ملخص
لا يستبعد المرء أن يكون "الإخوان" وراء كل تلك المواجهات، ولكن أسبابها لم يفبركها "الكيزان" للعودة إلى الحكم
يقول الشيوعيون عمن أكثر من مؤاخذتهم إنه يعاني "لوثة عداء للشيوعية"، وبدا لي من تحليل الثوريين السودانيين للحرب التي تعركنا بثقالها أنهم مصابون بـ"لوثة كيزانية". و"الكيزان" هو اسم "الإخوان المسلمين" عندهم. وبالطبع لـ"الإخوان" ذنوبهم التي لا تغتفر، لكن ألا ترى غيرهم وحدهم سبباً في النائبات التي تعتريك. فأهل الحراك الثوري مجمعون، على رغم خلافاتهم الشقية، على أن "الإخوان" هم من أشعل هذه الحرب ليعودوا إلى الحكم.
فرصد ثوار الاتفاق الإطاري قبل اندلاع الحرب "النشاط المتصاعد لعناصر حزب المؤتمر الوطني المحلول، وسعيهم الحثيث إلى إثارة الفتنة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، ودق طبول الحرب أملاً منهم بأن يعودوا إلى السلطة مرة أخرى". وهو نفس رأي الحزب الشيوعي، إلا أنه لا يعفي خصومه في "الاتفاق الإطاري" من مسؤولية استثارة الحرب، نظراً إلى مساعيهم لحل الأزمة السياسة "بالهبوط الناعم"، أي بالخضوع للعسكريين والانقياد لهم. ويرى حزب البعث أن "الإخوان" عشموا في الرجوع للحكم بتأجيج الفتنة بين الجيش والدعم السريع. ومن رأي "حركة حق" التي خرجت على الحزب الشيوعي في التسعينيات، أن الحرب ليست بين جنرالين أو فصيلين عسكريين "وإنما هي بالدرجة الأولى حرب النظام البائد بجنرالاته وقادته أجمعين ضد ثورة ديسمبر".
القول إن هذه الحرب صناعة إخوانية خالصة، عداء عشوائي محض لا يحول دون قائله والتحليل المحيط لظاهرة الحرب التي تكتوي بها البلاد فحسب، بل يخلي يده أيضاً من أي حلول لها. فلا يعرف المرء السبيل لإخماد حرب يصفها الثوريون بـ"الفتنة" تارة، و"العبثية" تارة أخرى. فما لم تكن للحرب أسباب يأخذ بها من يريد إيقافها ويدبر لتلافيها صارت الحرب إعصاراً طبيعياً لا مرد له.
ولهذه الحرب مع ذلك أسباب، بـ"الإخوان"، أو بغيرهم، أساسها حقيقة وجود جيشين في طريق لا مهرب منه للصدام، طال الزمن أو قصر. فخالد عمر يوسف، الناطق الرسمي للاتفاق الإطاري، جاء في كلمة أخيرة بطرف من تباينات مضرسة بين الجيش والدعم السريع من وراء هذه الحرب، مؤكداً اعتقاده أن سببها "الإخوان" الذين سيحول "الاتفاق الإطاري" دونهم، ودون العودة إلى الحكم.
فقال بتباينات بين الجيش والدعم السريع ظلت شراراتها تنقدح حتى حين بدا أنهما على حال وفاق تام متحالفين لتطويق الحكومة الانتقالية وكسرها. فعرض لاحتكاكات خشنة متكررة بينهما استدعت تدخل المدنيين لتجاوزها. وكانت عظمة النزاع هو تباين حظوظ ضباط الدعم السريع وجنوده عن حظوظ أقرناهم في القوات المسلحة. فكان الدعم السريع يصرف على أفراده بسخاء أوغر صدر الجيش النظامي. فاختصما في يونيو (حزيران) 2020 وتواجها ليسارع إلى نزع فتيل الأمة اجتماع مشترك بين مجلس السيادة ومجلس الوزراء بحضور السيد الصادق المهدي. وخلص الاجتماع إلى تكوين لجنة مصغرة من ثلاثة لدراسة هذه التباينات بين الجيشين، ومعرفة مخاوف كل طرف لتسوية الأمر. وبلغت حدة تلك المواجهة، في قول خالد، أن زميلاً له قال لأحد العسكريين، "بالله لو قررتم عمل انقلاب لا تفحشوا فتخربوا البلد"، وحدث.
