعلن وزير المالية الروسي أنطون سيلوانوف أمام منتدى بطرسبورغ الاقتصادي أن بلاده ستغير هيكلة صندوق الثروة السيادي للتخلي نهائياً عن الدولار الأميركي. وأضاف "لقد اتخذنا قراراً، مثل البنك المركزي، بخفض استثمارات صندوق الثروة السيادية في الأصول الدولارية... إذا كان لدينا اليوم نحو 35 في المئة من استثمارات صندوق الثروة السيادية بالدولار و35 في المئة باليورو من حيث الهيكل، فقد قررنا الخروج من الأصول الدولارية بالكامل، واستبدلنا بالاستثمارات بالدولار زيادة اليورو، وزيادة الذهب. الهيكلة الجديدة ستصبح الدولار: صفر، اليورو: 40 في المئة، الرينمينبي "اليوان الصيني" 30 في المئة، الذهب: 20 في المئة، الجنيه الاسترليني والين: 5 في المئة لكل منهما".
ولعل هذا ما حدث بالفعل في غضون العامين الأخيرين، بخاصة أن العقوبات الغربية قلصت بالفعل الموجودات الدولارية للبنك المركزي الروسي عموماً، في الوقت الذي زادت فيه تعاملات روسيا بالعملة الصينية بعد اتفاق البلدين على حسم كثير من المبادلات بينهما بالعملات الوطنية: الروبل الروسي واليوان الصيني.
عرش الدولار
تسعى الصين بقوة وبجهد حثيث، في ظل الصراع التجاري والاقتصادي مع أميركا والغرب، إلى ترتيب اتفاقات مع شركائها التجاريين والاقتصاديين للتعامل باليوان والعملات الوطنية لتلك الدول في حسم التبادلات بينهم ابتعاداً عن الحسم بالدولار الأميركي. وربما ذلك ما جعل السفير الصيني في طهران يصرح لوسائل الإعلام الإيرانية هذا الأسبوع بأن إزاحة الدولار عن عرشه باتت قريبة.
وقال تشانغ هوا في مقابلة مع وكالة "تسنيم" الإيرانية إن الحكومة الأميركية تستخدم الدولار كأداة لحماية مصالحها الجيوسياسية وكبح عجلة تنمية الأنظمة الاقتصادية الأخرى. وأشار إلى "تدني ثقة العالم بالدولار بشكل حاد"، وأن عديداً من الدول النامية "تطالب بالتخلي عن الدولار باعتبارها العملة الرئيسة في التجارة"، وأن "وتيرة إنهاء هيمنة الدولار تتسارع في التجارة الدولية"، لكن ذلك التفاؤل الصيني بإزاحة الدولار الأميركي عن عرشه يبدو مبالغاً فيه. وكما يرى كثير من الاقتصاديين والمحللين فإن استمرار تسعير السلع الرئيسة، كالنفط والغاز والذهب، وغيرها، بالدولار يحفظ للدولار مكانته العالمية، حتى وإن تراجعت بعض الشيء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكانت نسبة الدولار من الاحتياطات النقدية لدى البنوك المركزية حول العالم لدى طرح العملة الأوروبية الموحدة "اليورو" عام 1999 عند أكثر من ثلثي الاحتياطات العالمية "71 في المئة". وقبل عامين، أوضحت أرقام صندوق النقد الدولي في شأن الاحتياطات الدولية بالعملات الأجنبية انخفاض نصيب الدولار من الاحتياطات النقدية لدى البنوك المركزية حول العالم إلى 59 في المئة في الربع الأخير من عام 2020، وذلك أدنى مستوى له في ربع قرن، وربما تكون تلك النسبة انخفضت أكثر في العامين الأخيرين، لكن يظل نصيب الدولار أكبر من أي عملات رئيسة أخرى كاليورو والاسترليني والين واليوان، وغيرها.
