Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف أصاب المفكر عبدالله العروي في خياره التاريخاني؟

عبدالسلام بنعبدالعالي ينقب في مشروعه ويعقد مقارنات منهجية بين بداياته وراهنه

المفكر المغربي عبدالله العروي (صفحة الكاتب - فيسبوك)

يطرح الناقد المغربي عبدالسلام بنعبدالعالي في كتابه "التاريخانية والتحديث" (منشورات المتوسط)، سؤالاً مركزياً حول تجربة المفكر عبدالله العروي، متعقباً المسار التنظيري والبحثي لأحد أكثر المنقبين العرب في حقل التاريخ. يرتبط سؤال بنعبدالعالي بمسألة لجوء العروي إلى التاريخ من أجل تكوين مواقف هي في الغالب ذات بعد فلسفي. غير أن صاحب "ثقافتنا من منظور التاريخ" يبدو حاسماً في خياره. يقول في هذا الصدد: "إنني، لكي أفكر تفكيراً سليماً، كان عليَّ أن أتخذ توجهاً، وأنجع وسيلة لتحقيق ذلك هي الاحتكام إلى التاريخ، وإلا سيحكم عليك بأن تعمل مثل روكانتان بطل (غثيان) سارتر، فتقرأ وتفكر عشوائياً".

التاريخانية، بما هي احتكام إلى التاريخ من أجل فهم ظواهر تنتمي إلى حقول مختلفة، هي في الآن ذاته ملاذ العروي اتقاءً لكل تفكير عشوائي. وهذا الملاذ اختاره المفكر المغربي منذ كتاباته الأولى، وهو لا يسميه اختياراً، بل قدراً. يعود بنعبدالعالي إلى أحد الكتب المتأخرة للعروي، وهو يتعقب الجواب عن سؤاله عما إذا كان العروي لا يزال تاريخانياً، بعد عقود من إعلانه الانتماء إلى هذا التوجه الفكري. يجد بنعبدالعالي ضالته في كتاب العروي "السنة والإصلاح"، ففي الصفحات الأولى لهذا الكتاب يقول المفكر المغربي: "لا أرى نفسي فيلسوفاً - من يستطيع اليوم أن يقول إنه فيلسوف؟ - ولا أرى نفسي متكلماً، ولا حتى مؤرخاً، همه الوحيد استحضار الواقعة كما وقعت في زمن معين ومكان محدد. لم أرفع أبداً راية الفلسفة ولا الدين ولا التاريخ، بل رفعت راية التاريخانية في وقت لم يعد أحد يقبل إضافة اسمه إلى هذه المدرسة الفكرية لكثرة ما فندت وسفهت".

غير أن عبدالسلام بنعبدالعالي يبحث وراء سطور كتاب "الإصلاح والسنة" عن تلك الثنايا التي جعلته يحس كما لو أن العروي خرج فيها عن تاريخانيته، أو تلك اللحظات التي تجعل القارئ يتساءل عما إذا كان للعروي منهج آخر يتعارض، بشكل خفي، مع المقاربة التاريخانية.

مثقف مهووس بالسياسة وليس سياسياً

يذكرنا بنعبدالعالي بأن العروي منشغل كبير بالسياسة، لكنه ليس سياسياً. وإن كان قد تقلد في مرحلة سابقة مهمة رسمية، وإذ أوكلت له الدولة في عهد الملك الراحل الحسن الثاني مهمة التعريف بقضية الصحراء لدى عدد من الرئاسات العربية والأوروبية، فإن ذلك لم يكن نتاج انضمامه إلى حركة سياسية معينة أو انضوائه تحت لواء حزب معين، بل لقيمته الرمزية ولمعرفته الهائلة بالتاريخ المغربي وبالمسألة السياسية عموماً. وفي عز انشغاله بهذه المهمة ظل يواصل تأملاته الفكرية وتحليلاته التي ظهرت في كتابه "خواطر الصباح"، والحقيقة أن العروي استغل تلك المهمة الدبلوماسية واستثمر معطياتها في أعماله الفكرية. يؤكد بنعبدالعالي أن عبدالله العروي وإن لم يكن منخرطاً في الحياة اليومية السياسية إلا أنه محلل مهووس بالسياسي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إن التاريخانية ليست منهجاً متعالياً عن اليومي الذي يشغل الناس، فالعروي قادر على صهر المرجعيات الفكرية من أجل قراءة الراهن السياسي أيضاً. فما يعيشه الفرد اليوم هو نتاج تراكمات سابقة، بالتالي فإن قراءة الحاضر تستدعي بالضرورة استعادة السياقات التاريخية التي أنتجت هذا الحاضر وشكلت عناصر الصورة التي يتجلى بها.

