ملخص
منبر جدة أسهم بوضع أساس يمكن البناء عليه من خلال تجديد المنبر نفسه أو الاستعانة بمبادئه من قبل المنابر الأخرى لإنهاء الحرب
تستند السبل التي تسلكها منابر حلول الأزمات والصراعات الداخلية للدول إلى الإسهام بشكل إيجابي في عمليات عدة تبدأ من الاتفاق على هدن محددة، ووقف إطلاق النار، والجلوس إلى طاولة المفاوضات بغرض الوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار وتوقيع اتفاق سلام، وكان بإمكان هذه الخطوات أن تقود السودان في صراعه الدائر بين القوات المسلحة بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، إلى نتيجة تكون خاتمتها وصوله إلى سلام دائم، ولكن، اتخذت التعديات على المدنيين في العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث، وحدوث نزاع آخر متولد عن النزاع الأساسي في مناطق أخرى مثل دارفور، من التجاوزات التي وصفت بالإبادة الجماعية في الإقليم المنكوب وسيلة لتصفية الحسابات وفوضى التشفي ليس من الخصم وحده وإنما من المدنيين العزل وعلى نطاق واسع، لكل ذلك بدأ الطعن في شرعية القيادتين العسكريتين.
وإن كانت هذه المنابر انعقدت بناءً على شرعية الدولة في المجتمع والعلاقات بينها وبين مواطنيها، وقدراتها على أداء وظائفها الأساسية مثل سيادة القانون وحفظ أمن المواطنين والممتلكات العامة والخاصة وغيرها، فإن التوقعات العريضة التي صيغت على أساس المضي قدماً بالمبادئ التي رعاها "منبر جدة" بالسعودية، بدأت في التزحزح بعد ذلك، واتجهت قوى دولية إلى الطعن في شرعية الدولة السودانية نفسها، مما شجع أطرافاً إقليمية على إعلان طلب فرض تدخل عسكري في السودان.
ومع تعدد هذه المنابر لوقف الحرب الدائرة في السودان، لكن الاختلاف حول تفضيلات أطراف التفاوض وسط التجاذب بينها، من شأنه تعقيد الوضع أكثر مما هو عليه الآن، ومع ذلك، فربما تتغير النتائج بعد اختتام "قمة دول جوار السودان" في القاهرة، 13 يوليو (تموز)، لتنهي الصراع الذي تسبب حتى الآن في تشريد نحو 2.4 مليون نزحوا داخلياً، وعبر أكثر من 730 ألفاً الحدود إلى بلدان مجاورة، وفق أحدث إحصاءات الأمم المتحدة، وبلغ عدد من عبر الحدود إلى مصر نحو 255 ألفاً، بحسب الأرقام الصادرة عن المنظمة الدولية للهجرة، كما أدت الحرب إلى مقتل ثلاثة آلاف شخص وإصابة ستة آلاف آخرين بحسب وزير الصحة السوداني هيثم إبراهيم.
علامة فارقة
ورعت السعودية والولايات المتحدة، منذ السادس من مايو (أيار) الماضي، محادثات غير مباشرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، نتج منها اتفاق مبادئ أولي وقع الطرفان، في الـ11 من الشهر ذاته، على التزام حماية المدنيين والامتناع عن أي هجوم عسكري قد يسبب أضراراً للمدنيين واحترام القانون الإنساني والدولي لحقوق الإنسان.
ثم عقدت بعده هدن عديدة ولكن شابتها الخروقات وتبادل الاتهامات بين الجانبين بأن الطرف الآخر هو من اخترقها، ونجح مسيرا "منبر جدة" في الضغط على طرفي النزاع في بعض هذه الهدن، مما أسهم في إيصال المساعدات الإنسانية من أغذية وعلاج وتوفير مسار آمن لخروج المدنيين الراغبين في التحرك من العاصمة الخرطوم نحو الولايات الآمنة، وكان ذلك نتيجة لضغط الولايات المتحدة بإيقاع عقوبات على مخترق الهدنة، إذ أكدت تفعيل برنامج مراقبة عليهما، ولكن ما لبث أن عاد القتال بشكل أعنف.