أما بالنسبة لأشكال الهيمنة الأخرى للعملة الأميركية، فيمثل حجم الدين المقيم بالدولار نحو نصف الدين العالمي، كما أن نحو 40 في المئة من المعاملات عبر نظام "سويفت" للمعاملات المالية الدولية تتم بالدولار الأميركي. صحيح أن اليورو أضبح يحتل مكانة ثاني عملة احتياطات لدى دول العالم بعد الدولار بنسبة نحو 20 في المئة من احتياطات تلك الدول من النقد الأجنبي. أما اليوان الصيني الذي تحاول الصين منذ سنوات جعله عملة احتياط دولية، فلا يمثل سوى أكثر قليلاً من اثنين في المئة من احتياطات النقد الأجنبي لدى دول العالم.
يرجع ذلك إلى القيود التي تفرضها الصين على حركة الأموال في اقتصادها، والتي تعوق محاولاتها لجعل اليوان عملة احتياط دولية. وبدأت القيادة الصينية في العامين الأخيرين تخفيف كثير من تلك القيود، وربط أسواقها بالنظام المالي العالمي بشكل أقوى، لكن تأثير ذلك لم يظهر بعد، وربما يحتاج الأمر لوقت طويل قبل أن يزيد نصيب اليوان في النظام المالي العالمي.
استخدام العملات الوطنية
ربما يعود التفاؤل الصيني بتسارع وتيرة تخلي العالم عن الدولار كعملة مهيمنة على النظام المالي العالمي إلى ما نشهده من محاولات متعددة حول العالم لاعتماد العملات الوطنية في المبادلات التجارية والاستثمارية بعيداً من الدولار الأميركي. وتراهن الصين أيضاً على أن الانفراج السياسي في الشرق الأوسط والمصالحات بين إيران ودول الخليج العربية قد تؤدي أيضاً إلى الابتعاد عن الدولار. وعلى رغم بعض التقارير حول استعداد السعودية، أكبر منتج ومصدر للنفط في العالم، لدراسة تسعير النفط لزبائنها الآسيويين بغير الدولار، وتحديداً للصين باليوان إلا أن تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" في وقت سابق من هذا العام استبعد ذلك الاحتمال، لكنه لم يستبعد أن تبدأ دول خليجية في دراسة استخدام العملات الوطنية، اليوان الصيني والعملات المحلية في التبادلات التجارية مع الصين في غير صادرات الطاقة.
شهدنا أيضاً أخيراً اتفاق البرازيل، في ظل القيادة الجديدة للرئيس لولا دا سيلفا، والأرجنتين على التبادل بينهما بالعملات الوطنية في سبيل التخلي عن استخدام الدولار الأميركي، على أن يسعى البلدان لتوسيع ذلك الاتفاق ليشمل 33 دولة تشكل تجمع دول أميركا اللاتينية والكاريبي. ومع أن الهند حتى الآن لم تتبن توجهاً مماثلاً، فإنها بدأت في استخدام عملات أخرى غير الدولار في بعض مبادلاتها التجارية. فعلى سبيل المثال تشتري الهند النفط الروسي وتدفع مقابله بالدرهم الإماراتي، بحسب سعر صرفه مقابل الروبل الروسي، "وإن كان الدرهم مثل كل العملات الخليجية مرتبطاً تماماً بالدولار الأميركي، فهذا يضمن للهند تفادي خسائر تذبذب سعر صرف الروبية والروبل".
مكانة رئيسة
حتى الآن، لا يبدو أن كل تلك التحولات تهز بقوة هيمنة الدولار الأميركي على النظام المالي العالمي. صحيح أن مكانة الدولار عالمياً تتراجع، وربما يفقد تدريجاً بعضاً من الهيمنة والسطوة التي أنهى بها القرن الماضي، لكنه يظل العملة الرئيسة في العالم. وعلى رغم كل تلك التغييرات التي تبدو متسارعة فإن وضع الدولار دولياً قد يتأثر سلباً، لكنه لن ينهار.
وفي نهاية العام قبل الماضي، خلص تقرير لمجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي "البنك المركزي" الأميركي إلى أنه "في غالب المعايير فالدولار هو العملة السائدة ويلعب دوراً عالمياً يتجاوز نصيب الولايات المتحدة من الناتج الإجمالي العالمي، إلا أن ذلك لا يمكن الركون إليه".