وأطلق عبدالله حمدوك مبادرة في يونيو 2021 عن رأب الصدع في الأمة، واجهها حشد كل من الجيش والدعم السريع قواتهما، ولكن حمدوك وقوى الحرية والتغيير نجحا مرحلياً في نزع فتيل الصدام. ولم تهدأ ثائرة الجيشين حتى خلال انقلابهما على الحكومة الانتقالية في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021. ففي لقاءات "قوات الدعم السريع" مع بعض الدوائر السياسية اعتزل قادتها الانقلاب وقالوا إنه تم بمشاركة من عناصر النظام القديم. وهو خلاف ذكره حمدوك، ضمن خلافات أخرى، دعته لقبول العودة إلى الحكم بعد الانقلاب عليه لأنها مما يهدد استقرار البلاد وأمنها.
لا يستبعد المرء أن يكون "الإخوان" وراء كل تلك المواجهات، ولكنها مواجهات بأسبابها لم يفبركها "الكيزان" للعودة إلى الحكم. وقصارى القول في توزيرهم إنهم وجدوا شقاً فوسعوه.
ليس من بين الثوريين الذين نعرض لموقفهم من الحرب هنا من لم يدع إلى قيام جيش مهني قومي لأنه لا مكان لميليشيات تحمل السلاح خارج المؤسسة العسكرية السودانية (بعد تحريرها من "الكيزان" بالطبع)، ولكن بدا في تحليلاتهم للحرب وأطرافها أنه فات عليهم اعتبار مهنية الجيش باستقلال عن النفوذ السياسي لجماعة ما، مثل "الإخوان" فيه. فلو اعتبر عمر القراي، مدير المناهج الخلافي في الحكومة الانتقالية، مهنية الجيش بغض النظر لما احتفل بما يردده محمد حمدان دقلو، الميليشاوي، عن أنه إنما يقاتل من أجل الحكم المدني الديمقراطي. ولما أجاز له أن يقاتل "الإخوان المسلمين" في "الجيش وكتائب ظلهم وعصابات النيقر (حرامية ومسلحون)" التي أشاعوها للإرهاب وبلغت "لوثة القراي" بـ"الإخوان المسلمين" حد قوله إنه سيأخذ بما يقوله دقلو عن حرصه على الديمقراطية "سواء كان صادقاً أو غير صادق".
وترتب على هذه "اللوثة الكيزانية" بين الثوريين أن اشتروا من العسكريين روايتهم عن "كيزانية" انقلابات ليست كذلك، بل كانت مما حاول القائمون به الدفاع عن مهنية الجيش. ومن ذلك انقلاب اللواء الركن عثمان بكراوي نائب قائد سلاح المدرعات. فأذاع عنه قادة الجيش والدعم السريع أنه "انقلاب كيزاني" في حين تشير كل الدلائل أن من قام به ضباط مهنيون، لقائدهم بالذات موقف معلن من "الدعم السريع"، لقي الجزاءات من قيادته بسببه.
ففي سبتمبر (أيلول) 2021 أعلن مجلس الأمن والدفاع عن إحباط انقلاب قاده بكراوي، واعتقاله و22 ضابطاً وعدداً من الجنود. وأذاع المجلس بأن الانقلاب من صنع أنصار النظام القديم للعودة إلى الحكم. وأوضح وزير الدفاع، الفريق ركن يس إبراهيم، في تصريح صحافي أن التحريات والتحقيقات الأولية أشارت إلى أن "الهدف منه كان الاستيلاء على السلطة وتقويض النظام الحالي للفترة الانتقالية"، مؤكداً أنه تم إجهاض المحاولة في "زمن وجيز بيقظة وتضافر الأجهزة الأمنية". واشترت الحكومة الانتقالية ومناصروها رواية العسكريين عن انقلاب بكراوي بلا تعقيب. فقال رئيس الحكومة، عبدالله حمدوك، خلال اجتماع لمجلس الوزراء إن "تحضيرات واسعة" سبقت المحاولة الانقلابية، وتمثلت "في الانفلات الأمني بإغلاق مناطق إنتاج النفط، وإغلاق الطرق التي تربط الميناء ببقية البلاد". أما المحلل السياسي، عدلان عبدالعزيز، فيعتبر، وفق تصريحاته لموقع "الحرة"، أن "ما حدث محاولة من بقايا النظام السابق لزعزعة استقرار السودان"، مدللاً بـ"محاولات خنق البلاد اقتصادياً، وخلق حالة من الانفلات الأمني بنشر عصابات ممولة من بقايا