انفتح العروي في تحليلاته وتأملاته على قضايا وطنية كبرى من قبيل: الديمقراطية والتعليم والثقافة والتعريب، ولم يكن منشغلاً بالحياة السياسية والقضايا العامة في المغرب فحسب، بل ناقش أيضاً ما يمكن أن نسميه الماكرو- سياسة في العالم العربي. المسألة اللبنانية - السورية مثلاً، والحرب العراقية - الإيرانية، ودخول الجيش العراقي إلى الكويت. ويعلن بنعبدالعالي أن العروي في مختلف نقاشاته وتفكيكه للأحداث المغربية والعربية لم يكن منحازاً إلى جهة دون أخرى، إذ توخى الحياد وتوسل الموضوعية في مقارباته، لذلك منحه لقب "محلل من بعيد".

لكن المحلل المحايد كان ناقداً "قاسياً" للحياة السياسية في المغرب، فقد وصف الأحزاب بأنها عاجزة حتى عن تجديد قياداتها، وانتقد تراجع وخفوت المعارضة. لم يتوقف العروي عند الأحزاب السياسية، بل توجه بنقده إلى الدولة أيضاً، فحين يقف عن أسباب الركود والتخلف يصرح بما يلي: "السبب واضح، الدولة تعلم الناس الكسل والخمول". يشبه العروي البناء الديمقراطي بعمارة تتشكل من طوابق عدة: الدستور، قانون الانتخاب، تركيبة البرلمان، مسؤولية الحكومة، جدية الإدارة، حرية الصحافة، وعي المواطنين. وهذه الطوابق تدخل في علاقة نسقية وتفاعلية بعضها مع بعض، "لا يجدي ترميم طابق، بل يجب إصلاح المبنى كاملاً، وبكيفية متناسقة".

 

 

بين الموضوعية واليأس

غير أن العروي الحكيم والهادئ، وفي غمرة قراءاته للواقع السياسي وللحياة العامة في المغرب، يجد نفسه أحياناً على حافة اليأس، ينقل لنا بنعبدالعالي هاته العبارة العميقة للعروي من "خواطر الصباح": "يبدو أن ما كنت أشعر به من إرهاق لا يعدو أن يكون تضايقاً من جو المغرب الخانق، من انسداد الأفق أمام الجميع".

يعود بنعبدالعالي إلى كتاب "من ديوان السياسة" للعروي ليضيء هذا اليأس الفكري، ويقسم قراء الكتاب إلى فريقين: من يحس بالنبرة التشاؤمية للمفكر المغربي، ومن يرى أن الأمر لا يخرج عن نطاق التشريح الصريح والقراءة الواقعية.

لقد واصل العروي تاريخانيته وهو يعمد إلى ترتيب عناصر "من ديوان السياسة" وفق ترقيم تسلسلي، يروم من خلاله تأكيد أهمية ترتيب الأحداث التاريخية المتراكمة من أجل تفسير واستيعاب نتائجها الراهنة، ومن تم تفكيكها ونقدها. إن تقدم اليمين وتراجع اليسار في المغرب نجم عنه خطاب يدعو إلى "الخضوع والانقياد"، والرتابة السياسية الراهنة هي نتيجة انتكاسات فكرية متعاقبة. يصف العروي الشعارات الكبرى لمرحلة سابقة بالأوهام، ويستحضر منها "الاقتصاد كقاطرة للتنوير، الطبقة العاملة كطليعة للإنسان المنتج الحر، المثقفين كأنصار العقل والعدل".

إن ما يبدو يأساً عند المفكر المغربي المعروف ليس بالضرورة خطاباً يفضي إلى العدمية، بل إنه خطاب يأتي من مناطق التنبيه والتحذير، لا يتوخى التوافق مع التراخي أو الكسل العاطفي، بل يجنح جهة العقل المتيقظ أو ما يسميه العروي "العقل التاريخي"، بالتالي فكل حركة تروم الخروج من دائرة الركود عليها بناء خطاب عقلي قادر على فهم واستيعاب التعاقبات التاريخية قبل استقراء الحاضر ومقاربته.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة