ملخص
18 جدارية في معرض دمشقي ترسخ ريادة رسام متفرد في التشكيل الحديث
عصافير ميتة وسكاكين مغروسة حتى المقابض في أجسام ورود وأسماك، ومزهريات ووجوه لنساء حالكات الملامح والملابس، أيد مثبتة بالمسامير، وسحنات أطفال قرصها الجوع والبرد والحرمان. عالم تام التكوين بالأبيض والأسود في 18 جدارية، مختلفة الاحجام، يقدمها الرسام يوسف عبدلكي (1951) في معرضه الجديد في "غاليري جورج كامل" في دمشق.
موضوعات الرسام السوري الذي حرص على حضور افتتاح معرضه بقميصه الأحمر، وسط لوحات رسمها بأصابع الفحم وأقلام الرصاص، تكشف للزائر عن خبرات عميقة لهذا الفنان، في التعامل مع عناصر الزمن والحركة والأبعاد في اللوحة. فالعمل الفني بالنسبة إليه ما هو سوى مساحة مليئة بالمشكلات، وعلى الرسام أن يجد حلولاً لها. الجمال الذي يريده صاحب لوحة "أم الشهيد" يبدو أنه لا يتأتى إلا من توتر الخطوط، والابتعاد التام عن تلك الخطوط النظيفة والرخوة والمرتبطة بحلول يشوبها التردد، بل بتلك الاتساخات المقصودة- إن جاز التعبير- في شتى درجات الرمادي، وأنواع الملامس المتباينة.
الأشكال والفراغات، والغامق والفاتح، القريب والبعيد، والحار والبارد. كلها تدخل بدقة في حسابات صاحب جدارية "ثلاثية أيلول"، إذ يعتمد عبدلكي على الخط في تصور الأشكال وتحقيقها في مساحات من الأبيض والأسود والرماديات، ومن ثم التوليف في ما بينهما عبر ضبط إيقاع العمل الفني. وهو أمر مختلف تماماً عن أن يكون الفنان ملوناً، فما يشغل بال هذا الرسام هو التحدي على الصعيد التقني أكثر من أي شيء آخر. وهنا جوهر العمل الذي يخوضه هذا الرسام منذ أن أقام معرضه الفردي الأول عام 1973 في دمشق، ليسافر بعدها إلى باريس لدراسة الفن في جامعة السوربون.
أسود ورمادي
يركز عبدلكي دائماً على كيفية بناء مساحات واسعة من الأسود ودرجات الرمادي المختلفة بحزوز أقلام الرصاص وأصابع الفحم، مبتعداً عما يزاوله الرسامون بلجوئهم في اللوحات الجدارية إلى الألوان الزيتية والأكرليك. ففي أعمال معرضه الجديد يستعمل الرسام السوري مجموعة من الحزم الخطية العنيفة وغير المنتظمة، وكان درج منذ سنوات طويلة على توظيفها في لوحته لكسر نعومة الرماديات وسلسلة التوافقات في ما بينها، إذ يبدو أنه لا يريد للمتلقي أن يسرح أكثر مما ينبغي مع سلسلة هذه الرماديات وجمالياتها وتناغماتها، ولذلك كسرها بحزم خطية قاسية، مستعملاً الضربات الجارحة بأصابع الفحم، ليكون للوحة حضورها، كخطوط مشحونة ومتوترة، وترسم مجموعة أشكال تنوس بين الواقع والتخييل.
تقود الخبرة الشخصية لهذا الرسام دائماً إلى اجتراح مساحاته التشكيلية الخاصة، وانتزاع الدهشة من المتلقي، سواء عبر مبالغة أحجام السواطير والسكاكين والمزج بين قسوة هذه الأدوات وطراوة وردة أو جسد عصفور ميت. إن قوة التعبير هي الحكم في كل هذا التجسيد المأتمي للمأساة السورية، التي برع عبدلكي في تصويرها في صيغة أقرب إلى فيلم تسجيلي صامت، لاعباً على قيم عمله بثنائيات الأسود والأبيض، لتخبو المساحات المضاءة في أعماله، إلا من بعض بقع بيضاء موزعة في أنحاء اللوحة. فاللون الأسود هنا هو سيد المساحة وحاكمها الأوحد، ثم تأتي الملامس والرماديات لإحياء أنحاء العمل، فلا يبقى في النهاية غير بعض بقع بيضاء مبثوثة في بؤرة اللوحة أو حولها، هذا من دون التقيد بالعقل والنظام في توزيع قيم اللون الأبيض ودرجات سطوعه، بل بالاعتماد على حدس الفنان ورغبته في إيجاد حلول بصرية لافتة، وغير متوقعة.