وبحسب التقرير، تراجع نصيب الدولار من احتياطات النقد الأجنبي لدى البنوك المركزية حول العالم من نسبة 71 في المئة عام 2000 إلى نسبة 60 في المئة عام 2021، كما تراجعت نسبة المستثمرين الأجانب الذين يملكون سندات خزانة أميركية دولارية من 50 في المئة عام 2015 إلى نسبة 33 في المئة. وبنهاية الربع الأول من 2021 كان المستثمرون الأجانب يملكون 7 تريليونات دولار في شكل سندات خزانة، من إجمالي سندات الخزية البالغة أكثر من 21 تريليون دولار.
في نهاية التقرير، يعرض واضعوه على مجلس محافظي البنك المركزي الأميركي التحديات التي تواجه هيمنة الدولار عالمياً. وفي المقدمة يقدرون أن العملة الأوروبية الموحدة "اليورو" هي التي يمكن أن تمثل تهديداً لسيادة الدولار في العالم. ويعددون الأسباب من حيث كبر حجم اقتصاد أوروبا ككتلة وتشابك علاقاتها التجارية الدولية، لكن ذلك يبقى مرهوناً بمزيد من التكامل بين دول الاتحاد الأوروبي، و"هو ما لا يمثل خطراً عاجلاً على وضع الدولار عالمياً في المدى القريب"، بحسب التقرير.
أما التحدي الثاني الذي يذكره التقرير فهو اليوان الصيني، حيث ينمو الاقتصاد الصيني بسرعة، ويتوقع أن يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي للصين نظيره الأميركي بحلول 2030، كما أن الصين هي أكبر دولة مصدرة في العالم، لكن التقرير يعدد بعض الأسباب التي قد لا تجعل اليوان يهدد سيطرة الدولار عالمياً، ومنها بالأساس أن العملة الصينية لا تمتع بحرية سعر الصرف مثل الدولار أو اليورو.
لا بديل بعد
وفي مطلع العام الماضي، حذر الملياردير الأميركي ستانلي دراكينميللر من أن الدولار قد لا يصبح عملة الاحتياط العالمية الرئيسة في غضون 15 عاماً. وأضاف "لا أرى أي فترة في التاريخ كانت فيها السياسات المالية والنقدية منفصلة تماماً عن الظروف الاقتصادية مثل هذه". وتأتي أهمية ما قاله دراكينميللر ليس من كونه أحد أكبر مديري الصناديق، ولكن لأنه المستثمر الذي راهن مع جورج سوروس عام 1992 على الجنيه الاسترليني وخروج بريطانيا من آلية الصرف الموحد الأوروبية، مما أدى إلى انهيار الاسترليني، وحقق سوروس أرباحاً طائلة، لذا لقيت تصريحاته اهتماماً، بخاصة أن الدولار احتل مكانته كعملة احتياط عالمية رئيسة بعد إزاحته الجنيه الاسترليني عن هذه المكانة في أربعينيات القرن الماضي، بعد أن أدت تبعات الحرب العالمية الأولى إلى انهيار الاقتصادات الأوروبية بما فيها البريطاني وصعود الاقتصاد الأميركي كاقتصاد رائد عالمياً.
لذا يردد البعض مخاوف مماثلة، بخاصة مع توقعات ضغوط تضخمية هائلة في الاقتصاد الأميركي يخشى أن تهدد مكانة الدولار، لكن معظم الاقتصاديين التقليديين يرون أن تلك المخاوف مبالغ فيها، وأن الأمر يتطلب أكثر من ذلك لتهديد هيمنة الدولار كعملة احتياط رئيسة عالمياً. فعلى رغم كل التحركات من جانب الصين وروسيا، وغيرهما، ليس هناك عملة بديلة بعد تتوفر لها المقومات التي يحظى بها الدولار لتزيحه عن عرشه وتحتل موقع العملة الرئيسة في العالم.