ملخص
بعد مقتل بريغوجين ظهرت تكهنات بأن المجموعة ستقودها شخصية أكثر ولاء لموسكو وربما تغير اسمها
ربما كان آخر ما تتذكره المنصات الإعلامية المختلفة لزعيم تنظيم "فاغنر" يفغيني بريغوجين، قبل وفاته في حادثة تحطم طائرته الخاصة من طراز "إمبراير ليغاسي 600"، الذي وقع في منطقة تفير شمال موسكو وفي طريقها إلى مسقط رأسه في سان بطرسبورغ، هو ظهوره في مقطع فيديو نشره على قناته في "تيليغرام"، الإثنين الماضي، أوضح فيه أنه موجود في منطقة درجة حرارتها تفوق 50 درجة مئوية، وذكر أن مجموعته تجري أنشطة استطلاع وبحث، ما يجعل روسيا أكثر قوة في كل القارات، وجاء على ذكر القارة الأفريقية مصرحاً بأن "أفريقيا أكثر حرية، العدل والسعادة للأمم الأفريقية، نحارب القاعدة وداعش والجماعات الأخرى"، وذكر أنهم "ماضون في عمليات التجنيد ونستمر في تنفيذ المهام التي تم تكليفنا بها وتعهدنا بالقيام بها".
وقبل ذلك، ظهر أيضاً في حدث ذي علاقة بأفريقيا وهي "القمة الأفريقية - الروسية" التي عقدت في أواخر يوليو (تموز) الماضي، في سان بطرسبورغ حيث صور وهو يصافح السفير فريدي مابوكا، أحد كبار المسؤولين في جمهورية أفريقيا الوسطى.
وفي يوليو أيضاً، نشر شريط فيديو على حسابات مقربة من "فاغنر"، عبر "تيليغرام"، طلب فيها بريغوجين من عناصره الاستعداد "لرحلة جديدة إلى أفريقيا" حيث تنشط "فاغنر" في عدد من دول القارة، أبرزها أفريقيا الوسطى ومالي حيث تقوم بحماية السلطة والمناطق الغنية بالموارد الطبيعية مثل الذهب والماس واليورانيوم، وتجارة الأخشاب النادرة والسكر، بعد تعرضها لهجمات نفذتها الجماعات الإرهابية، ونزاعات بين هذه الجماعات والمتمردين والسلطة، كما تعرض تدريبات عسكرية وتقدم خدمات للأنظمة، وتتقاضى المجموعة أجرها من الموارد المحلية لا سيما مناجم الذهب ومعادن أخرى.
تركيز على أفريقيا
قبل تمرده بأشهر قليلة، بدأ زعيم "فاغنر" بانتقاد الطريقة التي يمارس بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحرب في أوكرانيا، وحاول الإطاحة بوزير الدفاع سيرغي شويغو، ورئيس الأركان العامة فاليري جيراسيموف. وبعد ذلك، نفذ تمرده ضد قيادات الجيش الروسي يومي 23 و24 يونيو (حزيران)، عندما سار إلى موسكو مع قواته وسيطر على منشآت عسكرية في مدينتين، وسط خلاف مع قادة الجيش. وهو تمرد وصفه الرئيس الروسي بـ"الخيانة" وأنه "تلقى طعنة في الظهر"، و"كان ليلقي بروسيا في هوة حرب أهلية". وقال بوتين أيضاً "فاغنر لا وجود لها، لا وجود لقانون خاص بالمنظمات العسكرية الخاصة"، لكن ذلك التمرد انتهى بالتفاوض وإبرام صفقة مع الكرملين بموافقة بريغوجين على الانتقال إلى بيلاروس التي قادت الوساطة، وبعد أسبوع التقى بوتين قائد "فاغنر"، وعرض على مقاتلي المجموعة الانضمام إلى القوات النظامية أو العودة إلى الحياة المدنية أو المغادرة مع قائدهم إلى بيلاروس، وكان الانتقال إلى أوسيبوفيتشي ببيلاروس جزءاً من الاتفاق لإنهاء التمرد المسلح.