النظام البائد من أجل تهيئة الشعب لقبول فكرة الانقلاب العسكري". ولم يتأخر العالم عن تبني رواية العسكريين عن الانقلاب، فندد الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في السودان، فولكر بيرتس، في بيان "بأي محاولة سواء كانت انقلابية أو غير ذلك لتقويض عملية الانتقال السياسي الديمقراطية التعددية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع كل ذلك ليس في سيرة بكراوي علاقة بـ"الإخوان"، بل خلا هو من السياسة الحزبية، إلا إذا اعتبرت محبته للمشير جعفر النميري رئيس الجمهورية الأسبق، سياسة. واشتهر النميري مع ذلك عند العسكريين بأنه "جياشي"، كما نقول عمن يخلص للعسكرية ويعتز بها ويجيدها، قبل أن يرتكب الانقلاب في عام 1969، ثم الحكم، حتى أطاحته ثورة في عام 1985. وعرف بكراوي بحب القراءة والشعر والقراءة مولعاً بالانضباط والرياضة وأحرز ميداليات الجمعية الأدبية خاصة في الشعر الغنائي والشعر الشعبي. فما تراه منه من سيرته أنه "جياشي" دخل الكلية الحربية عام 1989 وتخرج ليطلب أن ينتمي للمدرعات على رغم تزكية معلمه في الكلية أن ينتمي للاستخبارات العسكرية. وحارب في الجنوب في عام 1994 ولما انتهت مهمة وحدته هناك، لتعود إلى الرئاسة في الخرطوم أصر أن يبقى هو، حيث هو يحارب في المشاة. ومما عزز استمراره في الجيش، قول زميل له، ليس "كيزانيته"، وهي التهمة لكل من جاء إلى الجيش بعد عام 1989، بل "لإمكاناته الكبيرة وقدرته على المواجهة واتخاذ القرار، فضلاً عن كاريزما القيادة التي اكتسبها من ممارسة التوجيه بالأكاديمية العسكرية العليا، أعلى معهد تعليمي للجيش". واشتهر بصراحة اللسان لا يطيق من يسميهم بـ"المطبلاتية".
وكان بكراوي قائداً للمشاة في مدينة كوستي حين قامت الثورة في ديسمبر (كانون الأول) 2018. ولم يخف رأيه بأن يقف الجيش على الحياد بين النظام والحراك الثوري. فنقلته القيادة إلى المدرعات بالخرطوم في فبراير (شباط) 2019 قائداً ثانياً للسلاح. وثارت ثائرة مهنيته فرفض تمركز قوة للدعم السريع عند المدرعات، في يوم انقلاب الجيش والدعم السريع ضد الرئيس المخلوع البشير. وبدا للناس الآن أن مثل الارتكاز الذي رفضه بكراوي هو ما قبلت به أسلحة أخرى فانتهى الدعم السريع إلى موقع عند أي منها. ومن هذه المواقع أطبق على الجيش في هذه الحرب الدائرة.
ولم يخف بكراوي رفضه لتغول الدعم السريع وسجل موقفه كتابة ورفعه إلى القيادة العامة، ثم قام بتسجيله صوتياً بعد أسبوعين من فض اعتصام القيادة في 4 يونيو 2019. ونشره على وسائل التواصل الاجتماعي لأبناء دفعته في المدرسة الثانوية. وانتقد في رسالته ما سماه "تقاعس قادة الجيش" عن الدفاع عن شعبهم وهو يقتل أمام بوابات القيادة دون أن يحركوا ساكناً في إشارة إلى فض اعتصام الثوار في القيادة. وأدى ذلك إلى إحالته للتحقيق في فبراير 2020 ووضعه في الإيقاف الشديد بسبب ما اعتبر إساءة لحميدتي ورد في تسجيله.
ولما اشترت دوائر الثوريين رواية العسكريين عن بكراوي ضاع دربهم إلى المهنية في الماء.
يعتزل كثير من الجماعات من صف الثورة، الحرب الدائرة ببينة أن طرفيها يقودان حرباً عبثية أثقلت على العباد الذين لا ناقة لهم فيها ولا بعير. وهو موقف بئيس لأنه لا يأخذ فيه بالمهنية في اعتباره في حين يطمع بالحصول على جيش مهني بعد نهاية الحرب أياً كانت نتيجتها. ولربما لهذه الربكة وصفة مثل هذه المخاطرة بالقفز في المجهول.