واختتمت القمة العربية الـ32 في الـ20 من مايو الماضي باعتماد "إعلان جدة" الذي أكد "ضرورة التهدئة وتغليب لغة الحوار وتوحيد الصف، ورفع المعاناة عن الشعب السوداني، والمحافظة على مؤسسات الدولة الوطنية، ومنع انهيارها، والحيلولة دون أي تدخل خارجي في الشأن السوداني يؤجج الصراع ويهدد السلم والأمن الإقليميين".
وتعددت المنابر منها الدولية والإقليمية والعربية بغرض وقف إطلاق النار، وفشل بعضها لا سيما الدولية في إيجاد أساس ترتكز عليه المحادثات، لأن الوسطاء الدوليين لم يصلوا إلى قناعة حول كيفية تأثير تدخلاتهم في الداخل السوداني خصوصاً عندما يستقون التقارير التي تبنى عليها القرارات الدولية من محطات إقليمية وليس من أرض المعركة، وعلى هذا الأساس سبق أن كانت تنعقد جلسات مجلس الأمن والأمم المتحدة للنقاش حول النزاعات الأهلية الأخرى مثل حرب دارفور، إذ احتاج المجتمع الدولي لسنوات طويلة حتى يقدم اتهامه بمسؤولية النظام السابق وميليشيات "الجنجويد" عن جرائم "الإبادة الجماعية" هناك.
وعلى رغم تأجيل محادثات جدة، الشهر الماضي، بعد فشل طرفي النزاع في التزام وقف إطلاق النار، فإن "منبر جدة" يعد علامة فارقة وسط المنابر العديدة، وعلى رغم أن الهدن التي تم التزامها قليلة مقارنة مع المجهودات التي بذلت في المحادثات طوال ثلاثة أشهر منذ اندلاع الحرب، فإن "منبر جدة" أسهم في وضع أساس مهم يمكن البناء عليه من خلال تجديد المنبر نفسه، أو الاستعانة بمبادئه من قبل المنابر الأخرى لإنهاء الحرب في السودان وعودة الأمن والاستقرار وحماية المدنيين.
خريطة الطريق
وكان الاتحاد الأفريقي قد طرح، في وقت سابق، خريطة طريق لحل النزاع في السودان بالسعي إلى تنسيق الجهود الإقليمية والدولية لما لدول الجوار من دور "محوري"، وهي المتأثرة به سواء من طريق اللجوء إليها أو انتقال الآثار الأخرى الأمنية والاقتصادية والإنسانية، كما شملت الخطة، "استكمال العملية السياسية الانتقالية بمشاركة جميع الأطراف السودانية وتشكيل حكومة مدنية ديمقراطية في البلاد"، وهذا البند الأخير عدته حكومة الخرطوم ترفاً، في ظل اشتعال الحرب، فاعترضت عليه بحجة أنه لم تتم مشاورتها فيه، إضافة إلى أن الاتحاد الأفريقي رفض إعادة عضوية السودان بعد تعطيلها على أثر الإجراءات التي فرضها المجلس العسكري بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو، في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، وكان ذلك بداية الاعتراض على الحلول الإقليمية، عندما شكلت الهيئة الحكومية لتنمية دول شرق أفريقيا "إيغاد" بجيبوتي، في 12 يونيو (حزيران) الماضي، لجنة رباعية برئاسة كينيا وجنوب السودان وعضوية إثيوبيا والصومال للبحث عن حل للأزمة السودانية، وأعلنت الحكومة السودانية رفضها لها، في الـ19 من الشهر نفسه، واعترضت على رئاسة كينيا لها، إذ وصفت الرئيس الكيني وليام روتو بأنه طرف غير محايد.
ووصل الاعتراض إلى انسحاب وفد الجيش السوداني من مبادرة "إيغاد" التي انعقدت، في الـ10 من يوليو الجاري، ليكون ما تركته المبادرة بقصد أو من دون قصد، وفقاً لموقف الحكومة السودانية هو أن خطواتها تدعو إلى تفاقم الصراع العنيف بدلاً من التخفيف منه، كما أنها تطعن في سيادة الدولة السودانية بدلاً من تعزيزها كموقع لصنع القرار وتشكيل السياسات من خلال سوء فهم الديناميات السياسية لشريكها التاريخي (السودان) مع مجموعة "إيغاد"، وترى قيادة "الدعم السريع" أن الموقف الحكومي يؤدي إلى تعطيل التسوية السياسية مما يضعف الحلول ويشتت المبادرات والجهود الدولية والإقليمية، ويوفر لها حافزاً للانسحاب من أي مبادرة لا ترضى عنها.
آثار جسيمة
وتترقب الأنظار الخطوات التالية بعد اختتام مؤتمر "قمة دول جوار السودان" بالقاهرة، التي شارك فيها رؤساء حكومات مصر وأفريقيا الوسطى وتشاد وإريتريا وإثيوبيا وليبيا وجنوب السودان، وبحضور رئيس الاتحاد الأفريقي والأمين العام لجامعة الدول العربية، ويلخص هدف القمة في "بحث سبل إنهاء الصراع الحالي والتداعيات السلبية له على دول الجوار، وتجنيب السودان الآثار السلبية التي يتعرض لها، والحفاظ على الدولة السودانية ومقدراتها، والحد من استمرار الآثار الجسيمة للأزمة على دول الجوار وأمن واستقرار المنطقة ككل"، وأتت متسقة مع موقف مصر المبدئي المرحب بما جاء به "إعلان جدة" لوقف إطلاق النار وحماية المدنيين وتوفير مسارات آمنة، وظهر ذلك منذ بداية النزاع في استضافتها اللاجئين السودانيين، ومنعها استعمال هذا الوصف لـ"الأشقاء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم أن "منبر القاهرة" جاء متأخراً، فإنه يؤكد أنه سيستمر بالتنسيق مع المسارات الإقليمية والدولية الأخرى لتسوية الأزمة، ويتوقع أن تذهب القمة في المقترحات المطروحة قصيرة المدى مثل إفساح المجال للمساعدات الإنسانية والإغاثية العاجلة عبر دول الجوار، وهناك محطات مرشحة لانطلاق المساعدات الدولية إلى السودان إضافة إلى مطار وميناء بورتسودان، وهي مطار أسوان وميناء أرقين بمدينة أسوان، ومطار أبشي التشادي على الحدود السودانية - التشادية، أما المقترحات البعيدة المدى فهي بذل جهود دولية حول عودة الحياة في الخرطوم إلى طبيعتها، وذلك بالتزام ما جاء في "إعلان جدة" بإخلاء المناطق المأهولة بالسكان من أي وجود عسكري، وإن لم يقف الصراع، فمنع تبادل إطلاق النار داخل الأحياء السكنية.
ووفق البيان الختامي، فإن الخطوة العملية التالية هي "تشكيل آلية وزارية في شأن الأزمة السودانية على مستوى وزراء خارجية دول الجوار، تعقد أول اجتماعاتها في جمهورية تشاد، ثم تعرض الآلية نتائج اجتماعاتها على القمة المقبلة لدول جوار السودان".
دمج المبادرات
وبينما تم إحراز تقدم ملموس في قمة القاهرة، بنيلها رضا أطراف إقليمية ودولية مقارنة مع قمة "إيغاد"، فإنه في ما يتعلق بفهم طرفي النزاع لمتطلبات القمة بشكل دقيق، ربما يسيطر ذلك على اجتماع الآلية المتوقع انعقادها في تشاد، إضافة إلى الخلافات المستمرة وعدم التزام البنود الموقعة.
وأثناء انعقاد "منبر جدة" جدد البرهان تأكيد الثقة في المنبر بما يقود إلى سلام مستدام، ومثله فعل قائد قوات الدعم السريع، ولكن واصلا تبادل الاتهامات، ثم زادت قوات الدعم السريع بأن طالبت، قبل شهر، بدمج المبادرات في "منبر جدة" التفاوضي، ولا يبدو ذلك كاتفاق على موقفهما من المنبر، ولكن كرد فعل من "الدعم السريع" على موقف قيادة الجيش التي رهنت نجاح المنبر بخروج "الدعم السريع" من المستشفيات ومنازل المواطنين والمراكز الخدمية، وذلك حتى لا تفقد المبادرة بالكامل خصوصاً أن لديها مقعداً فيها، وحتى قبل شهر لم تكن القوى المدنية قد تحركت بأي اتجاه، ولكنها برحلتها إلى أوغندا ثم إثيوبيا، نجدها تغلب خيار أن يكون الحل من المنظمة الأفريقية.
وهنا يمكن أن نلمس اختلافاً عميقاً بين هدف "الدعم السريع" وهدف قيادة الجيش الذي انسحب من مفاوضات أديس أبابا، وليس كما يبدو أن هناك اتفاقاً كاملاً بين القوى المدنية وقوات الدعم السريع، فإن اختلافاً طفيفاً يتبلور الآن بين القوى المدنية و"الدعم السريع" في وسائل تحقيق المبادرات وليس في أهدافها، وتحول موقف "الدعم السريع" نحو تأييد مبادرة "إيغاد" والإصرار على عدم تراجع الدور الأفريقي في قضية السودان، يأتي من منطلق تذويب "منبر جدة"، ومبادرة دول الجوار داخل "إيغاد" بتوحيدها أولاً ثم فرض أجندات أخرى، كان "منبر جدة" قد تحاشى التطرق إليها بوصفها تخص الداخل السوداني وأن الأولوية لوقف إطلاق النار والمساعدات الإنسانية، ثم بعد ذلك يقرر ما يود فعله.
أرضية ثابتة
ويبدو أن "منبر القاهرة" يقف على أرضية ثابتة نوعاً ما، وذلك قبل دخول طرفي الصراع في مفاوضات مقبلة، وبعد ذلك يتوقع بروز سيناريوهين، الأول، تحريك "الدعم السريع" مطلب إثيوبيا وكينيا بفرض التدخل العسكري الإقليمي، وقد صدرت الأوامر لقوة إقليمية بالتحرك ولكن عملياً لن تستطيع التنفيذ بغير موافقة حكومة السودان، وما لم يكن هناك خطاب قوي وواضح وصريح بعدم التدخل من قبل الحكومة التي يمثلها قائد الجيش، فإن قائد قوات الدعم السريع ربما يتصرف نيابة عنه، إذ لا تعترف القوى المدنية أو دول "إيغاد" بقرار البرهان بإزالته من منصب نائب رئيس مجلس السيادة.
أما السيناريو الثاني، فإزاحة طرفي الصراع من المشهد السياسي، بإرجاع حكومة عبدالله حمدوك المعترف بها دولياً، ويعبر عن ذلك ظهوره الأخير في أديس أبابا برفقة مولي في مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية، ومن قبلها في مناسبات عدة، على رغم تصريحه بأنه زاهد في العودة ليشغل منصب رئيس الوزراء، ولكن ربما تكون مورست عليه ضغوط غربية ومن "إيغاد" لترتيب هذه العودة.
إن تم ذلك فستترتب عليه إزاحة البرهان من السلطة أو إبقاؤه بعيداً من المشهد إلى حين التخلص منه نهائياً، وخلال هذه الفترة ستكون الأضواء مسلطة على قائد قوات الدعم السريع، في محاولة من القوى السياسية إثبات أنها لا تعادي الجميع، ولكن لن يمر وقت طويل حتى يكون "حميدتي" هو الهدف الثاني للتضحية به من قبل القوى السياسية بعد أن تضمن مقاعدها مع حمدوك، وتستجيب لضغوط الأمم المتحدة لا سيما بعد إعلان مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أخيراً "إن ما لا يقل عن 87 شخصاً، بعضهم من قبيلة المساليت، دفنوا في مقبرة جماعية في منطقة دارفور"، مع تأكيده أن لديه "معلومات موثوقة بأن قوات الدعم السريع مسؤولة عن مقتلهم".
ويتوقف تحقق أي من السيناريوهين على مدى تحرك ونشاط القوى السياسية مع القوى الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي ربما تبدأ في تذويب المبادرات الدولية داخل آلية "إيغاد"، ثم تبلور استراتيجيات جديدة لواشنطن، خصوصاً أنها تأخرت في الاهتمام بالقضية السودانية، وسيكون تركيزها المقبل على صورتها أمام الرأي العام بوصفها راعية الليبرالية الديمقراطية، والابتعاد عما يمكن أن تجلبه لها رعايتها لنظام عسكري في السودان، يموج بالاختلافات، وما يتبع ذلك من وصمة لها نتيجة لتعديات طرفي النزاع خصوصاً "الدعم السريع" على المدنيين، وشبهة الإبادة الجماعية في دارفور.