ومن هناك حيث استقبل رجاله قال بريغوجين في فيديو مصور إنهم "لن يقاتلوا بعد الآن في أوكرانيا لأن ما يحصل على الجبهة عار ولن نشارك فيه"، وطلب بريغوجين من قواته تدريب الجيش البيلاروسي والاستعداد "للتوجه مجدداً إلى أفريقيا"، وتركيز بريغوجين على أفريقيا خصوصاً في أيامه الأخيرة، أثار تساؤلات حول عمليات "فاغنر" المستقبلية في القارة السمراء بعد مقتله.
توسيع النشاط
نظراً لحداثة تأسيسها عام 2014، فإن الدور الذي لعبته مجموعة "فاغنر" غير الرسمية يعد أكبر مما تلعبه عادة الكيانات التابعة للجيش أو أي جهة رسمية في الدولة، وأسهمت مشاركتها أثناء ضم روسيا شبه جزيرة القرم في إكسابها هذا الزخم، ثم توسيع أعمالها في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا التي ينشط فيها الآلاف. ففي عام 2018، نشرت "فاغنر" نحو ألفي مقاتل في جمهورية أفريقيا الوسطى على خلفية الحرب الأهلية هناك، وظلت "فاغنر" تجني أرباحاً ضخمة من الأخشاب الاستوائية النادرة ومناجم الذهب وصناعة الكحول. وفي عام 2019، نشرت "فاغنر" نحو 160 مقاتلاً في موزمبيق في منطقة كابو ديلغادو الغنية بالغاز وذات الغالبية المسلمة، كما دعمت وجودها لاحقاً بخلية حرب إلكترونية تقدم خدمات للحكومة هناك، بعدما تزايدت الهجمات التي تنفذها المجموعات الموالية لتنظيم "داعش"، كما نشرت عناصرها في الكاميرون وبوركينا فاسو وغيرها.
وفي السودان، خلال السنوات الأخيرة من حكم الرئيس السابق عمر البشير، منحت تصاريح مناجم الذهب إلى شركة "أم-إنفست" الروسية التي كانت تخضع لسيطرة زعيم المجموعة يفغيني بريغوجين، ومن خلال تلك الخطوة حصلت "فاغنر" على مهمة تأمين مناجم شركة "أم-إنفست" في السودان بالشراكة مع "مروي غولد"، ومهد لذلك اللقاء بين البشير وبوتين في سوتشي عام 2017، وكان البشير قد طلب من بوتين الحماية من الولايات المتحدة وتقديم دعم عسكري مقابل تشييد قاعدة عسكرية في البحر الأحمر والشراكة في التنقيب وتعدين الذهب.
كما توجد القوات في ليبيا حيث أسهمت المجموعة في حماية حقول النفط الليبية في المناطق التي تقع تحت سيطرة المشير خليفة حفتر، عام 2014. وفي دولة مالي حيث أبرم المجلس العسكري الذي تشكل هناك اتفاقاً أمنياً معها لحمايته وتوفير الدعم له بعد انسحاب الجيش الفرنسي.
إمبراطورية "فاغنر"
يتعدى نشاط مجموعة "فاغنر" تقديم الخدمات العسكرية الخاصة، إلى تأسيس شبكة من العلاقات بشراكات مع مختلف البلدان الأفريقية، وظلت الدول الأفريقية تدفع مقابل خدماتها حقوق التعدين أو قابلية الوصول إلى الأسواق، ولعل الاسم الذي أطلق على قناة "فاغنر" الخاصة في "تيليغرام" "غراي زون" يعبر عن عمل المجموعة في المنطقة الرمادية التي تحتوي على أنشطة غير قانونية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال بيتر بومونت أحد كبار المراسلين في مكتب التنمية العالمية التابع لصحيفة "الغارديان" "اعتمد جزء كبير من إمبراطورية فاغنر الأفريقية، التي جمعت بين عمليات التضليل والمصالح التجارية الغامضة وأعمال المرتزقة، على العلاقات المشبوهة التي أقامها بريغوجين ورفاقه المقربون على مر السنين". أضاف "كانت هناك اقتراحات بأن تقدم فاغنر المساعدة في المجلس العسكري في مالي، وهي خطوة أسهمت في قرار فرنسا بإنهاء العملية العسكرية التي استمرت قرابة عقد من الزمن هناك"، وبناء على ذلك، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على بريغوجين وصنفت مجموعته، في يناير (كانون الثاني) الماضي، على أنها منظمة إجرامية عابرة للحدود. واتهم جيش أفريقيا الوسطى وحلفاؤه من تنظيم "فاغنر" بارتكاب جرائم، وأعلن الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات جديدة على عدد من مسؤولي المجموعة، كما فرضت بريطانيا عقوبات على 13 شخصية وشركة متهمة بالضلوع في جرائم بينها "إعدامات وأعمال تعذيب في مالي وأفريقيا الوسطى وكذلك تهديد السلم والأمن في السودان"، كما فرضت كندا عقوبات جديدة على 39 فرداً روسياً و25 كياناً تشمل جهات تابعة للمجموعة.
قيادة مستقلة
ولأول وهلة يبدو تمرد بريغوجين على بوتين، بمثابة بداية النهاية له ولنشاط مجموعة "فاغنر"، إذ أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن مستقبل المجموعة في أفريقيا سيكون رهناً فقط بـ"الدول المعنية"، وبعد مقتل قائدها ظهرت تكهنات بأن المجموعة ستقودها شخصية أكثر ولاء لموسكو، وربما تغير اسمها أو تحول بالكامل لشركة روسية أخرى لتملأ الفراغ الذي ستتركه "فاغنر"، وتحقق أهداف بوتين في أفريقيا، كما أن هناك احتمالاً آخر، لكنه يعتمد على أنه إذا كان بريغوجين قد أعد جيداً لهذه اللحظة، فإن مجموعته ستحاول الخروج على أوامر روسيا، وتعمل بقيادة مستقلة ولكن بدعم خارجي.
وقال جيسون بيرك مراسل صحيفة "الغارديان" في أفريقيا "يمكن أن يكون لمقتل مؤسس وزعيم مجموعة فاغنر عواقب وخيمة على طاقم متنوع من الأنظمة وأمراء الحرب في أفريقيا، ولكن أيضاً سيؤثر في القارة". وأشار بيرك إلى أن "وفاة بريغوجين قد تعزز وضع بوتين يده بيد الجهات الفاعلة القوية التي اعتمدت على شبكة فاغنر من الشركات الغامضة والقوات شبه العسكرية لتعزيز قوتها وإقناع الآخرين الذين ربما يفكرون في القيام بالشيء نفسه".
من جانبه، ذكر بنجامين روجر، وماتيو أوليفييه في موقع "أفريكا ريبورت" أن بريغوجين "كان بصدد التواصل مع حلفائه الأكثر موثوقية داخل أفريقيا، خصوصاً في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، الذين يسهمون بشكل كبير في عمليات مجموعة فاغنر، وبعد تمرده الفاشل ضد نظام بوتين، ركز بريغوجين ونائبه ديمتري أوتكين على مشاريعه الأفريقية حيث كان يخطط إلى أن يقود ما بين ثلاثة وأربعة آلاف رجل متمركزين في ليبيا والسودان وأفريقيا الوسطى ومالي"، ونوه بأن الثقل الاقتصادي والجيوسياسي في القارة لـ"فاغنر" كأشهر شركة عسكرية خاصة يحميها من أن تشطب بسهولة.
ووفقاً لذلك نوقشت أربعة سيناريوهات متوقعة لعمل مجموعة "فاغنر" بعد مقتل زعيمها، السيناريو الأول أن تعمل المجموعة بشكل مستقل عن موسكو، ولكن ذلك يمكن أن يؤدي إلى تحديات ومخاطر منها تضارب الأهداف أو الإجراءات التي لا تتوافق مع السياسات الرسمية لروسيا. والثاني تفكك المجموعة، وهنا إضافة إلى فقدانها دعم روسيا، فإنها ستفقد مقومات نشاطها في أفريقيا، وقد يؤدي الضعف في كل الأحوال إما للسيناريو الثالث والمتمثل في اندماج مجموعة "فاغنر" مع شركة شبه عسكرية أخرى لتواصل نشاطها في أفريقيا بتقديم خدماتها الأمنية مقابل ضمان حقوقها من التعدين وغيره، أو السيناريو الرابع بانسحاب "فاغنر" من أفريقيا، ما من شأنه أن يفتح الباب لدخول شركات أمنية أخرى تعيد ترتيب التحالفات في المنطقة أو تشعل صراعات أخرى.
وريثة الأوليغارشية
من ناحية أخرى، نجد أن هناك من استبعد هذه السيناريوهات بالتركيز فقط على السيناريو الأول، بحكم أن مجموعة "فاغنر" وريثة الطبقة الأوليغارشية التي جمعت ثروات طائلة من الداخل والخارج وهيمنت على الاقتصاد الروسي، وسيطرت على السياسة لسنوات قبل صعود بوتين، فإنها من الصعب أن تتنازل عن المكاسب المتحققة من الموارد الأفريقية، وفي ذلك قال بن جودا الزميل في "المجلس الأطلسي" ومؤلف كتاب "الإمبراطورية الهشة"، إن بوتين "وعد بكبح جماح الأوليغارشية في روسيا خلال حملته الانتخابية الأولى للرئاسة، ففي عام 2003، اعتقل وسجن ميخائيل خودوركوفسكي الذي كان يمتلك 78 في المئة من شركة يوكوس النفطية الروسية الضخمة، وكان في ذلك الوقت أغنى رجل في روسيا. واتهم خودوركوفسكي بارتكاب جرائم مالية، لأنه كان يمول أحزاباً معارضة لبوتين". أضاف "من تلك الحادثة وغيرها، أدرك الأوليغارشيون أنهم يمتلكون ثروات طالما أراد بوتين امتلاكها، وعليه، تغير نهجهم بالكامل في السياسة، كما زاد ذلك دافعهم للحصول على مزيد من الثروة خارج روسيا".
وفي السياق ذاته، قالت كاترينا دوكسسي زميلة في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن "على رغم أن مستقبل فاغنر كان موضع تساؤل خلال الشهرين الماضيين، فإنه لا يزال من غير المرجح أن تتخلى روسيا عن نموذج الشركات العسكرية الخاصة تماماً، نظراً لأنه يوفر فوائد كبيرة بكلفة مالية أو سياسية منخفضة نسبياً". وأكدت دوكسسي أن "من غير المرجح أن تقوم موسكو بتفكيك البنية التحتية التشغيلية لفاغنر في البلدان المضيفة حيث سيكون من الصعب إعادة بناء العلاقات والمعرفة والأنظمة نفسها التي أنشأها موظفو فاغنر على مر السنين، علاوة على ذلك، هناك أدلة على أن فاغنر واصلت التوسع في نشاطها، وبدلاً من حل فاغنر أو استبدالها، من المرجح أن تقوم روسيا بتثبيت قيادة جديدة لفاغنر، تتمتع بولاء أقوى للكرملين وتظل تحت إشراف أكثر صرامة من بريغوجين، الذي سمح له بكثير من السلطة والمسؤولية". وتابعت "من المرجح أن تسعى روسيا إلى مواصلة نموذج الشركات العسكرية الخاصة في مجال السياسة الخارجية والمساعدة الأمنية، ولكن من خلال سوق شركات عسكرية متنوعة، بعيداً من احتكار فاغنر لمنع تكرار تحدي بريغوجين وتمرده على الكرملين".
تهديد محتمل
أما في ما يتعلق بشركاء "فاغنر" المحليين في أفريقيا الذين يعتمدون عليها لحمايتهم، فقد يتيح هذا الوضع الجديد الفرصة لهذه الدول لاستكشاف حلول مع هذه المجموعة أو بديلة عنها، وعن مستقبل فاغنر في أفريقيا قالت راما ياد مديرة المركز الأفريقي التابع لـ"المجلس الأطلسي" "مقتل بريغوجين لن يغير أي شيء في خطط موسكو، بل على العكس تخلص بوتين من تهديد مستقبلي محتمل، إذ لا يمكنه الوثوق مرة أخرى في بريغوجين بعد تمرده، وحتى بعد نفيه، كما أن الكرملين يحرص على الحفاظ على مصالحه التجارية والأمنية في أفريقيا". وأكدت ياد أن "من الواضح أن مصالح الحكومة الروسية ومجموعة فاغنر لم تعد متوافقة، وتشكل أفريقيا عنصراً أساسياً في استراتيجية بوتين في أوكرانيا وهي إثبات أنه ليس معزولاً، وكذلك حتى يتمكن من التحايل على العقوبات الاقتصادية الغربية، وإعادة الإعمار".