لا يتعمد يوسف عبدلكي الصدمة أو المفارقة أو التناقض في أعماله، بقدر ما يجد أن التركيب البصري للأمكنة والعناصر من حوله، هو على هذه الدرجة من المفارقة، إذ فلا يلغي ذلك وجود دلالات محددة أو واسعة لعديد من العناصر المتناولة في رسومه، فهذا أيضاً جزء من محاولة إمساكه بعديد من التناقضات في حيز واحد، كمثل أعماله "الوردة والمسمار"، "العصفور والسكين"، "الجمجمة والساطور"، "الأيدي المثقبة المصلوبة بالرصاص".
البعد الثالث
كل هذه الأعمال عكست أسلوباً مغايراً في الحياة التشكيلية السورية، وأوضحت علاقة يوسف مع مسألة البعد الثالث في اللوحة. فالمكان في أعماله تحكمه قوانين مختلفة تماماً عن المكان الواقعي، وإن كان ليس بالضرورة على تناقض معه. وعليه مارس الرسام نوعاً من الحرية في مزج مفهوم المكان بمعناه الأوروبي مع مفهوم المكان كما ظهر في الرسوم الإسلامية، جامعاً بين "قوانين رسم المنظور" في كلا المفهومين، وموضحاً جماليات المشهد وتفاصيله، وبانياً تكويناً محكماً. مخالفاً بذلك المشاهدة المنطقية من تراتب للأشياء، أو تراكب واحدها خلف الآخر، بالتالي صغر أحجام الشخصيات مع الابتعاد عن مقدمة المشهد كما في لوحته "لاجئون سوريون في مخيم". يبدو القريب والبعيد في مقدمة اللوحة وعمقها، الرجل والخيم في خلفية المشهد على اختلاف في مقدمتها، حيث تظهر الأم مع ولديها في لقطة أكثر قرباً وشحوباً.
لا يمكن نسب أعمال عبدلكي إلى مدرسة فنية محددة، فهو سوريالي بما يتعلق بفهمه للمكان في اللوحة، وثقل الأشياء واجتماعها على نحو غير منطقي. وهو تجريدي في توزيعه للكتل والإضاءات، إلا أنه يقترب أكثر من المدرسة الواقعية في كل ما يقدم من فهم للأشكال وبناء العمل الفني، ومتابعة بعض التفصيلات التشريحية للشخوص التي يرسمها. فلطالما رفض عبدلكي تأطير عمله ضمن سياق تسميات تعود لفترات سابقة وتجارب فنية ومدرسية مختلفة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تبدو حرية يوسف في بناء المكان والإمساك بالحركة في حيز ثابت، جلية وواضحة المعالم، فما يحكم عمل هذا الرسام هو التصميم من جهة، والتعبير من جهة أخرى. وعليه يمكن أن نجد في عمل ما من أعمال عبدلكي حزمة من الرؤوس والأجسام المتجاورة لا يكون الباعث عليها سوى تكثيف التعبير أكثر في هذه البقعة أو هذا العنصر بالذات من العمل الفني، مع محاولة الابتعاد عن الثرثرة البصرية قدر الإمكان، وإبقاء الرسام على ما يظنه ضرورياً في فضاء اللوحة.
وتتضح القوة التعبيرية في رسوم عبدلكي، وقدرة المواضيع التي يختارها كي تكون مادة لينة لأصابعه، ومطواعة لتنويعاته الشطرنجية بين الظلال والنور. وهذا ما يجعل لمشخصات الرسام سطوة لا يستهان بها في خلخلة القيم الواقعية للشخصيات التي يرسمها، والاتكاء أكثر فأكثر على تغيير الحركة واتجاه النظر بما يخلق علاقة وقرباً مع المتلقي، ويحقق انسجاماً كلياً مع الموضوعات على اختلافها وتباعدها. وهذا ربما ما يفسر ما كتبه الفنان في التقديم لمعرضه: "لم أرسم في أي يوم سمكاً أو عصافير أو سكاكين. كنت دائماً أرسم بشراً. كان محرضي دائماً أن أقول كلمتي جامعة دلالات، وتطلب بصري وقلق ينوس بين السواد المحيق بنا والضياء المشتعل في وجداننا. المقتحم السماء".