Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف تحولت الخرطوم في عيون أدبائها؟

كتاب سودانيون يعلقون على تداعيات المدينة المتسارعة جراء اندلاع الحرب

بين فروع النيل نمت الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري وفي شوارع المدينة اندلعت الحرب (أ.ف.ب)

ملخص

كتاب سودانيون يقرأون تحولات عاصمتهم المتسارعة على وقع الحرب

ألقت حرب 15 أبريل (نيسان) بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، بأوزارها على العاصمة الخرطوم، ذات الأجزاء الثلاثة التي يفصل بينها النيل بفروعه: الأبيض، والأزرق، والنيل الرئيس المتكون من جماع النهرين. وبين فروع النيل نمت الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري، كمدينة واحدة تربط بينها 10 جسور.

لجأ كثير من سكان العاصمة، للهرب من الحرب، بعضهم إلى ولاية الجزيرة القريبة جداً إلى العاصمة، وآخرون إلى الولاية الشمالية، وبورتسودان شرق السودان، ومنهم من اتخذ الخروج من البلاد طوق نجاة لماله وعياله، واتجه إلى مصر أو إثيوبيا أو جنوب السودان.

تغيرت ملامح المدينة، والطرقات والأسواق التي دمرت بفعل الحرب، فالمدينة التي كتب فيها وعنها الشاعر المصري، صلاح عبدالصبور، قصيدته "سمرا"، وغنى كلماتها الفنان السوداني سيد خليفة، بمناسبة مؤتمر اللاءات الثلاثة الذي انعقد فيها، عام 1967، لم تعد كما كانت حديقة نيلية يأوي إليها سكان أقاليم السودان لمختلف المقاصد.  

المدينة التي أنشأها الحكم التركي المصري (1820-1885)، وغنى لها سيد خليفة: "ولا هذي ولا تلك ولا الدنيا بما فيها تساوي ملتقى النيلين في الخرطوم يا سمرا"، أضحت خراباً يماثل خراب مدينة سوبا (1504) عاصمة مملكة علوة، آخر الممالك المسيحية في السودان الشمالي. فكيف يرى الكتاب السودانيون الذين عاصروا فعاليات المدينة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً، خرطومهم بعد اندلاع الحرب؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مدينة أشباح حزينة

"ربما قبل الحرب تغيرت ملامح الخرطوم، شوارعها وإنسانها، ومبانيها، خدماتها، وبنيتها، كلها كانت تشير إلى شيء ما"، هذا ما يقوله الشاعر الأصمعي باشري الذي يسكن ضاحية الحلفايا شمالي الخرطوم بحري.

ويؤكد باشري أنه قبل الحرب، بأيام عديدة، كان يرى التغييرات، والإشارات، نذر الحرب. ويقول لـ"اندبندنت عربية": "كنت أصطدم يومياً بجسد الحرب، في شوارع الخرطوم، وفقط ما تبقى لاندلاعها إطلاق الرصاص، رأيت الهلع والخوف في عيون الناس، وفي علاقاتهم، وفي مشاهد التجييش الكثيفة، وفي روح المدينة الخربة، وملامح شوارعها المالحة، فقد تخلت السلطة العسكرية تماماً عن تقديم أبسط حقوق الناس في الخرطوم".

وبعد اندلاع الحرب، يقول باشري، إن الأوضاع ازدادت سوءاً، فدمرت الحرب ما تبقى من الوجه المديني، وصارت الخرطوم مجرد مدينة أشباح حزينة، نزح الناس لأطرافها وبقية مدنها، ودول جوارها، ومن بقي منهم صاروا هلوعين وصامتين، يكابدون شظف العيش تحت وابل الرصاص، وتكدست مشافيها على قلتها بالموتى والمصابين.

ويضيف صاحب المجموعة الشعرية "رصيف طويل للنسيان": "دب اليأس من إيجاد حل، وكل الدلائل تشير إلى طول أمد الحرب، لا أحد من الجنرالات حريص حتى على هدنة تسهم في النجاة، ولا إرادة لإيقاف إطلاق النار، ناهيك بانتهاء الحرب وتحقيق سلام".

ما عادت تعصم أحداً

انصرف بصر الكاتب مأمون الجاك، وهو يغادر العاصمة الخرطوم إلى ولاية الجزيرة، إلى مرأى الورد النائية والطيور التي يسمع حفيفها على رغم ضجة الحرب، ووراءها تتصاعد الأدخنة وتسمع جلبة القتال. وبالنسبة له كان في هذه المشاهد الطبيعية، بينة التضاد مع حال الحرب، إذ يقول، "إن في ذلك شيئاً من عزاء، في كون الطبيعة لم تهجرنا بعد، وإننا ما زلنا في أعينها".

ويستشهد الجاك في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، بشخصية في إحدى قصص الكاتب الأرجنتيني بورخيس حين تقول "عندما كنت في المدينة حلمت بالريف، ولما جئت الريف اجتاحت المدينة أحلامي". ويقول "لعل هذه العبارة تصف بدقة حال أهل الخرطوم الذين أخرجتهم الحرب من ديارهم، فلا أظن أن (الخرطوم) كمكان خضعت لهذا التأمل المطول والمحموم من قبل سكانها مثل خضوعها له الآن، ولا أتيح لها هذا الحضور الساطع في أذهان أهلها كما هو حضورها على التنائي الآن، يرونها -من على البعد- بأعين رققت وأحدت حاستها مدن وقرى التجأوا إليها، وصار كل النشاط البشري والعلائق المتكونة إثره، في العاصمة، موضع تساؤل".

ويضيف "كنت قد قضيت أسبوعاً بعد بداية الحرب في قرية بشرق الجزيرة، وبالأمس جئت عاصمة الولاية (مدني)، ومجرد وجودي في مدينة كان مربكاً، مشهد الأمواج البشرية المتلاطمة جلب إلى ذاكرتي في أسى أسواق الخرطوم وضوضائها التي محا الاعتياد والإلفة المضللة حيويتها حتى صارت غير مرئية ساعة كنت هناك".

ويرى الجاك أن الخرطوم -اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً- لن تعود كما كانت، وسينقضي زمن طويل قبل أن يستعيد أهلها ثقتهم ببعضهم، ويعتبر ذلك أفدح أهوال الحرب: تخريبها لعفوية العلاقات والاطمئنان للمكان، فالعاصمة ما عادت تعصم أحداً.

بكم اشتروا تلك المدرعة؟

يتألم الشاعر والصحافي عماد الدين بابكر، كلما تابع شاشة الأخبار ووجد الخرطوم عاصمة السودان، هي التي تتسيد الأحداث حرباً وقتلاً وتردياً في الأوضاع المعيشية. يقول "مؤلم أن ترى بأم عينك الأندية الثقافية والمنابر والقاعات التي كانت تعج بالحراك وهي قفر، وبعضها ناله القصف مثل تلك القذيفة التي سقطت على النادي الثقافي بجزيرة توتي القابعة بين ملتقى النيلين الأزرق والأبيض". ويتداعى عماد معتصراً الألم "مؤلم أن ترصد أحداثاً ثقافية كانت الخرطوم تنتظرها قبل ذلك.. والألم الأكبر عندما ترى قتيلاً أو مصاباً أو مفزوعاً بالطبع، لكن هذه المباني والأمكنة التي هي في الذاكرة مرتبطة بكل ما هو جميل وثقافي وحركي، وها نجدها وهي في أحسن الأحوال غير آهلة".

ويضيف "حجم الدمار الذي أصاب البنيات التحتية في الخرطوم والفزع والخوف الذي يرتسم في الوجوه، كل هذه الأشياء عصيبة على النفس وبخاصة على النفوس عالية الحساسية وهي تترك آلاماً لا تبارحنا".

خرج الشاعر عماد بابكر بأسرته من مدينة أم درمان، إلى مسقط رأسه بمدينة سنار جنوب شرقي السودان، وفي الطريق رأى مشاهد خروج أعداد كبيرة من قاطني المدينة، فهناك من يركب الشاحنات هرباً وهناك من يمشي على رجليه حاملاً حقيبته لا يدري إلى أين. يتساءل بابكر حين يجد الآليات المحترقة من طرفي القتال في مخارج الخرطوم ووسطها ومداخلها: "بكم اشتروا تلك المدرعة، ومن سيدفع مرة أخرى ثمن هذه الأشياء، ألم تكن خصماً من جيوب الفقراء والمساكين، ألم تكن خصماً من ميزانيات الصحة والتعليم والثقافة، أما كان أولى أن يدخر هذا المال وألا تقوم هذه الحرب؟".

ومع كل تلك المشاهد المأسوية، فهناك مواقف أيضاً تعطي الأمل، وتجعل المرء يحس ببعض الحياة، في نظر بابكر، عندما وجد سكان القرى بين الخرطوم وسنار يتسابقون في إطعام المسافرين وسقيهم الماء، الذين يحملون الناس لوجه الله، ويطعمون المسافرين. ويضيف معلقاً "منظر يسر وسط هذا المشهد الداكن، وكأنها زهرة تنبت في ركام الحرب".

محو طبوغرافي

يقطن الكاتب والمترجم معز الزين، في ضاحية شمبات التي تحفها المزارع النيلية من الغرب والمدينة الصناعية من الشرق، وبالقرب منها يقع أحد معسكرات الدعم السريع بمدينة بحري. وشهدت شمبات في 23 من أبريل الماضي، اشتباكات استخدم فيها الجيش السوداني الطائرات واستخدمت قوات الدعم السريع مضادات الطائرات، مما أدى إلى سقوط ضحايا من المدنيين وهدم المنازل وتدمير السوق المركزية بمدينة بحري.

يقول معز الزين، واصفاً حي شمبات الشهير بمشاركة سكانه الفاعلة في ثورة ديسمبر ضد حكم نظام البشير، إن أهالي أحياء شمبات الجنوبية يعيشون بين زمنين: زمن الثورة وزمن الحرب وما بينهما. ويضيف الزين واصفاً حال قاطني الحي العريق بعد الحرب: "لم يتبق سوى الجلوس أمام البيوت والساحات الداخلية الصغيرة التي تتحلق حولها البيوت من كل الجهات. لقد أدت الاشتباكات إلى انقطاع التيار الكهربائي والمياه منذ بدايات اندلاع حرب الشوارع في مدن الخرطوم الثلاث".

ويقاوم أهالي شمبات الجنوبية فكرة الارتحال والنزوح إلى مكان آخر أكثر أماناً، وكلما زادت حدة الاشتباكات تمسكوا أكثر بالبقاء في حيهم الذي يحده حي الشعبية جنوباً والسوق المركزية شمالاً، كما يشير الزين. ويقول "تمثل روابط القرابة والروابط الاجتماعية عنصراً حاسماً في هذه اللحظة العصيبة، فهي عنصر تمسك بخيار البقاء".

ويلاحظ الزين أن الحرب اليومية أحيت حس القرابة أو عملت على استدعائه كعنصر المشاطرة والقرب والتوحد في وجه الحرب. ويضيف "من مفارقات الحياة أن من تربط بينهم صلة القرابة وظلوا يجاورون بعضهم البعض، كانوا يحتفظون في السابق بخصوصية وجودهم المديني اليومي، مكتفين بشيء من العزلة والهدوء النسبي، وكأنهم يؤكدون لا شعورياً على حسهم أو نمطهم المديني المكتفي بذاته كشرط لازم من شروط العيش في نطاق حضري يمحضهم طابعهم الحياتي الخاص". ويقول الزين "كأنما حالات الحرب اليومية تمعن في استكشاف كل ما هو حميم وإنساني طمرته النزعات المصلحية والتطورات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي ظلت تعيد تشكيل الواقع المديني في مراحل سابقة، فتمنح كل حياة خاصة طابعاً فردانياً ومعزولاً وقائماً بذاته". ويلاحظ الزين أن بعض الجهات من شمبات، قد تحولت إلى بؤرة دائمة من بؤر الاشتباك التي تلغي الحدود بين الأماكن أو تطمس الهويات المكانية للأحياء أو المناطق السكانية.

ويعلق إن "المحو الطبوغرافي وإعادة تشكيل الحدود والأماكن التي يغذيها تحول بؤر الاشتباك من مكان إلى آخر، سرعان ما تعمل على تحويل نطاق الإنسان إلى نسيج شفاف ودامج للحالات الشعورية والإدراكية التي ترسم علاقات جديدة بين الإنسان وبيته والمكان والمجتمع الذي يقيم فيه".  

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة